فالفلسفة طريق صاعد إلى الحكمة، وشوق دائم إليها، وكلما ازددنا تفلسفا؛ ازددنا توغلا في هذا الطريق الموحش الوحيد، هذا الطريق الصاعد هو الذي نسميه عادة «بالديالكتيك»، وكلما ازداد نصيبنا من التفلسف ازداد حظنا أيضا من هذا الديالكتيك، عندئذ نجد كل شيء في الوجود في صراع وتغير دائمين، فما من شيء إلا وهو في صراع مع الضد المقابل له، وما من شيء إلا وهو في صيرورة متصلة وتحول مستمر، ونهر الحياة يسيل على الدوام؛ فنحن لا ننزل فيه مرتين. ومن العبث أن نتشبث بالموجة؛ إذ لا تلبث أمواج أخرى أن تجرفنا، ولا يلبث تيار الماء أن يتجدد تحت أقدامنا. أنت تنزل في النهر الواحد ولا تنزل فيه؛ ذلك أن النهر الواحد لا يبقى نفس النهر، وأنت أيضا لا تبقى على ما أنت عليه، فنحن ننزل في نفس الأنهار ولا ننزل فيها، ونحن نكون ولا نكون؛ ذلك أننا نتغير على الدوام، وإن احتفظنا أمس واليوم وغدا بأسمائنا. كل شيء يسيل على الدوام، كل شيء يخطو إلى الأمام ولا يبقى على حاله، كل شيء يتغير ويتبدل، وما لشيء على وجه الأرض من ثبات، وكل ما هو موجود فلا بد له أن يهوي إلى العدم، إن كان يريد أن يتشبث بالوجود، والدهر طفل يلعب، ويرتب الأحجار على لوح كبير، وما أروعه من لعب ملوكي يقوم به طفل صغير:
16
نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلام، شبع وجوع. وتعم الحرب وينشب الصراع بين جموع الأشياء، وينشأ كل ما في الوجود بمقتضى الصراع والتنازع؛ فالحرب هي أم الأشياء وملكتها جميعا، تجعل البعض آلهة وأبطالا، وتجعل البعض الآخر بشرا، وتحيل البعض عبيدا، كما تجعل غيرهم أحرارا.
17
غير أن الأضداد تلتقي في النهاية، والأعداء لا يلبث الصلح أن ينعقد بينهم، ويجتمع الكل وما ليس بكل، ويتألف المتجانس والمتنافر، وينسجم القوس مع الوتر. وليس معنى هذا أن الصراع سيتوقف إلى الأبد، أو أن تيار الحياة سيجف، وعجلتها ستكف عن الدوران، بل معناه أن التحول مستمر، وإن كنا سندرك الثبات من وراء التحول؛ ذلك أنه يتفرق ثم يتجمع، ويبتعد ثم يقترب، ولا يلبث المجتمع أن يتفرق من جديد، ولا يلبث القريب أن يبتعد. غير أن الواحد في تحوله باق، ونفس الشيء هو الحي والميت، والمستيقظ والنائم، والشاب والعجوز، والحلو والمر، والطريق الصاعد والهابط والمستقيم والملتوي واحد ونفس الشيء، والخير والشر واحد ونفس الشيء أيضا، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. والحياة جرة تمزج العسل والمر، والنصر والهزيمة، والليل والنهار بلا انقطاع. وإذا كان نهر الوجود يسيل على الدوام، فإن الأبدي يتدفق أيضا على الدوام في جميع الأشياء، وإنما يكشف الصراع بين الأضداد عن العدالة الكامنة وراءه، وتدل الكثرة المتغيرة على الوحدة الباقية.
ولكن ما هو هذا الذي يبقى وإن تحول، ويدوم على رغم التغير والتبدل؟ إن هيراقليطس يسميه تارة بالإله، وأخرى بالدهر، وثالثة بالطبيعة أو الحقيقة أو الجوهر، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. النهر الذي يسيل دائما وتتغير مياهه في كل لحظة، ويظل مع ذلك هو نفس النهر؛ فأنت تخوض فيه وتحس بتدافع الأمواج من حولك، وانسياب المياه على جسدك، وتعرف أن النهر واحد، ولكنك تعرف أيضا أن المياه تتغير فيه، والأمواج تذهب وتجيء، وأن حياتك موت لغيرك، كما أن موتك حياة للآخرين، وفي كل لحظة تسبح فيها في النهر يأتيك الدليل على أن النهر واحد ومتغير، وأن جسدك واحد ومتغير أيضا، وتعرف أن الزمن باق وإن أفنى كل ما فيه؛ ذلك أنك لا تنزل النهر الواحد مرتين.
وعلو وتحرر
كهف أفلاطون
يمهد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته، لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع. إن سقراط - الذي يجري أفلاطون على لسانه كل فلسفته - يتحدث إلى جلاوكون. الأول يصور الحكاية ويصف الكهف، والثاني يعلن عن دهشته التي تستيقظ في نفسه شيئا فشيئا، لنسمع الحديث معا قبل أن نبدأ في الكلام عنه:
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة نظر التربية ونقص التربية، بمثل هذه التجربة.
Bog aan la aqoon