أروني رجلا واحدا لم يفسد حكمه على الأشياء والأشخاص والمعاني بسبب ما يبتلى به من انهدام صرح العدالة حين يرى الظلم يطارده أو يطارد من يحب!
وهذا التصعلك الذي ابتدأ به دعبل وانتهى إليه هو مصير كل رجل تخذله المقادير السياسية، والمنهزمون في السياسة لا ينظرون إلى الأمور إلا من جانب واحد؛ لأن الهزيمة تذهب بأصول التفكير المعقول، وتقف الرجل على أهوائه وآماله، وتحول فلسفته في الحياة إلى أمشاج من الضغن والتلوم والقنوط.
والوزراء الذين كان يكلف بهجائهم دعبل، من هم؟ لا نريد أن نسأل عن ذاتيتهم في حقيقة الأمر، فقد يكون فيهم ناس نبلاء، ولكن من هم في نفس دعبل؟ هم ظلمة عاونوا الظالمين، وخونة عاونوا الخائنين، ويكفي أن تثور معاني الظلم والعدل في نفس شاعر ليصبح وهو ثائر مخبول.
وما أريد بهذا أن أدافع عن دعبل، ولكني أريد أن أفهم كيف اتفق أن يكون قلبه مسرحا لحوادث العنف واللين، وكيف صح له أن يجمع بين سفه اللئيم ورفق الحليم، وكيف جاز أن يكون أحط الناس وأشرف الناس؟ وأظنني وصلت من ذلك إلى بعض ما أريد.
ولو كان الرواة فطنوا إلى ما كان في نفس دعبل من التعقد والاشتباك لما عدوا عليه خيانته للرشيد، فقد ذكروا أن الرشيد طرب حين غني بين يديه:
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
وسأل عن صاحب الشعر فقيل له: دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة، فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه، فأحضر ذلك فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته، وقال له: اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي، فإذا دللت عليه فأعطه هذا، وقل له ليحضر إن شاء، وإن لم يحب ذلك فدعه ... فسار الغلام إلى دعبل وأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه، وحضر دعبل إلى الرشيد فأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا.
ولكنه ما كاد يسمع بموت الرشيد حتى كافأه على ما صنع به من الغنى بعد الفقر والنباهة بعد الخمول أقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد :
وليس حي من الأحياء نعلمه
Bog aan la aqoon