وعن أبي دفافة العبسي قال: حدّثت المنصور بحديث العجلان بن سهل وكان دخل على عبد العزيز بن القعقاع، فبينا هو جالس إذ دخل رجل متلطخ الثوب بالطين، فقال عبد العزيز: ما لك؟ قال: ركب هذا الأحول، يعني هشام بن عبد الملك، فنفرت ناقتي فسقطت، فانتزع العجلان سيفه فنفحه به ووثب الرجل فأخطأه السيف ووقع في وسادة فقطّعها وقال: يا لكع أعياك أن تسمّيه بأمير المؤمنين وباسمه الذي سماه به أبوه أو بكنيته ونظرت إلى الذي يعاب به فسميته به، أما والله لوددت أن السيف أخذ منك مآخذه! قال: فكان المنصور يستعيدني هذا الخبر كثيرًا ويقول: كيف صنع العجلان بن سهل؟ مع مثله يطيب الملك.
قال: وأخبرنا عطّاف قال: بينا عبد الله بن طاهر مقبل من منزل عبيد الله بن السّريّ بمصر حتى إذا دنا من بابه إذا بشيخ قد قام إليه فناوله رقعةً كانت معه وقال: أصلح الله الأمير! نصيحة واجبة فافهمها، فأخذ الرقعة ودخل، فما هو إلا أن دخل وخرج الحاجب فقال: أين صاحب الرقعة؟ فقام إليه الشيخ فأخذ بيده فأدخله إلى عبد الله فقال: قد فهمت رقعتك هذه وما تنصحت به إلينا فانصفني في مناظرتك. فقال الرجل: ليقل الأمير ما أحب. قال: أخبرني هل يجب شكر الناس بعضهم لبعض؟ قال: نعم. قال: وبم يجب؟ قال: بإحسان المحسن وبفضل المنعم. قال: صدقت، جئت إليّ وأنا على هذه الحال التي ترى خاتمي بفرغانة وآخر ببرقة وحكمي ونهيي وأمري جائز فيما بين هذين الطرفين وقد جمع لي من العمل ما لم يجمع لأحد قطّ من ولاءة المشرق والمغرب والشرطة وما خرج من هذه الطبقة ولست ألتفت إلا إلى نعمة هؤلاء القوم ومنّتهم، لا أستفيء إلا بظلها ولا أعرف غيرهم سادة ولا كبراء ولا أئمة ولا خلفاء، فأردت أن أكفر هذه النعمة وأجحد هذا المعروف وأبايع رجلًا ما امتحن للتقوى ولا أفاد علمًا للهدى ولا جرت له على مِلّي ولا ذِمّيّ يد سالفة ولا نعمة سائرة، افترى على الله جل ذكره، ولو فعلت هذا الذي دعوتني إليه كنت ترضى به في مكارم الأخلاق وشكر المنعمين قال: فسكت الرجل ولم يحر جوابًا، وكان دعاه إلى بيعة ابن طباطبا. وقال بعضهم: إنه كان دسيس المأمون.
برون الكبير قال: وجّه إليّ المأمون وقد مضى من الليل الثلث فقال لي: يا برون قد أكثر علينا أصحاب الأخبار في أن شيخًا يرد خرابات البرامكة فيبكيهم ويندبهم وينشد أبياتًا من الشعر فاركب أنت وعليّ بن محمد ودينار بن عبد الله حتى تردوا هذه الخرابات فتصيروا من وراء جدرانها فإذا رأيتم الشيخ قد ورد وبكى وأنشد فأتوني به. قال برون: فركبت مع القوم حتى وردنا الخرابات، وإذا الخادم قد أتى ومعه زِلّيّة رومية وكرسيّ جديد، وإذا شيخ وسيم جميل له صلعة وهامة فجلس يبكي ويقول:
ولما رأيت السيف قد قدّ جعفرًا ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنه ... قصارى الفتى يومًا مفارقة الدنيا
أجعفر إن تهلك فرُبّ عظيمةٍ ... كشفت ونعمى قد وصلت بها نعمى
فقل للذي أبدى ليحيى وجعفرٍ ... شماتته أبشر لتأتيهم العقبى
لئن زال غصن الملك عن آل برمكٍ ... فما زال حتى أثمر الغصن واستعلى
وما الدهر إلا دولة بعد دولةٍ ... تبدل ذا ملكٍ وتعقب ذا بلوى
على أنها ليست تدوم لأهلها ... ولو أنها دامت لكنتم بها أولى
بني برمك كنتم نجومًا مضيئةً ... بها يهتدي في ظلمة الليل من أسرى
لأيكم أبكي أللفضل ذي الندى ... أم الشيخ يحيى أم لمحبوسه موسى
أم الملك المصلوب من بعد عزةٍ ... أم ابكي بكاء المعولات أم الثكلى
لكلكم أبكي بعينٍ غزيرةٍ ... وقلبٍ قريحٍ لا يموت ولا يحيا
1 / 54