* بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ورقاه في مراتب البلاغة إلى مقام لو اجتمعت الجن والإنس على معارضته لم يقدروا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فسبحان من أوضح لنا به معالم الدين ، وأبان بمشارق أنواره مناهج الأدلة للمجتهدين. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره ، وأستعينه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، بملة حنيفية ، وشرعة قويمة علية ، وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد التنزيل فحصلوه ، وأسسوا قواعده وفصلوه ، وجالت أفكارهم في آياته ، واعملوا الجد في تحقيق مبادئه وغاياته ، وعلى من اقتفى أثرهم ، ممن لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم.
أما بعد ، فإن أكرم ما تمتد إليه أعناق الهمم ، وأعظم ما تتنافس فيه الأمم ، العلم الذي هو حياة القلب ، وصحة اللب ؛ وأجل أصنافه وأرفعها ، وأكمل معالمه وأنفعها ، هي العلوم الشرعية ، والمعارف الدينية. إذ بها انتظام صلاح العباد ، واغتنام الفلاح في المعاد. وعلم التفسير ، من بينها ، أعلاها شأنا ، وأقواها برهانا ، وأوثقها بنيانا ، وأوضحها تبيانا. فإنه مأخذها وأساسها ، وإليه يستند اقتناصها واقتباسها ، بل هو ، كما وصف به ، رئيسها ورأسها. كيف لا وموضوعه ، وهو الكتاب المجيد ، كلية الشريعة ، وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر. وإنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه. فلا جرم ، لزم من رام الاطلاع على كليات الشريعة الغراء ، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها النجباء ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، ويجعله على المدى ، نظرا وعملا ، جليسه. فيوشك أن يفوز بالبغية ، ويظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين ، وفي الرعيل الأول
Bogga 3
المهتدين ، ويشرق في قلبه نور الإيقان ، وتطلع في بصيرته شمس العرفان ، ويتبوأ في الدنيا والآخرة مكانا عليا ، وتدرج النبوة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا.
وإني كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون ، والاكتحال بإثمد مطالبه لتنوير العيون ، فأكببت على النظر فيه ، وشغفت بتدبر لآلئ عقوده ودراريه . وتصفحت ما قدر لي من تفاسير السابقين ، وتعرفت ، حين درست ، ما تخللها من الغث والسمين. ورأيت كلا ، بقدر وسعه ، حام حول مقاصده. وبمقدار طاقته ، جال في ميدان دلائله وشواهده. وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطرا من عمري. ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهري. أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر. قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر. وأكون بخدمته موسوما ، وفي حملته منظوما. فشحذت كليل العزم ، وأيقظت نائم الهم. واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده ، وتفسير مقاصده. في كتاب اسمه بعون الله الجليل : «محاسن التأويل» ، أودعه ما صفا من التحقيقات ، وأوشحه بمباحث هي المهمات. وأوضح فيه خزائن الأسرار. وأنقد فيه نتائج الأفكار ، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر. وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر. وزوائد استنبطتها بفكري القاصر. مما قادني الدليل إليه. وقوي اعتمادي عليه. وسيحمد السابح في لججه ، والسانح في حججه ، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان ، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان ، وبدائعه الباهرة للأذهان ، فإنها لباب اللباب ، ومهتدى أولي الألباب. ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات ، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات. اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات ، فهنالك تصوب أسنة البراهين نحو نحور الشبهات.
ولا يخفى أن من القضايا المسلمة ، والمقدمات الضرورية ، أنه مهما تأنق الخبير في تحبير دقائقه السمية ، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة ، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة ، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب ، وما تضمنه من لباب اللباب ، لأنه منطو على أسرار مصونة ، وجواهر حكم مكنونة ؛ لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه ، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقى عن خيرته ومصطفاه.
Bogga 4
هذا وقد حليت طليعته بتمهيد خطير ، في مصطلح التفسير. وهي قواعد فائقة ، وفوائد شائقة ، جعلتها مفتاحا لمغلق بابه ، ومسلكا لتسهيل خوض عبابه ، تعين المفسر على حقائقه ، وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه.
