بحيث يتعمقون في كل مهم ، ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم. اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا ، لأناس خاصة. فذاك كالكنايات الغامضة ، والرموز البعيدة التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها. وإلا كان خارجا عن حكم معهودها. فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات ، حتى كانت قبائل العرب تفهمه. وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط. لأن الضعيف ليس كالقوي ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة الجارية. فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموه ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ولا تذكير ، ولطوقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لا يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة ( قل فلله الحجة البالغة ) [الأنعام : 149] لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغدوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم ، من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه. حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله. وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم. وقد خرج الترمذي ، وصححه عن أبي بن كعب ، قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال : يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط ، قال : يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين ، كما يسع غيرهم.
** ثم قال الشاطبي :
* فصل
ومنها أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من
Bogga 66