ومنهم وزير ملك الصين، وكان حديثه أن شمر بن افريقيس بن أبرهة خرج في خمس مائة ألف مقاتل إلى أرض الصين، فلما قارب بلادهم بلغ ذلك ملك الصين فجمع وزراءه فاستشارهم، فقال رئيسهم: أيها الملك أثّر فيّ أثرًا وخلّني ورائي. فأمر به فجدع أنفه، فقام هاربًا مستقبلًا لشمر، فوافاه على أربعة منازل بعد خروجه من مفاوز الصين فدخل عليه وقال: إني أتيتك مستجيرًا! قال شمر: ممن؟ قال: من ملك الصين لأني كنت رجلًا من خاصة وزرائه وإنه جمعنا لما بلغه مسيرك إليه فاستشارنا فأشار القوم جميعًا عليه بمحاربتك وخالفتهم في رأيهم وأشرت عليه أن يعطيك الطاعة ويحمل إليك الخراج، فاتهمني وقال: قد مالأت ملك العرب، وكان منه إليّ ما ترى ولم آمنه مع ذلك أن يقتلني فخرجت هاربًا إليك، ففرح به شمر وأنزله معه في رحله وأوعده من نفسه خيرًا، فلما أصبح وأراد أن يرحل قال لذلك الرجل: كيف علمك بالطريق؟ قال: أنا من أعلم الناس به. قال: فكم بيننا وبين الماء؟ قال: مسيرة ثلاثة أيام وأنا موردك يوم الرابع على الماء، فأمر جنوده بالرحيل ونادى فيهم أن لا تحملوا من الماء إلا لثلاثة أيام، ثم سار في جنوده والرجل بين يديه، فلما كان يوم الرابع انقطع بهم الماء واشتد الحر فقال: لا ماء وإنما كان ذلك مكرٌ مني لأدفعك بنفسي عن ملكي! فأمر به فضربت عنقه، فعطش القوم، وقد كان المنجمون قالوا لشمر عند مولده أنه يموت بين جبلي حديد، فوضع درعه تحت قدميه من شدة الرمضاء ووضع ترسًا من حديد على رأسه من حرّ الرمضاء، فذكر ما كان قيل له في ولادته وقال للقوم: تفرقوا حيث أحببتم فقد أورطتكم، فهلك وجميع من كان معه.
وحكي أنه لما حمل رأس مروان بن محمد الجعدي إلى أبي العباس وهو بالكوفة قعد له مجلسًا عامًا وجاؤوا بالرأس فوضع بين يديه فقال لمن حضره: أمنكم أحد يعرف هذا الرأس؟ فقام سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة فأكبّ عليه وتأمله طويلًا ثم قال: هذا رأس أبي عبد الملك خليفتنا بالأمس، ﵀، وعاد إلى مجلسه، فوثب أبو العباس حتى خرج من المجلس وانصرف ابن جعدة وتحدث الناس بكلامه، فلامه بنوه وأهله وقالوا: عرضتنا ونفسك للبوار! فقال: اسكتوا قبحكم الله! ألستم أشرتم عليّ بالأمس بحرّان بالتخلف عن مروان ففعلت ذلك غير فعل ذي الوفاء والشكر وما كان ليغسل عار تلك الفعلة إلا هذه، وإنما أنا شيخٌ هامةٌ فإن نجوت يومي هذا من القتل متّ غدًا! قال: وجعل بنوه يتوقعون رسل أبي العباس أن تطرقه في جوف الليل، فأصبحوا ولم يأته أحد وغدا الشيخ فإذا هو بسليمان بن مجالد فلما أبصره قال: يا ابن جعدة ألا أبشرك بحسن رأي أمير المؤمنين فيك؟ إنه ذكر في هذه الليلة ما كان منك. فقال: أما ما أخرج هذا الكلام من الشيخ إلا الوفاء ولهو أقرب بنا قرابة وأمسّ بنا رحمًا منه بمروان إن أحسنّا إليه. قال: أجل.
وذكر أن المنصور أرسل إلى شيخ من أهل الشام وكان من بطانة هشام بن عبد الملك بن مروان فسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج فوصف الشيخ له ما دبّر، فقال: فعل، ﵀، كذا وصنع، ﵀، كذا. فقال المنصور: قم عليك لعنة الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي؟ فقام الرجل فقال وهو مولٍّ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي! فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع. فقال: أشهد أنك نهيض حرّةٍ وغراس شريف، ارجع إلى حديثك. فعاد الشيخ في حديثه حتى إذا فرغ دعا له بمال فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما لي إليه حاجة ولقد مات عني من كنت في ذكره فما أحوجني إلى وقوف على بابه أحد بعده ولولا جلالة أمير المؤمنين وإيثاري طاعته ما لبست نعمة أحدٍ بعده! فقال المنصور: إذا شئت لله أنت فلو لم يكن لقومك غيرك لكنت قد أبقيت لهم مجدًا مخلدًا وعزًا باقيًا.
1 / 53