فدونك أيها الباحث عن مطالب أعلى العلوم ، التائق لأسنى نتائج الفهوم ، المتعطش إلى أحلى موارده ، المنقب عن مصادر مقاصده ، ينبوعا لمعاني الفرقان ، وعقدا ضم درر التبيان ، وقف بك من الطريق السابلة على الظهر ، وخطب لك عرائس الحكم ثم وهب لك المهر ، فقدم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت ، وأقبل على ما قبلك منه فها أنت قد فزت بما حصلت. وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار ، وتسنم أوج التحقيق في مطالع الأنظار. والبس التقوى شعارا ، والاتصاف بالإنصاف دثارا. واجعل طلب الحق لك نحلة ، والاعتراف به لأهله ملة. ولا ترد مشرع العصبية ، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية ، أنفة ذوي النفوس العصية. فذلك مرعى لسوامها وبيل ، وصدود عن سواء السبيل.
وكان شروعي في هذه النية الحميدة ، بعد استخارته تعالى أياما عديدة ؛ في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمائة وألف. نفعنا الله بما يجري منه على يدينا ، ولا جعله حجة علينا ، ونحن نستغفر الله مما تعاطيناه من الأمر العظيم ، واقتحمناه من الخطر الجسيم ، ونستعيذ به من الوقوع في حبائل العدو الرجيم ، ونسأله توفيقا يقف بنا على جادة الاستقامة ، ويصرفنا عن عمل ما يعقبه ملام أو ندامة ، ونرجو من فضله تعالى حياة طيبة وعزما تنحط من دونه المصاعب ، وعونا على إكمال هذا المأرب تبيض به وجوه المطالب. وهداية قدسية إلى الطريقة المثلى ، وعناية لدنية نقوى بها على تأييد كلمة الحق الفضلى ، فهو ولي الأنعام ، في البدء والختام.
Bogga 5
تمهيد خطير في قواعد التفسير
** 1 قاعدة في أمهات مآخذه :
للناظر في القرآن ، لطلب التفسير ، مآخذ كثيرة. أمهاتها أربعة :
الأول النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم : وهذا هو الطراز المعلم. لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع ، فإنه كثير. ولهذا قال أحمد : ثلاثة كتب لا أصل لها : المغازي ، والملاحم ، والتفسير.
قال المحققون من أصحابه : مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة. وإلا فقد صح من ذلك كثير ، كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام. والحساب اليسير بالعرض ، والقوة بالرمي في قوله : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) [الأنفال : 60].
الثاني الأخذ بقول الصحابي : فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قاله الحاكم في مستدركه. وقال أبو الخطاب ، من الحنابلة : يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا : إن قوله ليس بحجة. والصواب الأول ، لأنه من باب الرواية لا الرأي.
قلت : ما قاله الحاكم نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين ، بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه ، مما لا مدخل للرأي فيه. ثم رأيت الحاكم نفسه صرح به في علوم الحديث فقال : ومن الموقوفات تفسير الصحابة. وأما من يقول إن تفسير الصحابة مسند ، فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول. فقد خصص هنا ، وعمم في المستدرك. فاعتمد الأول ، والله أعلم. ثم قال الزركشي : وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد. واختار ابن عقيل المنع ، وحكوه عن شعبة ، لكن عمل المفسرين على خلافه. فقد حكوا في كتبهم أقوالهم لأن غالبها تلقوها من الصحابة. وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ ، فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالا ، وليس كذلك ، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل. وقد يكون بعضهم يخبر عن
Bogga 7
الشيء بلازمه ونظيره ، والآخر بمقصوده وثمرته ، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا. فإن لم يمكن الجمع ، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم ، إن استويا في الصحة عنه ، وإلا فالصحيح المقدم.
