يغلب على الظن أن الرجل تلقى في طفولته حب أهل البيت، فصار حبهم كاللحن القديم الذي يسمعه الإنسان وهو طفل فيظل يلاحقه بأنغامه وهو كهل، وهناك نفوس لا تعرف غير هوى واحد في عالم السياسة، ويتأصل فيها ذلك الهوى حين تنهزم، ولا تزال تحرص عليه حتى يتحول إلى تصوف، وإذا انقلب الهوى إلى تصوف فلا نجاة منه ولا خلاص.
ولو أن أهل البيت لعهد دعبل استطاعوا أن ينتصروا وأن يزحزحوا السياسيين لاستطاعت الدنيا أن تغير من نفسه قواعد ذلك الهوى، ولكنهم ظلوا مدحورين فبقي الإشفاق عليهم حيا في نفسه حياة قوية، وظل حبهم يعذبه ويعنيه فينطقه في البكاء عليهم بأرق ما عرف شعراء الوجدان.
ومن الذي يتصور أن ذلك الرجل الذي يلؤم أشنع اللؤم في معاملة الخلفاء يمضي فيستوهب ثوبا من علي بن موسى؟ ولم يستوهب ذلك الثوب؟ ليجعله في أكفانه يوم يموت!
إن قصة ذلك الثوب عجيبة: فقد خلع علي بن موسى جبة كانت عليه وأعطاها دعبلا، وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبا، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، وإلا فأنت أعلم! فقال لهم: إني والله لا أعطيكم إياها طوعا، ولا تنفعكم غصبا، فإنها إنما تراد لله عز وجل، وهي محرمة عليكم. فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فرد كم ليكون في أكفانه. وتلك حادثة غريبة المعنى والمدلول، لكن غرابتها لا تظهر إلا لمن يجهلون أسرار النفوس، وإلا فأي غرابة في أن تجتمع الرقة والقسوة والعنف واللين في قلب الشاعر الموهوب؟
إن الشاعرية لا تقوم إلا على أساس التطرف في الحب والبغض، وقد جمع دعبل بين العاطفتين، فكان يوجه قسوته إلى الخلفاء، وكان يوجه رقته إلى أهل البيت.
ونحن نشهد في دنيانا رجالا على جانب عظيم من العنف يخضعون أتم الخضوع لبعض النوازع الوجدانية، ونرى ناسا يقضون أيامهم في اللهو والقصف، فإذا جاءت فرصة للهدى رأيناهم أول المنيبين.
والحق أن النفس الإنسانية معقدة أصعب التعقد ومشتبكة أخطر الاشتباك، والبساطة في الأهواء من شيم الأطفال، أما اقتتال الحق والباطل، واصطراع الهدى والضلال، فلا يكون إلا في النفوس القوية التي تدرك كيف يكون اصطدام العقول وتصاول الآراء.
والذين وقفوا عند الجانب السخيف من أخبار دعبل لم يفهموه حق الفهم، ولو قد فهموه لتمثلوا تلك الروح الصوفية، التي أوحت إليه أن يكتب تائيته على ثوب ويحرم فيه ثم يأمر بأن يكون ذلك الثوب في أكفانه يوم يموت.
فإن هذه اللمحة الشعرية لا تقع إلا من رجل خاشع القلب رقيق الوجدان، ومن الظلم أن ننسى هذه المعالم الروحية حين نتحدث عن ذلك الشاعر الذي أضيف إلى زمرة الخونة والصعاليك.
وما الذي يمنع أن نفهم أن سوء ظنه بالناس لم يقع إلا لنكبته بسيادة الظلم والظالمين؟
Bog aan la aqoon