Wixii Habeen Walba Ka Haray Habeenka
ما يتبقى كل ليلة من الليل
Noocyada
كان جعفر العقيلي يظهر وجهه البدوي ومنطقه المدني في اللحظة نفسها، والحارس يزداد صلابة وتحديا، ويعد القضية مسألة حياة أو موت، إلى أن نقر العقيلي في أرقام جواله، وحدث شخصا، تبين لنا أنه وزير الثقافة الشاعر جريس سماوي، وأعطى الهاتف النقال للحارس، الذي سمع صوتا رسميا يأتيه عبر الهواء الإلكتروني، فيهدأ ثم، ومن فوره يجيء رجل من أقصى المدينة يسعى، يحمل كراسات ثلاثا لنا، فيها معلومات سياحية عن البترا، يبتسم الحارس ويفتح لنا الباب على مصراعيه، ويتمنى لنا زيارة موفقة وطيبة.
كان هذا الطقس لا بد منه، هذه المدينة التي كلف دخولها في الماضي الأرواح، وقد قتل عند بوابتها القائد أنطيوخوس الثاني عشر، في سنة 88 قبل الميلاد، وفر جيشه إلى قانا، وهلك معظم جيشه جوعا، ومن البوابة نفسها خرجت جيوش الملك عبادة الأول لتلحق الهزيمة النكراء بجيش الإسكندر جانيوس، ومنها أيضا خرج الجيش العرمرم؛ ليستولي على سهل البقاع ودمشق في سنة 85 ق.م، وعند البوابة نفسها كانت مراسم استقبال الفرعون المصري الزائر وابنته الجميلة، حيث بنى لها الأنباط قصرا خاصا سمي بقصر البنت، وهو ذو عمارة متميزة وغريبة عن عمارة الأنباط المتأثرة بالأسلوب الروماني الهلنستي.
ومن البوابة نفسها دخلت جيوش الرومان تحت إمرة القائد تراجان في سنة 106 ميلاديا، وأنهت استقلال دولة عربية قوية وفاعلة، نشأت من عمق البداوة والترحال؛ لتبني ملكا غريبا وجميلا وداهشا، إذن أليس لذلك الحارس الحق في الدفاع عن تلك البوابة التي تتمتع بهذا الموقع الاستراتيجي والأمني المتميز؟
كل شيء حولك لونه وردي، فهو لون الصخرة التي نحتت فيها هذه المدينة التي لا شبيه لها، إذ إنها نحتت في الصخر، ولم تبن منه أو فيه أو عليه، وتبدو الفكرة من وراء إنشائها واضحة منذ المدخل الضيق جدا، الذي ترتفع على جانبيه صخور عملاقة وشاهقة، كأنهما فكان عملاقان لحوت صخري، قد يطبقان عليك في أي لحظة؛ أي أنها بنيت لتكون حصنا آمنا لا يستطيع الغزاة دخوله إطلاقا، طول هذا المدخل يبلغ الكيلومترين، وينتهي فجأة في ميدان كبير تواجهك منه بناية، أو قل منحوتة ضخمة، هي ما اصطلح على تسميته الخزنة، وكعادته، كان صديقي يوسف البحري يعبر عن دهشته بالتقاط الصور، طلب مني أن أصوره في كل زاوية ومكان، وتوغلنا ليدهشنا المدرج العظيم الذي بإمكانه أن يسع 7000 شخص، والذي نحت أيضا على أسلوب المدارج الرومانية القديمة مثل التي توجد في عمان.
هناك أيضا مبنى المحكمة في طابقين، وهي أحدث من محاكم توجد اليوم في بلدان كثيرة، التقطت لصديقي صورا أمام ضريح الجرة، وضريح الحرير، وشارع الأعمدة، وضريح الجندي الروماني، وقصر البنت (بنت فرعون)، ولكل ما رأته عيناه اللتان تريان كل شيء.
كنت أعلم أن وراء كل منحوتة قصة، من ثلاثة جوانب: البناة، والمبني له، وحكاية المبني نفسه، هذه القصص الثلاث تحكي تأريخ المكان، وكلما تذكرت البناة طاف في خاطرتي عمال كثر كانوا ضحايا للحضارات العظيمة: بناة الأهرامات في السودان ومصر، بناة برج بابل، نحاتو مساكن البترا ومسارحها ومدارجها وأضرحتها، حفارو قناة السويس، ذلك النفر من البشر الذين لا ينتبه أحد إليهم، وفي الغالب ما كانوا يستمتعون بما يقومون به من عمل، علينا أن نتذكرهم ونحن في دهشة اكتشافنا لهذا الجمال الذي أبدع بدمهم وسقي بعرقهم وملح دموعهم.