الثالث الأخذ بمطلق اللغة : فإن القرآن نزل بلسان عربي ، وهذا قد ذكره جماعة ، ونص عليه أحمد في مواضع ، لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر؟ فقال : ما يعجبني. فقيل : ظاهره المنع. ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد ، وقيل : الكراهة تحمل على من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ، ويكون المتبادر خلافها.
وروى البيهقي في (الشعب) عن مالك قال : لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا.
الرابع التفسير بالمقتضى من معنى الكلام ، والمقتضب من قوة الشرع : وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (1)، والذي عناه علي بقوله : إلا فهما يؤتاه الرجل في القرآن. ومن هنا اختلف الصحابة في معنى الآية ، فأخذ كل برأيه على منتهى نظره. ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل. قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [الإسراء : 36]. وقال : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [البقرة : 169]. وقال : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [النحل : 44]. أضاف البيان إليه. وقال صلى الله عليه وسلم : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود (2) والترمذي والنسائي. وقال : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (3) أخرجه أبو داود (4).
وقال البيهقي في الحديث الأول : إن صح. أراد والله أعلم الرأي الذي
عن جندب قال : قال صلى الله عليه وسلم «من قال بكتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ».
Bogga 8
يغلب من غير دليل قام عليه ، وأما الذي يشده برهان ، فالقول به جائز.
وقال في المدخل : في هذا الحديث نظر ، وإن صح ، فإنما أراد به والله أعلم فقد أخطأ الطريق ، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة. وفي معرفة ناسخه ومنسوخه ، وسبب نزوله ، وما يحتاج فيه إلى بيانه ، إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله ، وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى. قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [النحل : 44]. فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده ، وما لم يرد عنه بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد. قال : وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه ، فيكون موافقته للصواب ، إن وافقه ، من حيث لا يعرفه ، غير محمودة.
وقال الماوردي : قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ، ولو صحبها الشواهد ، ولم يعارض شواهدها نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن ، واستنباط الأحكام ، كما قال تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [النساء : 83] ولو صح ما ذهب إليه ، لم يعلم شيء بالاستنباط ، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا. وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ، ولم يعرج على سوى لفظه ، وأصاب الحق ، فقد أخطأ الطريق ، وإصابته اتفاق. إذ الفرض أنه مجرد رأي لا شاهد له. وفي الحديث : «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس. فقوله «ذلول» يحتمل معنيين :
أحدهما : أنه مطيع لحامليه تنطق به ألسنتهم.
والثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين.
وقوله : «ذو وجوه» يحتمل معنيين :
أحدهما : أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل.
والثاني : قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحريم.
وقوله : «فاحملوه على أحسن وجوهه» يحتمل معنيين :
أحدهما : الحمل على أحسن معانيه.
والثاني : أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص ، والعفو دون الانتقام.
Bogga 9
وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى كذا أفاده الزركشي في البرهان.
وقال أبو حيان : ذهب بعض من عاصرناه إلى أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه ، بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم. وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك ، قال : وليس كذلك. قال الزركشي بعد حكاية ذلك : الحق أن علم التفسير ، منع ما يتوقف على النقل ، كسبب النزول ، والنسخ ، وتعيين المبهم ، وتبيين المجمل. ومنه ما لا يتوقف. ويكفي في تحصيله الثقة على الوجه المعتبر. قال : وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل ، والتمييز بين المنقول والمستنبط ، ليحيل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط. قال : واعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد. والأول إما أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو رؤوس التابعين. فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة ، فهم أهل اللسان ، فلا شك في اعتماده ، أو بما شاهده من الأسباب والقرائن ، فلا شك فيه. وإن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة ، فإن أمكن الجمع فذاك ، وإن تعذر قدم ابن عباس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال : «اللهم علمه التأويل». وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لحديث «أفرضكم زيد» (1).
وأما ما ورد عن التابعين ، فحيث جاز الاعتماد فيما سبق ، فكذلك ، وإلا وجب الاجتهاد.
وأما ما لم يرد فيه نقل ، فهو قليل ، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق.
