وقال آخر: «لعله سقط في هوة من هوى الغرام، فلا مناص له من الارتباط في قعرها حتى الموت.»
وقالت زوج أبيه : «لعله أحب عروس الشعر فغني بها عن كل عروس سواها.»
وقال عمه وهو يزمجر غضبا: «قبيح بالفتى أن يكون في سن كهذه السن حاملا فوق كاهله قوة كهذه القوة، ثم يرضى لنفسه أن يكون عالة على قومه وذويه.»
فطار طائر الحلم من رأس «استيفن» واختفى من وجهه ذلك الفتى الحيي الخجول، الذي كان يذوب منذ ساعة خجلا أمام النظرات واللفتات، وحل محله رجل هائل جبار لا يخشى أحدا ولا يبالي شيئا، فرفع رأسه ونظر إلى الجميع نظرة شزراء ذهلت لها أنظارهم، وخفقت لها قلوبهم، ثم التفت إلى أبيه وقال له: إني لا أعتب على واحد من هؤلاء؛ لأنهم سمعوك تغني فضربوا على نغمتك، أما أنت فإني أقول لك: نعم إنك قد أحسنت إلي فيما مضى كما تقول، ولكن لا يجمل بك أن تمن علي بإحسانك هذا، ولا يجمل بي أن أشكره لك، أو أثني عليك به؛ لأنك أب، وللأبوة ثمن لا بد لك من أدائه، واحتمال المئونة فيه، على أنك لم تمنحني في يوم من أيامك الماضية عطفك ولا رحمتك، ولو فعلت لكان ذلك خيرا لي من كل ما أسديت إلي من صنوف البر والمعروف، بل كان شأنك معي في كل آناء حياتك شأن رجل عابر سبيل وجد في طريقه طفلا ملففا في قماطة مطرحا تحت جدران بعض المنازل أو على باب إحدى الكنائس فالتقطه وكفله منة، وإحسانا لا رحمة وحنانا، فقد أبعدتني عنك أنا وأخي مذ ماتت أمي، وبنيت بزوجتك الحاضرة قبل أن أبلغ السابعة من عمري، ووضعتني في حجور قوم لا تجمعني بهم جامعة محبة، ولا تعطفهم علي آصرة رحم، ولم أجد فيهم من يذكرني بك، أو يحببك إلي، أو يحدثني عنك حديثا واحدا، وكنت كلما عدت إليك في أيام إجازتي من العام إلى العام استقبلتني بالوجه الذي تستقبل به أبعد الناس عنك، وأصغرهم شأنا عندك، فلا تختصني بكلمة طيبة، ولا تؤثرني بنظرة رحمة، ولا تسهر علي في مرض، ولا تتفقدني في شدة، ولا تبسم للقائي، ولا تحزن لفراقي، وكثيرا ما سهرت الليالي ذوات العدد أندب حظي عندك، وأضرع إلى الله - تعالى، أن يدني قلبك من قلبي، ويرزقني حبك وحنانك، فلم يستجب دعائي، فاستوحشت نفسي من نفسي، وغلبت على طبعي هذه النفرة التي لا تزال ملازمة لي حتى اليوم، ولولاك لما كنت نفورا ولا مستوحشا، وقسا قلبي القسوة كلها فأصبحت لا أعطف على أحد ولا أحب أحدا؛ لأني لم أتعلم العطف ولا الحب من أحد، ولما لم أجد في الناس من أحبه وأصطفيه أحببت نفسي وحريتي واصطفيتهما وآثرتهما على كل شيء في العالم، فلا أحتمل أن أرى من ينازعني فيهما، أو يغالبني عليهما.
إن حياتي لي، وأنا صاحبها الذي أتولى شأنها، فلا سلطان لأحد غيري عليها، ولا شأن لكائن من كان فيها سواي، فلا أسير في طريق غير الطريق التي ترسمها يدي، ولا أبني مستقبل حياتي على أساس غير الأساس الذي أضعه بنفسي، ولا أحب إلا الفتاة التي أحبها أنا، لا التي يحبها الناس لي، ولا أعاشر إلا المرأة التي أقيس سعادتي معها بمقياس عقلي، لا بمقياس عقول الآباء والأعمام.
فهاج القوم عليه هياجا عظيما، وصرخ أبوه في وجهه، وثاوره عمه يريد الفتك به، وتناولته بقية الألسن بالشتم والسب، فلم يأبه بذلك كله، ولم يتزلزل من موقفه، واستمر في حديثه يقول: بأي حق تريدون أن تسلبوني حريتي وتملكوها علي؟ أبحق العطف الذي بذلتموه لي فيما مضى، وما عرفت بينكم محبا لي ولا راحما؟ أم بحق الكرامة والبقيا، وقد كنتم جميعا تضربونني صغيرا، وها أنتم أولاء اليوم تشتمونني كبيرا؟
إني قائل لكم جميعا كلمة لا أقول لكم غيرها بعد اليوم: إني لا أحب إلا من يحبني، ولا أكرم إلا من يكرمني، ولا أذعن إلا لرأيي وإرادتي، ولا أبيع حياتي وحريتي بثمن من الأثمان مهما غلا.
إني لا أطلب منكم مالا ولا معونة، ولا أشكو إليكم فقرا ولا عدما، وسأرسم لنفسي بنفسي خطة حياتي، فإن قدر لي النجاح فيها فذاك، أو لا، فحسبي من السعادة أنني قضيت أيام حياتي حرا طليقا، لا سبيل لأحد علي، ولا شأن لكائن من الكائنات عندي حتى يوافيني أجلي، وهذا فراق ما بيني وبينكم.
ثم انفتل من بين أيديهم وهرع إلى غرفته، فبدل ثيابه، وتناول حقيبة ملابسه وخرج هائما على وجهه يخترق أحشاء الظلام، حتى خرج إلى ضاحية المدينة، فتبعه فتى من أبناء أخواله كان قد ألم ببعض قصته، فقال له: أين تريد يا «استيفن»؟ قال: إلى حيث أرسلني أهلي، فبكى قريبه مرثاة له مما هو فيه وقال له: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين! ثم دس له في جيبه بضع قطع من الذهب، لم ينتبه لها «استيفن» إلا بعد ذهابه، فشكرها له في نفسه ثم مضى لسبيله. (30) النفس العالية
لا تخضع النفس العالية للحوادث ولا تذل لها مهما كان شأنها، ولا تلين صعدتها أمام النكبات والأرزاء مهما عظم خطبها، وجل أمرها؛ بل يزيدها مر الحوادث وعض النوائب قوة ومراسا، وربما لذ لها هذا النضال الذي يقوم بينها وبين حوادث الدهر وأرزائه، كأنما يأبى لها كبرياؤها وترفعها أن يوافيها حظها من العيش سهلا سائغا لا مشقة فيه ولا عناء، فهي تحارب وتجالد في سبيله، وتغالب الأيام عليه مغالبة حتى تناله من يدها قوة واغتصابا، فمثلها بين النفوس كمثل الليث بين السباع، لا تمتد عينه إلى فريسة غيره، ولا يهنأ له طعام غير الذي تجمعه أنيابه ومخالبه.
Bog aan la aqoon