الكل هو الواحد والواحد هو الكل
ونستطيع أيضا أن نقول: إن الكل يصدر عن الواحد، كما أن الواحد يصدر عن الكل، كلاهما مرتبط بالآخر في تجانس وانسجام متبادل، وكلاهما متفق ومختلف في آن واحد ... ولن نتبين العلاقة بينهما حتى نفهمها فهما «ديالكتيكيا»، أعني في إطار علاقة التوتر القائمة بينهما.
يقول هيراقليطس:
13 «على أن الكل يديره (يحكمه، يدبره، يوجهه) البرق، فالبرق يكشف الكل، ونوره الخاطف يظهره ويجليه.» والبرق هنا هو الاسم الذي كان اليونانيون يطلقونه على «زيوس» كبير الآلهة، ورب البرق والرعد والصواعق؛ ومن ثم كان زيوس كبير الآلهة هو اللوجوس، وكان اللوجوس أو «الواحد هو الكل» هو أكبر الآلهة، وهو القدر الذي يحكم الكل، ولكن هل يجيز لنا هذا أن نقول: إن زيوس واللوجوس والواحد والكل شيء واحد؟ هل نفهم منه أن هيراقليطس يقول بوحدة الوجود؟ إن هيراقليطس لا يعلم مذهبا ولا يقول بنظرية، إنه مفكر، والمفكر يدعوك إلى التفكير معه، ولا شيء غير هذا، ولقد حير معاصريه كما حير الأجيال التي جاءت بعده حين قال كلمته المشهورة:
14 «إن الواحد - المتصف وحده بالحكمة - يريد ولا يريد أن يسمى باسم «زيوس»، هو يريد أن يسمي نفسه زيوس، وهل هناك اسم يليق به أفضل من اسم كبير الآلهة؟! ولكنه يعود فينفي ما يريد؛ إذ أين لمنبع الحكمة كلها وكيف لقدرها الوحيد أن يحيط به اسم من الأسماء؟»
هيراقليطس هنا ينفي ويؤكد في آن واحد، وينسب للآلهة ما يسلبه من البشر، ويدفع بالتفكير لأول مرة على طريق «الديالكتيك» الذي يسمح بالتناقض والمفارقة، ويجمع بين الأضداد والمتقابلات على الطريق الطويل الذي وصل إلى قمته عند هيجل، وها نحن أولاء نلمس اليوم آثاره في الصراع السياسي والمذهبي الدائر بين الشرق والغرب، فكلمته السابقة تحتوي في ظاهرها على التناقض؛ حين تؤكد أن الواحد الحكيم يريد ولا يريد أن يتسمى باسم زيوس. غير أن هذا التناقض لا يعبر عن ضعف في الفهم أو خطأ في الحكم، بل ينبع من تفكير لا يطيق الجمود عند حالة واحدة ولا الوقوف عند طرف واحد، بل يتحرك دائما من حالة إلى حالة ، ومن طرف إلى طرف (وهو ما نسميه عادة بالتفكير الديالكتيكي).
ثم يعود هيراقليطس فيحيرنا معه حين يقول عبارته المشهورة: «إن الطبيعة (فيزيس) تحب التخفي»، فالطبيعة هنا (أو الجوهر أو الحقيقة) التي من شأنها أن تظهر وتنمو وتتجلى، تحب مع ذلك أن تكمن وتتخفى. عبارة تنطوي على المفارقة، ولكن المفارقة قائمة في جوهر الطبيعة نفسها، فمن دأبها أن تحجب نفسها، وأن تخفي عن الإنسان حقيقتها،
15
ولولا أنها تحب الاختفاء وتمنع نفسها عن طالبيها لما جذبت إليها الفلاسفة، ولما سمي هؤلاء محبي الحكمة والمشتاقين أبدا إلى القرب منها والتشبه بها. «الطبيعة (ونستطيع أيضا أن نقول: الحقيقة أو الجوهر) تحب الاختفاء.»
هذه الكلمة تلخص جوهر الفلسفة كلها.
Bog aan la aqoon