وقال الإمام ابن خلدون في مقدمة «العبر» في علوم القرآن :
وأما التفسير : فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه ، وكان ينزل جملا جملا ،
Bogga 10
وآيات آيات ، لبيان التوحيد والفروض الدينية ، بحسب الوقائع ، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية ، ومنها ما هو في أحكام الجوارح ، ومنها ما يتقدم ، ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ، ويميز الناسخ من المنسوخ ، ويعرفه أصحابه ، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه ، كما علم من قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) (1) أنها نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك. ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وتداول ذلك التابعون من بعدهم ، ونقل ذلك عنهم ، ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف ، حتى صارت المعارف علوما ، ودونت الكتب ، فكتب الكثير من ذلك ، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين ، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي ، وأمثال ذلك من المفسرين ، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار ؛ ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة ، وأحكام الإعراب ، والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك ، بعد أن كانت ملكات للعرب ، لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب. فتنوسي ذلك ، وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان ، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن ، لأنه بلسان العرب ، وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسير على صنفين :
تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ ، وأسباب النزول ، ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين.
وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا ، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين ، والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات ، وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية
عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح )؟ قالوا : فتح المدائن والقصور. قال : ما تقول يا ابن عباس؟ قال : أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، نعيت له نفسه.
Bogga 11
مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير ، الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها ، مثل أخبار بدء الخليقة ، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم ، وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض ، أخبار موقوفة عليهم ، وليست مما يرجع إلى الأحكام ، فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. ويتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها ، كما قلنا ، عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك. إلا أنهم بعد صيتهم ، وعظمت أقدارهم ، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة. فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص ، وجاء أبو محمد بن عطية ، من المتأخرين بالمغرب ، فلخص تلك التفاسير كلها ، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ، ووضع ذلك في كتاب ، متداول بين أهل المغرب الأندلس ، حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة ، على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور ، بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير ، وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب ، والبلاغة ، وتأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب ؛ وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول ؛ إذ الأول هو المقصود بالذات ، وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة. انتهى.
** 2 قاعدة في معرفة صحيح التفسير ، وأصح التفاسير عند الاختلاف :
قال الإمام محمد بن المرتضى اليماني رضي الله عنه في كتابه «إيثار الحق على الخلق» :
* فصل
في الإرشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير ، وأصح التفاسير عند الاختلاف بطريق واضح لا يشك أهل الإنصاف في حسن التنبيه عليه والإرشاد إليه :
«اعلم أن كتاب الله تعالى ، لما كان مفزع الطالب للحق بعد الإيمان ، وكان محفوظا كما وعد به الرحمن ، دخل الشيطان على كثير من طريق تفسيره ، وعدم
Bogga 12
الفرق بين التفسير والتحريف والتأويل والتبديل ، ولو كان لكل مبتدع أن يحمله على ما يوافق هواه ، بطل كونه فرقا بين الحق والباطل. وقد ثبت أنه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وهذا لا يتم إلا بحراسته من دعاوى المبطلين في تصرفاتهم واحتيالهم على التشويش فيه ، ولبس صوادعه وقواطعه بخوافيه ، وهذه هذه فليهتم المعظم له بمعرفتها ، ويتأملها حق التأمل ، ويتعرف أسبابها ممن قد مارسها»
وقد أوضحها رضي الله عنه في كتابه المذكور ، وجود الكلام عليها ثم قال : فإذا عرفت ذلك فلا غنى عن معرفة مراتب المفسرين ، حيث يكون التفسير راجعا إلى الرواية ؛ ثم مراتب التفسير ، حيث يكون التفسير راجعا إلى الدراية.