حوار مع وداد الحاج
- تلقبون في الأوساط الثقافية بالزبون الدائم لمقص الرقيب كيف تم بناء هذه العلاقة الملتبسة مع الرقابة؟ - الرقيب، ذلك الوحش الوفي والقارئ المواظب لأعمالي، ناقدي المهووس المنحاز دائما ضد كتاباتي، المصاب بجنون العظمة وعقدة النقص في ذات اللحظة، الذي لا يؤمن إلا بأفكاره الخاصة عن الدين والأدب، وهو لم يسمع بهما بعد، والذي لديه مقدرة خارقة على وزن الأدب بميزان الدين والأخلاق وقانون النظام العام و«المشروع الحضاري» للسلطة، وكل شيء آخر ما عدا ذائقة الفن.
هذه العلاقة الملتبسة سببها سوء فهم لا أكثر، حيث يظن البعض أن في كتابتي ما يسيء لمشروعاتهم الأيدلوجية، ويخترق خطاباتهم المستقرة، بالطبع لا أقصد ذلك، كل ما أفعله هو أنني أنحاز لمشروعي الإنساني؛ أي أكتب عن طبقتي: أحلامها، آلامها، طموحاتها المذبوحة، وسكينتها أيضا التي تذبح هي بها الآخر، وحتى لا يلتبس الأمر مرة أخرى، أقصد بطبقتي المنسيين في المكان والزمان، الفقراء، المرضى، الشحاذين، صانعات الخمور البلدية، الداعرات، المثليين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لا يعرفون عنها خيرا، المتشردين، أولاد وبنات الحرام، الجنقو العمال الموسميين، الكتاب الفقراء، الطلبة المشاكسين، الأنبياء الكذبة، وقس على ذلك من الخيرين والخيرات من أبناء وطني، إذن أنا كاتب حسن النية وأخلاقي، بل داعية للسلم والحرية، ولكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك.
عندما صودرت مجموعتي القصصية الأولى: على هامش الأرصفة، كانت قد صادرتها نفس الجهة التي قامت بطباعتها، وهي وزارة الثقافة في إطار فعالية الخرطوم عاصمة للثقافة العربية! حيث ظن بعض السلطويين أنني أحاكم مشروع العاصمة الثقافية العربية من داخله، وكان ذلك في 2005، ثم حدثت معاكسات هنا وهنالك، ولم يتم إعطائي إطلاقا طوال العقدين من الكتابة المتواصلة «رقم قيد» خاصا بالسودان لأي من كتبي، ثم جاءت الطامة الكبرى عندما صادروا روايتي: الجنقو مسامير الأرض، مدعين أنها تتحدث عن المسكوت عنه، وأن بها ما يخدش الحياء العام، وأنها تخالف قانون المصنفات الأدبية والفنية في المادة 15 منه، وقمت بتقديم شكوى ضد وزارة الثقافة، وهي الأولى من نوعها في السودان، والقضية الآن تنظر في المحاكم. - مباشرة بعد حصولك على جائزة الطيب صالح للرواية، قلت إنك تشعر وكأنك مصاب بالغثيان، هل تشعر بعدم جدوى مثل هذا النوع من التكريمات؟ - وما زلت أحس به، أشعر بأنني سعيت إليها مدفوعا، حيث إنها تمثل البديل الوحيد لتوصيل الكتاب إلى القارئ، والناقد الجاد في بلد لا توجد فيه مؤسسة ثقافية فعلية رسمية واحدة، ومكبل فيه العمل الثقافي بقوانين عفا عنها الزمن، وهي أقرب لقوانين محاكم التفتيش في القرون الغابرة، لقد كنت وصوليا وحقيرا وأنا أستلم تلك الجائزة وغيرها من الجوائز، حقيقة لم أحس بنيلي للجائزة أنني أنجزت بذلك شيئا ذا بال، بل فضحت نفسي أكثر، بالطبع، مع كامل احترامي لجائزة الطيب صالح ومركز عبد الكريم مرغني الذي يعمل في صمت وظروف صعبة من أجل الثقافة والإنسان. - أثارت ثلاثيتك - البلاد الكبير - من حولها الكثير من الزوابع التي لم تهدأ بعد لحد الساعة، وقيل: إنها تعرضت للحجز والمنع من التوزيع، هل يعني ذلك أنك أمعنت في القفز على الحواجز وتعدي الخطوط الحمراء؟ - المشكلة في المنفستو الخاص الذي أتبناه، ولم أحد عنه حتى الآن، لمن أكتب ولم أكتب، وكيف أكتب؟ - بعيد خروجك من مغامرة الثلاثية الأولى، خضت غمار عمل آخر، اخترت له اسم «الجنقو مسامير الأرض»، ويبدو أن شبح الرقيب لا زال وفيا لتعامله السابق معك رغم كونها حظيت بجائزة مسابقة الطيب صالح. - رواية الجنقو مسامير الأرض لم تشفع عنها جائزة الطيب صالح، ولا المحكمين، ولا القراء، وسوف تظل مصحوبة بلعنات السلطات السودانية إلى أن يمن لنا الله والشعب بثورة ديمقراطية في زمن ما، وتقام المؤسسات الثقافية التي ترعى الحريات، ويأتي وزراء الثقافة الذين يفرقون ما بين الأدب والأجندات الحزبية.
Bog aan la aqoon