كذلك كانت نفس «استيفن» بعد نزول تلك النكبات به، فإنه لم يجزع ولم يتألم، ولم يعبث اليأس بقلبه، بل فارق «كوبلانس» كما دخلها: ساكن النفس، مطمئن الضمير، مملوء القلب ثقة وأملا، فلم يزل سائرا بقية ليلته يطوي الأرض على قدميه طيا حتى مشت في جلدة الظلام أشعة الفجر، فالتفت فإذا بقية من شبح «كوبلانس» لا تزال ماثلة، فألقى عليها نظرة واجمة مكتئبة ثم قال: الوداع أيها القوم الذين طردوني من بينهم، ولم يزودوني لقمة واحدة أتبلغ بها في طريقي، ولا دابة أحمل عليها حقيبتي، ولا كلمة طيبة آنس بها في مطارح غربتي، لقد نبذت حبكم من قلبي نبذ الفم النواة، ونفضت يدي منكم نفض المودع يده من تراب الميت، فأصبح قلبي وضميري وحبي وحناني ونفسي وحياتي وكل ما تملك يدي ملكا خالصا لذلك الإنسان الذي أحبني وأحببته، ووفى لي من دون الناس جميعا ووفيت له، لا ينازعه في منازع، ولا ينزل معه في سويداء قلبي نازل، وسيكون حبه مناري الذي أهتدي به في ظلمات حياتي حتى أبلغ ذروة السعادة التي أطلبها لنفسي، وهنالك ترون أيها القوم الجفاة القساة أن ذلك الفتى الخامل المسكين الذي وقف بينكم بالأمس مهينا ذليلا لا يكاد يرفع طرفه إليكم حياء وخجلا قد أصبح رجلا نابها عظيما غنيا بماله وجاهه عن مالكم وجاهكم، وسعيدا بين أهله وأولاده سعادة لا يحفل من بعدها بنسبكم ولا برحمكم.
ثم مشى في طريقه يعلل نفسه بالآمال الحسان، ويرسم لمستقبل حياته ما شاء من الخطط والنظم، وكان كلما ألغبه المسير دفع إلى أصحاب العجلات المارة في طريقه تحمل الأثقال درهما أو درهمين؛ ليحملوه على عجلاتهم أو يأذنوا له بالجلوس في مؤخرتها ساعة أو ساعتين، ثم يعود إلى شأنه الأول، حتى وصل عند مجتنح الأصيل إلى «جوتنج»، وهي البلدة التي تعلم في مدرستها، وقضى فيها أكثر أيام صباه. (31) النفس الشعرية
ذهب «استيفن» ساعة هبط «جوتنج» إلى أستاذه القديم في الموسيقى «هومل» ليفضي إليه بشأنه، ويستعين به على قضاء حاجته، وكان له بمثابة الأب الرحيم، يحبه ويكرمه ويؤثره على تلاميذه جميعا، فلما وقف بين يديه عقل الحياء لسانه، فلم يستطع أن يقول له شيئا، وكذلك شأن أصحاب النفوس الشعرية، يملأ الشعر نفوسهم عزة وخيلاء، فتملأ العزة وجوههم حياء وخجلا، فلا يذلون ولا يضرعون، ولا يجرءون على شيء مما يجرؤ عليه الناس جميعا كأن تحليقهم الدائم في سماء الخيال وطيرانهم في تلك الأجواء العالية غادين رائحين قد مثل لنفوسهم أنهم يعيشون في ملأ أرفع من الملأ الذي يعيش فيه الناس، فإن عرضت بهم حاجة من الحاج أبوا وأنفوا أن يسألوها أحدا من سكان الأرض، ذهابا بأنفسهم من مواطن الضعة والمهانة، وضنا بأديم وجوههم أن يخلقه السؤال، وكذلك يعيشون فقراء، ويموتون بؤساء.