أما مراتب المفسرين : فخيرهم الصحابة رضي الله عنهم ، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة ، ولأن القرآن أنزل على لغتهم ، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم ، ولأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم ، وأكثرهم تفسيرا حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وقد جمع عنه تفسير كامل ، ولم يتفق مثل ذلك لغيره من الصدر الأول الذين عليهم في مثل ذلك المعول ، ومتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير ، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير ، وذلك لوجوه :
أولها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالفقه في الدين ، وتعلم التأويل أي التفسير ، وصح ذلك واشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله طرق في مجمع الزوائد. وقال الحافظ أبو مسعود في أطرافه : إنه مما أخرجه البخاري ومسلم بكماله. وفيهما من غير طريق أبي مسعود عند سائر الرواة «اللهم علمه الكتاب والحكمة» ، وفي رواية «اللهم فقهه في الدين». وفي رواية الترمذي : أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين ، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين. وينبغي معرفة سائر مناقبه مع ذلك في مواضعها ، ولو لا خوف الإطالة لذكرتها.
وثانيها : أن الصحابة اتفقوا على تعظيمه في العلم عموما ، وفي التفسير خصوصا ، وسموه البحر والحبر ؛ وشاع ذلك فيهم من غير نكير ، وظهرت إجابة الدعوة النبوية فيه ، وقصة عمر معه ، رضي الله عنهما ، مشهورة ، في سبب تقديمه وتفضيله على من هو أكبر منه من الصحابة ، وامتحانه في ذلك (1).
Bogga 13
وثالثها : كونه من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة.
ورابعها : أنه ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي. روي عنه أنه قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وفي رواية «بغير علم» رواه أبو داود في العلم ، والنسائي في فضائل القرآن ، والترمذي في التفسير ، وقال : حديث حسن ، وشرطه فيما قال فيه «حسن» أن يأتي من غير طريق.
والخامس : أن الطرق إليه محفوظة غير منقطعة ، فصح منها تفسير نافع ، ممتع. ولذلك خصصته بالذكر ، وإن كان غيره أكبر منه ، وأقدم وأعلم وأفضل ، مثل علي بن أبي طالب عليه السلام ، من جنسه وأهله ، وغيره من أكابر الصحابة رضي الله عنهم. لكن ثبوت التفسير عنهم قليل ؛ بالنظر إليه ، رضي الله عنهم أجمعين.
ثم المرتبة الثانية من المفسرين «التابعون» ومن أشهر ثقاتهم المصنفين في التفسير : مجاهد وعطاء وقتادة والحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران ومحمد ابن كعب القرظي وزيد بن أسلم. ويلحق بهؤلاء عكرمة ، ثم مقاتل بن حيان ومحمد ابن زيد ، ثم علي بن أبي طلحة ، ثم السدي الكبير. وتتمة هذا في الإيثار وفي الإتقان.
قال ابن تيمية : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس ، كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم. وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود. وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ، ومالك بن أنس. انتهى.
** 3 قاعدة في أن غالب ما صح عن السلف من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع ، لا اختلاف تضاد :
قال ابن تيمية : يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن ، كما بين لهم ألفاظه. فقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ؛ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
Bogga 14
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا ، رواه أحمد في مسنده.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه في الموطأ (1).
وذلك أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ص : 29]. وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [النساء : 82] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم ، كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا . وهو ، وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ، فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة. وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال. والخلاف بين السلف في التفسير قليل. وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، وذلك صنفان :
أحدهما : أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمى ، كتفسيرهم ( الصراط المستقيم ): بعض بالقرآن ، أي اتباعه. وبعض بالإسلام. فالقولان متفقان. لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال : «هو السنة والجماعة» ، وقول من قال : «هو طريق العبودية» ، وقول من قال : «هو طاعة الله ورسوله» وأمثال ذلك. فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل. وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثاله : ما نقل في قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ) [فاطر : 32] الآية. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات ، والمنتهك للحرمات ؛ والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق ، فتقرب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون أصحاب اليمين ، والسابقون
Bogga 15
السابقون أولئك المقربون. ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة.
قال : وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ، تارة لتنوع الأسماء والصفات ، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى ، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.
