على أن هذه الشوائب، التي ربما كانت أمرا لا مفر منه في مدينة لها تكوين مدينة نيويورك، لا تقلل بحال من المتعة التي يستطيع كل متذوق للفن أن يكتسبها عندما يقيم في بلد يجتذب، كالمغناطيس، كل فنان ناجح مرموق من جميع أرجاء العالم، فضلا عن أولئك الذين استوطنوا المدينة، وهجروا بلادهم الأصلية منذ عشرات السنين.
وإني لأذكر، من بين أعظم من شاهدت من الفنانين الضيوف، قائد الأوركسترا المشهور «هربرت فون كارايان»، إمبراطور الموسيقى الأوركسترالية في القارة الأوروبية بلا منازع. وما أعظم الفارق بين هذا النمساوي العريق وبين صاحبنا «برنستين» القائد الدائم لأوركسترا «نيويورك فيلهارمونيك». لقد استطاع «فون كارايان» أن يضفي على القاعة بأسرها، بعازفيها ومتسمعيها معا، جوا من المهابة والجلال لم أشهد مثله في أي حفل موسيقي حضرته. لم يكن يسرف في إشاراته إلى الأوركسترا، ولكن كل حركة من حركاته القليلة كانت لها دلالتها البالغة، حتى لأكاد أقول إن المرء يستطيع التعرف على اللحن من حركات أصابعه وذراعيه، حتى لو لم يكن يسمع منه شيئا، وكان في شخصيته عنصر واضح من الوقار والقدرة على السيطرة وكسب الاحترام، وقد استقبله الجمهور وودعه بعاصفة من التصفيق لا تشهدها القاعات الموسيقية إلا في أحداثها الكبرى.
ومن العازفين المستوطنين الذين يصعب أن ينساهم المرء، عازف الفينولينة الكبير «جوزيف زيجيتي» الذي كان شيخا مسنا عند مشاهدتي له في عام 1959م، ولكنه كان لا يزال ذلك الفنان الشديد الحساسية، القوي الشخصية، الذي يعرفه الجميع من تسجيلاته المشهورة. والحق أن لدى زيجيتي قدرة فريدة على أن يضفي طابعه المستقل الخاص على كل قطعة يعزفها. وأسلوبه في العزف من تلك الأساليب التي تستطيع الأذن الخبيرة أن تميزها دون عناء؛ إذ إنه، برغم قدم عهده بالموسيقى العالمية، ما زال يحتفظ بآثار من طريقة عزف موسيقى الغجر (التسيجان) التي تشتهر بها بلاده الأصلية، المجر. وبرغم أن طريقته في العزف تبدو في نظر البعض خشنة متحشرجة إلى حد ما، فإني لا أستطيع أن أنكر إعجابي الشديد بأصالة هذا الفنان وقدرته الفريدة على أن يضفي في كل مرة شيئا جديدا حتى على أوسع المؤلفات الموسيقية ذيوعا وأكثرها تكرارا في قوائم البرامج.
ويطول بي الحديث لو وصفت الانطباعات التي تركها في نفسي عزف «كلاوديو أراو» (أشهر عازفي أمريكا اللاتينية)، أو رودلف فركوجني (التشكوسلوفاكي)، أو فيليب أنترمون (البلجيكي الرشيق الشاب) على البيانو، أو قيادة آندريه كلوتانز
André Cluytens
أو شارل مونش أو بيير مونتو للأوركسترا ... إنهم جميعا عباقرة، وكلهم من ذلك النوع النادر من البشر، الذي يملك مواهب فذة تضفي سعادة على كل من يستمع إليه - وهل هناك ما هو أندر في هذه الأيام من إنسان تشع السعادة من حوله لكي تضيء حياة كل من يحيط به؟ •••
ولست أود أن أطيل الحديث عن المصادر الأخرى لتجربتي الموسيقية خلال إقامتي في الولايات المتحدة؛ إذ إن الحديث عن الأوبرا ليس في كل الأحوال حديثا شائقا في نظر القارئ الشرقي، حتى لو كان من عشاق الموسيقى العالمية، وحسبي أن أقول إنني استمتعت في دار «المتروبوليتان» للأوبرا بسماع عدد من الفنانين العالميين، منهم ريناتا تيبالدي، السوبرانو ذات الجسم الممتلئ والملامح التي تشع بروح الأمومة، وماريا كالاس اليونانية العصبية المزاج، ذات الصوت الأنثوي الدافئ، وجورج لندن صاحب الصوت «الباص» الفخم، الذي كان ينتظره عندئذ مستقبل زاهر. أما أصوات التينور فكانت هناك أزمة عامة فيها خلال تلك الفترة، وأظن أن هذه الأزمة ما زالت قائمة إلى اليوم؛ إذ لم يظهر بعد «بنيامينو جيلي» (الإيطالي) في الأربعينيات، ثم «يوسي بيورلنج» (النرويجي) في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، صوت من أصوات «التينور» يسد الفراغ الذي تركه كبار الفنانين في العصر الذهبي لهذا الصوت خلال النصف الأول من هذا القرن.
