الجمهور من علماء الحديث، وإن سوى ابن عينيه بينهما.
ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى، ومحمد، وعلقمة، وقد يقع أطرف من هذا وهو أربعة من التابعين روي بعضهم عن بعض.
وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى وهي: أن أوله مكيان والباقي مدينون.
قال (١) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
قال النووي: وقع هذا الحديث هاهنا وهو مختصرًا وهو طويل مشهور ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه، فذكره ههنا ثم في الإيمان، وفي النكاح، والعتق، والهجرة، وترك الحيل، والنذور.
وقال غيره: إنه سقط من رواية البخاري هنا ما هو ثابت في بقية الروايات وهو قوله ﷺ: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله» .
وقال آخر: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع غير هذا الموضع، من غير طريق الحميدي (٢)، فجاء به كاملًا لم يسقط منه شيء، إلا في هذا الموضع، فإنه جاء به مجزؤًا قد ذهب جزؤه (٣) .
_________
(١) القائل سيدنا عمر راوي هذا الحديث.
(٢) الحميدي هو: عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي، أبو بكر: أحد الأئمة في الحديث، من أهل مكة، رحل منها مع الإمام الشافعي إلى مصر، ولزمه إلى أن مات، فعاد إلى مكة يفتي بها، وهو شيخ البخاري، ورئيس أصحاب ابن عيينة، روى عنه البخاري ٧٥ حديثًا، وذكره مسلم في مقدمة كتابه، توفي بمكة سنة: ٢١٩هـ.
(٣) قضية إسقاط البخاري جزءًا في هذا الحديث تكلم عليها ابن حجر في الفتح (١/٥٦) فقال: قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... إلى آخره» .
قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخرومًا قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟
فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي تامًا، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصرًا.
وفهم من قوله «مخرومًا»: أنه قد يربد أن في السند انقطاعًا، فقال من قبل نفسه، لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري: «حدثنا الحميدي» وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث.
وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام.
قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تامًا فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جدًا عند من اطلع على أحوال القوم.
وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى.
وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تامًا، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم، وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟
والجواب: قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة.
وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. (انتهى ملخصًا) .
وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فرارًا من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضًا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته.
ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنًا وإسنادًا.
وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» عن قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها»، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث.
وعلي تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم.
وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تامًا لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله -في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب- سمع الحديث تامًا، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي.
ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار.
فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله.
قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. (انتهى)
وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي.
وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تامًا تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، (انتهى)
وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تامًا وفي موضع مقتصرًا على بعضه، وهو كثير جدًا في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحًا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندًا ومتنًا في موضعين أو أكثر إلا نادرًا، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعًا.
1 / 104