ومن التنازع الموجود منهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين ، إما لكونه مشتركا في اللغة ، كلفظ «القسورة» الذي يراد به الرامي ، ويراد به الأسد ؛ ولفظ «عسعس» الذي يراد به إقبال الليل وإدباره. وإما لكونه متواطئا في الأصل ، لكن المراد به أحد النوعين ، أو أحد الشخصين ، كالضمائر في قوله : ( ثم دنا فتدلى ) [النجم : 8] الآية ، وكلفظ ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر ) [الفجر : 1 3] وأشباه ذلك. فمثل ذلك قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ؛ وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما إذا لم يكن لمخصصه موجب. فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس اختلافا ، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم «تبسل» بتحبس ، وبعضهم بترتهن ، لأن كلا منهما قريب من الآخر.
* فصل
ثم قال :
والاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك.
والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك. وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من
Bogga 16
ضعيفه ، عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته. وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ، فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل. وما لا ، بأن نقل عن أهل الكتاب ، ككعب ووهب ، وقف عن تصديقه وتكذيبه. لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا حدثكم أهل الكتاب ، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ، وكذا ما نقل عن بعض التابعين ، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون ، لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض من سمعه منه أقوى ، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. ومع جزم الصحابي بما يقوله ، كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه ، فهذا موجود كثير ولله الحمد ، وإن قال الإمام أحمد : ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي ، وذلك لأن الغالب عليها المراسيل.
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ، فهذا أكثر ما فيه من الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا ، لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين ، مثل تفسير عبد الرزاق والفريابي ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم. أخذها قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
(والثاني) قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به ، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يراد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم ، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة ، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن ، كما يغلط في ذلك الآخرون ، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق. والأولون صنفان : تارة
Bogga 17
يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وقد يكون حقا ، فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول. فالذين أخطئوا فيهما ، مثل طوائف من أهل البدع ، اعتقدوا مذاهب باطلة ، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم. وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم. مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار والرماني والزمخشري وأمثالهم. وهؤلاء من يكون حسن العبارة يدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون ، كصاحب الكشاف ونحوه. حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة تفاسيرهم الباطلة. وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة وأسلم من البدعة. ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبري ، وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة ، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه ، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله. وأما الذين أخطئوا في الدليل لا في المدلول كمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ، لكن القرآن لا يدل عليها ، مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق ، فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول. انتهى.
** 4 قاعدة في معرفة النزول :
قال ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. وقد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى : ( لا
Bogga 18
تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) [آل عمران : 188] الآية ، وقال : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن أجمعون. حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه أخرجه الشيخان (1).
وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب أنهما كانا يقولان : الخمر مباحة ، ويحتجان بقوله : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا .. ) [المائدة : 93] الآية ، ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك. وهو أن ناسا قالوا ، لما حرمت الخمر : كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت أخرجه أحمد والنسائي (2) وغيرهما .
ومن ذلك قوله تعالى : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ) [الطلاق : 4] فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية : بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب. وقد بين ذلك سبب النزول : وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من النساء قالوا : قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن الصغار والكبار أخرجه الحاكم عن أبي فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما حكمهن في العدة ، وارتاب هل عليهن عدة أو لا ، وهل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أو لا. فمعنى ( إن ارتبتم ) إن أشكل عليكم حكمهن ، وجهلتم كيف يعتدون ، فهذا حكمهن.
ومن ذلك قوله تعالى : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [البقرة : 115] فإنا لو
Bogga 19
تركنا ومدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الإجماع. فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر ، أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ ، على اختلاف الروايات في ذلك.
ومن ذلك قوله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ... ) (1) [البقرة : 158] الآية : فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض. وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكا بذلك. وقد ردت عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها ، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما ، لأنه من عمل الجاهلية ، فنزلت.
ومنها رفع توهم الحصر. قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ... ) [الأنعام : 145] الآية : إن الكفار لما حرموا ما أحل الله. وكانوا على المضادة والمحادة ، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول : لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة ، لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال : لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين : وهذا في غاية الحسن ، ولو لا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية ، وتعيين المبهم فيها. ولقد قال مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر : إنه الذي أنزل فيه ، ( والذي قال لوالديه أف لكما ) [الأحقاف : 17] حتى ردت عليه عائشة وبينت له سبب نزولها (2).
