ولكن لم يكن من الممكن أن تحتفظ المدينة بتمام استقلالها، وهي بين شقي الرحى، بين أضخم إمبراطوريتين في الدنيا، نعني بهما: الفارسية والرومانية، فخيم عليها ظل النفوذ الروماني منذ أوائل العهد الميلادي، وزارها الإمبراطور هادريان في السنة 130، فألحقها إلحاقا بالإمبراطورية وسماها تدمر هادريان، ومر عليها أمد وهي جزء مندرج في جسم الإمبراطورية.
على أن ذلك كله - ويا للغرابة! - لم يكن إلا مقدمة لنهضتها العظيمة.
استمرت الحرب لا تخمد نارها بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فكان أن برز في الفرس الإمبراطور سابور الأول، فأوقع بالإمبراطور الروماني فاليريانوس هزيمة شنعاء، وقبض عليه أسيرا، فلم يستطع الثأثر لفاليريانوس غير بطل عربي تدمري هو أذينة بن السميذع، طارد سابور الأول في السنة 265 حتى أسوار المدائن عاصمة الفرس.
فأشرق نجم أذينة، وأشرق نجم تدمر، واعترف الإمبراطور الروماني غلينوس، الذي خلف فاليريانوس، بعظيم ما أسدى أذينة من معروف، فلقبه بالإمبراطور، وأقره قائدا أعلى للفيالق الرومانية في الشرق، وهكذا باتت سلطة أذينة مبسوطة على سوريا وشمال الجزيرة العربية، وربما اتسعت إلى مصر وآسيا الصغرى وأرمينيا أيضا، وباتت تدمر مدينة من أعظم مدن الدنيا في وقتها، تباري روما والإسكندرية ومدائن فارس.
ولكن يدا مغتالة لم تلبث أن امتدت إلى البطل أذينة، ولا يزال مصرعه سرا من الأسرار، فقد جاء حمص في السنة 267، فوجد مقتولا بالسيف، ويقال إن ابنه قتله، ويقال ابن أخيه، ويقال إن زوجته زنوبيا هي التي دبرت مقتله ليخلو لها وجه الملك. وإنها كلها لضروب من الحدس، والطبيعي أن تكون روما هي التي عملت على إزالته من الوجود، خوفا من تعاظم بأسه وسلطانه، والموقف الذي اتخذته الملكة زنوبيا، بعد موته، لا يدل على ممالأة أو اشتراك منها في الجريمة. وكان أولاد أذينة جميعهم قصرا، فليس من المنتظر أن يقتل ولد قاصر أباه.
وعلى كل حال، مات أذينة وملكت زنوبيا باسم ولدها وهب اللات (اللات صنم)، وكانت هذه الأنثى التي صعدت العرش امرأة حسناء، مثقفة، على أن قلبها قلب لبوءة. رأت لديها جيشا تدمريا لا يقل عن خمسين ألفا من المقاتلين المجهزين بخير أسلحة العصر، وآنست ضعفا من روما، وتحركت فيها شهوة الثأر لزوجها، وتذكرت أن رجلها كان يتطلع إلى مستقبل خاص بتدمر، منفصل عن سيادة الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن هي أقل طموحا ولا أصغر بطولة.
فقادت جيوشها وزحفت بها على مصر في السنة 270، فاحتلت الإسكندرية، وهي، وإن كانت عربية، فقد كان فيها عرق أفريقي ينتهي بها إلى كليوباترة والبطالسة وكأنها لما دخلت وادي النيل تذكرت جدتها التي دجنت بجمالها يوليوس قيصر وأنطونيوس، ثم قضى عليها أوكتافيوس الذي أصبح أول إمبراطور على روما، وزحفت، في السنة نفسها أيضا، شطر آسيا الصغرى، وجعلت من أنطاكية عاصمتها الثانية، ودفعت بالفيالق الرومانية إلى وراء، حتى أنقرة، وكانت جد موفقة بقائديها الكبيرين زبده وزباي.
لقد بلغ كوكب تدمر العربية أوجه في الصعود والإشراق.
ثم تولى عرش روما الإمبراطور أوريليانوس، فسار مع الملكة العربية سيرة مهادنة في أول الأمر، ولكنه كان يلبس في إحدى يديه قفازا ناعما من مخمل، ويجمع اليد الأخرى ليكيل الضربة.
وما كادت تقبل السنة 272 حتى تحرك أوريليانوس بجيوشه الجرارة، فهزم القائد زبده في معركة على مقربة من أنطاكية، ثم هزمه في وقعة حمص، وتقدم إلى أسوار تدمر نفسها.
Bog aan la aqoon