ومن الذكريات الطريفة التي أذكرها من دار أوبرا «المتروبوليتان»، أن مغنية روسية مشهورة - لا أذكر اسمها - حضرت لأداء بعض حفلات الأوبرا، ولم تكن تجيد اللغات الأخرى اللازمة في غناء الأوبرات، ولا سيما الإيطالية، وكانت الأوبرا التي شاهدتها تؤديها هي «مدام بترفلاي»، وقد أدتها بطريقة غريبة حقا؛ إذ كان جميع المغنين الآخرين يغنون بالإيطالية، بينما ترد هي عليهم بالروسية، ولم يكن في هذا الاختلاف اللغوي أي إقلال من متعة النغم، وكان واضحا أن الجمهور معجب كل الإعجاب بصوتها القوي ومقدرتها على التحكم في طبقات هذا الصوت. ومع ذلك ففي إحدى اللحظات الدرامية في الأوبرا كان التينور يغني، وعندما جاء دورها في الرد قالت: «نييت» (ومعناها بالروسية: لا)، فدوت أرجاء القاعة بالضحك. أما سبب الضحك (وهو ظاهرة نادرة بين جمهور الأوبرا، ولا سيما في المواقف الدرامية)، فهو أن كلمة «نييت» هذه هي نفسها التي يستخدمها المندوب السوفييتي في مجلس الأمن كلما استخدم حق الفيتو - وما أكثر ما يستخدمه - وهي كلمة أصبحت مشهورة ومكروهة لدى الأمريكيين؛ لأنها طالما أطاحت بخطط تريد حكومتهم أن تفرضها على المنظمة العالمية! •••
وما دمت في معرض الحديث عن الجمهور الأمريكي، فمن الواجب أن أذكر أن عشاق الموسيقى العالمية فيه أقلية، بل هم أقلية ضئيلة إذا قيسوا بنسبتهم في بعض البلاد الأوروبية. والحق أن أنضج شعوب العالم لا تنطوي إلا على نسبة محدودة من محبي هذا النوع من الموسيقى. ومن الخطأ أن يظن البعض أن هناك شعوبا يتذوق كل أفرادها الموسيقى الكلاسيكية، وكل ما في الأمر أن النسب تتفاوت تبعا لمدى ارتفاع مستوى الثقافة العامة لدى الشعب. ومن المؤكد أن هناك، حتى من بين أولئك الذين يحسبون ضمن عشاق الموسيقى العالمية بين الأمريكيين، عددا غير قليل يواظب على حضور حفلاتها حبا في الظهور وادعاء للثقافة والتعمق فحسب. وأذكر أن جاري في حفلات «كارنيجي هول» كان ينام بعد بدء العزف بقليل في معظم الحفلات، وأنه في المرات التي كان يصيبه فيها «الأرق» كان يخرج من جيبه ورقا وقلما ويقوم خلال العزف بعمليات حسابية لا أول لها ولا آخر - ومن الواضح أن أحواله المالية كانت أهم لديه بكثير من سماع الموسيقى النادرة التي تتجاوب في أرجاء القاعة. وهناك جار آخر علمت منه أنه مشترك منذ أكثر من خمسة عشر عاما، استمع مرة إلى برنامج للموسيقى المعاصرة يتضمن قطعة لمؤلف أمريكي اسمه «وليام شومان» فسألني متعجبا بعد انتهائها: كيف يعزفون قطعة من موسيقى القرن التاسع عشر لشومان في حفل مخصص للموسيقى المعاصرة؟ وكان السؤال غاية في الغباء؛ إذ إن الفرق بين أسلوب روبرت شومان، الفنان الألماني المشهور في العصر الرومانتيكي، وبين الأسلوب المعاصر لشومان الأمريكي، فارق لا يحتاج المرء إلى أية خبرة لكي يدركه على الفور، حتى لو لم يكن قد عرف من قبل بوجود «شومان» آخر في تاريخ الموسيقى الأمريكية. وبطبيعة الحال لا يحق للمرء أن يصدر حكما عاما على أساس حالات فردية كهذه، ولكن الملاحظ بالفعل أن حب التظاهر بالثقافة - وهو تعويضي منتشر بين أوساط الأثرياء - يدفع عددا غير قليل من الناس إلى حضور الحفلات الموسيقية بانتظام، كما لو كانوا يؤدون طقسا من الطقوس أو فرضا من الفروض التي لا يكون المرء بدونها معدودا في زمرة المثقفين. •••
ولست أود أن أختم هذه الذكريات الموسيقية عن فترة إقامتي في الولايات المتحدة، دون أن أتحدث عن مصدر هام من مصادر الثقافة الموسيقية في هذه البلاد، وهو الإذاعة؛ فمن بين المحطات الإذاعية الكثيرة جدا التي تنتشر في كل مدينة كبرى،
Bog aan la aqoon