Bogga 20
وقال ابن تيمية أيضا : قد يجيء كثير من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا ، كقولهم ، إن آية الظهار ، نزلت في امرأة ثابت ابن قيس وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله ، وإن قوله : ( وأن احكم بينهم ) [المائدة : 49] نزلت في بني قريظة والنضير ، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى ، أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه ، فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين ، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص ، فتعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وإن كانت خبرا بمدح أو ذم ، فإنها متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
قال ابن تيمية أيضا : قولهم أنزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب ، كما نقول عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصحابي : نزلت هذه الآية في كذا ، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله ، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند ، وغيره لا يدخله فيه. وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح ، كمسند أحمد ، وغيره ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه ، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع. انتهى.
وقال المحقق أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات : معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن ، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع. إذ الكلام الواحد
Bogga 21
يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك. كالاستفهام لفظه واحد ، ويدخله معان أخر ، من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة. وعمدتها مقتضيات الأحوال. وليس كل حال ينقل ، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول. وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ، فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد. ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال. وينشأ عن هذا الوجه.
الوجه الثاني : وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، مورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال ، حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع. ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ، قال : خلا عمر ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟! فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة؟! فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين! إنا أنزل القرآن علينا فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل. وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، اقتتلوا. قال فزجره عمر وانتهره! فانصرف ابن عباس. ونظر عمر فيما قال ، فعرفه ، فأرسل إليه فقال : أعد علي ما قلت. فأعاده عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار ، ويتبين بما هو أقرب. فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار ، فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
ثم ساق الشاطبي نحو ما تقدم عن ابن تيمية مطولا ، وقال في آخر البحث ، وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ، لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات ، وتوجه الإشكالات. وقد قال عليه السلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود (1). وقد قال
Bogga 22
في خطبة خطبها : والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله. وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني ، تبلغه الإبل ، لركبت إليه (1). وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن.
وعن الحسن أنه قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت ، وما أراد بها. وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ، فقال : اتق الله وعليك بالسداد ، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن. وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير. انتهى.
وقال ولي الله الدهلوي في الفوز الكبير : ومن المواضع الصعبة معرفة أسباب النزول. ووجه الصعوبة فيها خلاف المتقدمين والمتأخرين. والذي يظهر من استقراء كلام الصحابة والتابعين ، أنهم لا يستعملون «نزلت في كذا» لمحض قصة كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وهي سبب نزول الآية. بل ربما يذكرون بعض ما صدقت عليه الآية مما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أو بعده صلى الله عليه وسلم . ويقولون : «نزلت في كذا» ولا يلزم هناك انطباق جميع القيود ، بل يكفي انطباق أصل الحكم فقط. وقد يقررون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة ، واستنبط صلى الله عليه وسلم حكمها من آية ، وتلاها في ذلك الباب ، ويقولون : «نزلت في كذا» وربما يقولون : في هذه الصورة ، فأنزل الله قوله كذا ، فكأنه إشارة إلى أنه استنباطه صلى الله عليه وسلم . وإلقاؤها في تلك الساعة بخاطره المبارك أيضا ، نوع من الوحي والنفث في الروع. فلذلك يمكن أن يقال : فأنزلت ، ويمكن أن يعبر في هذه الصورة بتكرار النزول. ويذكر المحدثون في ذيل آيات القرآن كثيرا من الأشياء ليست من قسم سبب النزول في الحقيقة. مثل استشهاد الصحابة في مناظراتهم بآية ، أو تمثيلهم بآية ، أو تلاوته صلى الله عليه وسلم آية للاستشهاد في كلامه الشريف ، أو رواية حديث وافق الآية في أصل الغرض ، أو تعيين موضع النزول ، أو تعيين أسماء
Bogga 23