قال العلماء: وحديث «إنما الأعمال بالنيات» حديث صحيح مشهور، ومتفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب.
وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله (١): ليس في أخبار النبي ﷺ شيء أجمع ولا أكثر فائدة منه.
فلهذا جعله بعضهم ثلث العلم، وبعضهم ربع العلم، وبعضهم خمس العلم، فمن جعله ثلث العلم إمامنا الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وجماعة، ووجَّه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها (٢) .
_________
(١) هو إمام أهل الحديث في عصره صاحب المذهب أحمد بن حنبل وستأتي في مجلس خاص عقده المصنف لترجمة أرباب المذاهب.
(٢) بين الحافظ قدر هذا الحديث وتكلم على تواتره في الفتح (١/٤٩) فقال: وقال ابن مهدي أيضًا: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا.
ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضًا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: «نية المؤمن خير من عمله» فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين.
ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغترًا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك.
وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودًا لكونه فردًا، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيي بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني.
وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما.
ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: «يبعثون على نياتهم»، وحديث ابن عباس: «ولكن جهاد ونية»، وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: «رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته» أخرجه أحمد، وحديث عبادة: «من غزا وهو لا ينوي إلا عقالًا فله ما نوى» أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.
وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيي بن سعيد: فحكي محمد بن على بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيي مائتان وخمسون نفسًا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسي المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.
قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم.
1 / 106