لذلك لم يستطع «استيفن» أن يفضي بحاجته إلى أستاذه في المقابلة الأولى، فزعم أنه إنما جاءه ليتلقى عنه دروسا في الموسيقى، وظل يختلف إليه أياما يسمع غناءه ويحفظه عنه، حتى جرى بينهما يوما من الأيام ذكر الحياة والمستقبل، فسأله أستاذه عما رسم لنفسه من الخطط في مستقبل حياته، فقال: لا أدري حتى الساعة، فقال: لا أعرف لك سبيلا غير هذا الفن الذي تحبه وتستهيم به، وأرى أن غرامك به سيجعلك غدا من أصحاب الشأن العظيم فيه، فنفض له «استيفن» إذ ذاك جملة حاله، وصارحه برغبته التي يريدها، فوعده بمساعدته والأخذ بيده، فانصرف مغتبطا مسرورا. (32) من ماجدولين إلى استيفن
لم أستطع أن أكتب إليك منذ شهرين؛ لأني كنت مريضة، وسأقص عليك قصة مرضي: خرجت ذات ليلة لألقي برسالة كنت كتبتها لك في صندوق البريد في قرية «هال»، فلما أبعدت عن «ولفاخ» وغاب عني شبحها وأصبحت في منتصف الطريق بينها وبين «هال» هبت علي ريح عاصفة شديدة دوت بها جوانب الأفق، وقعقعت لها قبة السماء حتى حسبتها توشك أن تنقض، وأخذت تجاذبني ثوبي مجاذبة شديدة، كأنما تأبى إلا أن تنتزعه مني أو تنتزعني معه، فحدثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت، ثم ذكرتك وذكرت أنك تنتظر رسالتي، فاستمررت أدراجي، ومشيت في طريقي أتيامن من الريح مرة وأتياسر أخرى، وأندفع متقدمة وأكر راجعة، فمن رآني في تلك الساعة خيل إليه أنه يرى فتاة بائسة مرزأة، قد لعبت النار بأثوابها وعلقت بأطرافها وأوصالها، فهي تهيم على وجهها في كل مكان تطلب الخلاص مما هي فيه فلا تجد إليه سبيلا، فلم أصل إلى تلك القرية إلا بعد ساعتين، فألقيت الكتاب في الصندوق ثم رجعت، وكانت العاصفة قد هدأت قليلا، ولكنها ما هدأت إلا لتفتح الطريق إلى الغيث الهاطل، فلم تهدأ ثورتها حتى ثار ثائره وأخذ يتساقط سقوطا شديدا، فابتل ردائي، ومشت الرعدة في جميع أعضائي، واشتدت ظلمة الليل فما أكاد أهتدي إلى طريقي، ولقد حدثتني نفسي لشدة ما نالني من التعب والإعياء، وما ملأ قلبي من الخوف والوحشة، أن أسلم نفسي إلى كنف من أكناف الهضاب أو سفح من سفوح الجبال أنتظر فيه منيتي حتى توافيني، فحال بيني وبين ذلك أني أريد أن أحيا لك، وأتولى شأن سعادتك التي عاهدتك على أن أتولاها لك، وأني إن قتلت نفسي قتلتك معي، فبعث ذكرك في نفسي قوة غالبت بها الطبيعة وعواصفها وثلوجها، وبروقها ورعودها، حتى بلغت المنزل بعد لأي، فسقطت مريضة محمومة.
ولقد كابدت في مرضي شدة عظمى لم أر مثلها فيما مر بي من أيام حياتي، حتى دب اليأس في نفسي دبيب المنية في الأجل، وظننت أني لا بد هالكة، وأني لا أراك بعد اليوم، فلم يكن يحزنني في تلك الساعة شيء سوى أنك ستسمع بخبر موتي، ولا تسمع معه أنك كنت الإنسان الوحيد الذي كنت أفكر فيه في ساعتي الأخيرة، فحاولت أن أكتب إليك كتاب وداع أبثك فيه بعض شأني فلم أستطع، ثم شعرت في فترة من فترات السكون التي تتخلل سكرات الحمى أني أستطيع النهوض من فراشي، فكتبت إليك كتابا أوصيت لك فيه بجميع ما تملك يدي، وما تملك يدي إلا كتبي ومحفظة رسائلك، والخاتم الذي نسجته من شعرك، وذخيرة من الذهب ورثتها عن أمي، وهي أعز الأشياء عندي، وكيسا صغيرا يشتمل على بعض قطع فضية وذهبية مما كنت أستفضله من نفقاتي، ثم طويت الكتاب وأعطيته لجنفياف لتوصله إليك بعد موتي، ولكن الله كان أرحم بي وبك من أن يحرمني منك ويفجعك بي، فمد إلي يد معونته وإحسانه واستنقذني من مخالب الموت، فحمدت له منته ونعمته، ولقد بكيت كثيرا عندما أعدت النظر في تلك الوصية المكتوبة؛ لأني تمثلت حزنك وتفجعك وخيبة آمالك لو قدر لك أن تقرأها، فرثيت لك مما بك وبكيت لبكائك.
رجائي عندك يا «استيفن» أن تكتب إلي عنوان أخيك في الجيش؛ لأني أريد أن أبعث إليه بهدية أخطب بها وده إكراما لك، فقد أصبحت أحبه من أجلك حبا كثيرا، وأترقب بفرح وسرور ذلك اليوم الذي يضمنا وإياه بيت واحد، تحت سماء واحدة.
لا يحزنك يا «استيفن» ما قصصت عليك، فتلك حادثة ماضية قد ذهبت وانقضت، ولم يبق منها في نفسي حتى آثارها، فليذهب الماضي بخيره وشره، وليأت لنا المستقبل بما نريد. (33) من استيفن إلى ماجدولين
عفا الله عنك يا ماجدولين، أكنت تظنين أني أستطيع أن أحيا من بعدك ساعة واحدة أتمتع فيها بالحياة وطيبها، والدنيا ونسيمها، فأوصيت بما أوصيت به إلي؟
إنك لا تعلمين أنك روحي التي أحيا بها في هذا العالم، ودنياي التي أتنسم فيها رائحة السعادة والهناء، وأن اليوم الذي يخلو فيه مكانك من الدنيا هو آخر عهدي بالعالم وما فيه.
Bog aan la aqoon