3
توجد دائما محطة أو اثنتان مخصصتان للموسيقى العالمية، تقدم إلى مستمعيها موردا لا ينضب من هذا الفن الرفيع. وصحيح أن هذه المحطات تشوبها في معظم الأحيان شائبة الإعلانات السخيفة، التي تهبط بالمستمع، بعد سماع رباعية وترية لبيتهوفن مثلا، إلى حضيض الإعلان عن أحدث دواء للصداع (الذي يسببه الإعلان ذاته بالطبع!) ولكن الأعمال الموسيقية الكبيرة تذاع كاملة دون مقاطعة وتسبقها عادة مقدمات تحليلية شارحة لمعلقين على مستوى عال من الثقافة. وبفضل طول مدة الإذاعات، تتاح للمستمع فرصة المقارنة بين التسجيلات المختلفة للعمل الموسيقي الواحد، فضلا عن سماع أعمال وتسجيلات نادرة.
4
والأمر اللافت للنظر حقا في هذه الإذاعات، والذي ينبغي أن نتنبه جيدا إليه، هو المستوى الهندسي الرفيع لطريقة الإذاعة نفسها؛ فقد استحدثت طريقة جديدة في الإذاعة، اسمها
FM (اختصار
Frequency modulation ، وهو تعبير في اللاسلكي لا أستطيع ترجمته، وحتى لو استطعت فلن أتمكن من شرحه) تمتاز بأنها تنقل الصوت نقيا إلى أبعد حد، بحيث تصل إلى أجهزة الاستقبال كل دقائق الموسيقى وتفصيلاتها الصوتية، وكلما ارتفع مستوى جهاز الاستقبال، كانت الموسيقى أصفى وأنقى. وعن طريق هذه الإذاعات يستطيع البعض، ممن توافرت لديهم أجهزة استقبال حساسة، أن يسجلوا المقطوعات المفضلة لديهم على شرائط بطريقة لا تقل في دقتها عن التسجيل في استديوهات الأسطوانات ذاتها. وبطبيعة الحال فإن هذا كله يقتضي نوعا من الوفرة لا نستطيع أن نطمع فيها الآن في مجتمعاتنا. ولكن العناية بالموسيقى المقدمة في الإذاعة لن تكلفنا كثيرا، لا سيما وقد أخذت الساعات المخصصة للموسيقى العالمية تزداد إلى حد لا بأس به في برامجنا الإذاعية؛ ذلك لأن في إذاعاتنا المحلية نوعا من التحريف أو التشويه الصوتي
distortion
يفسد المتعة الموسيقية، ولا سيما في حالة الأصوات الشديدة الارتفاع أو الانخفاض، مهما كانت دقة جهاز الاستقبال. ومن الممكن تلافي هذا العيب بتوجيه عناية خاصة إلى إذاعة البرامج الموسيقية، والاستفادة بخبرة الدول الأخرى في هذا الميدان.
وبرغم أن الموسيقى الكلاسيكية تحتاج بطبيعتها إلى أن تسمع بصوت مرتفع؛ حتى تستبين للأذن أصوات كل الآلات، الظاهرة منها والخفية؛ وحتى يتسنى تمييز الأجزاء الهادئة التي ينخفض الصوت فيها انخفاضا شديدا. وبرغم أن الشعب الأمريكي لا يقف في الصف الأول بين الشعوب الناضجة ثقافيا وخلقيا، فإني لا أذكر أنني سمعت مرة واحدة صوت موسيقى يعلو من داخل البيوت إلى الشارع أو إلى آذان الجيران. صحيح أن هناك أماكن تسمع فيها موسيقى صاخبة، ولكنها أماكن مقفلة يدخلها من يرغبون في الصخب، أما في الأماكن العامة، أو في البيوت، فلا أثر لضجيج الإذاعات على الإطلاق. ولعل القراء قد شاهدوا في الأفلام منظر الفتاة المراهقة التي تمسك بالترانزستور وتلصقه بأذنها وتسير متراقصة على أنغامه دون أن يشاركها في سماعه أحد؛ هذا ما يفعله مخترعو الترانزستور. أما عندنا، فإنه يغزو البيوت من نوافذها في أحلى ساعات النوم، ويجلجل في السيارات العامة والقطارات، بل ويتسلل إلى مكاتب الموظفين لكي يضيف عاملا آخر إلى عوامل تعطيل الإنتاج. •••
ولعل أفضل ما اكتسبته من سفرتي التي أطلت عنها الحديث، مجموعة الأسطوانات المختارة التي اقتنيتها، وجهاز الأداء الذي ينقل إلي أنغامها. ولست أدعي أن لدي كل ما أريد من التسجيلات (وهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك؟) ولكني حاولت أن أكون لنفسي مجموعة كبيرة متوازنة من التسجيلات تغطي كافة فترات الموسيقى واتجاهاتها وأنواعها.
Bog aan la aqoon