153

Lorca Gabayga Andalus

لوركا شاعر الأندلس

Noocyada

وقد أدى ابتعاد اليمينيين تماما عن تمثيل مدينتهم في البرلمان إلى توحيد صفوفهم، والإعداد سرا للانتقام بتخزين الأسلحة والتحضير للاستيلاء على الحكم بالقوة، كما أن ذلك عزز موقف «الفالانج» داخل اتحاد الأحزاب اليمينية، وانتصار رأيه بضرورة استخدام العنف لصد المد اليساري والشيوعي، وزاد في تسهيل مهمة اليمينيين بعض الانشقاق الذي وقع بين فروع الأحزاب التقدمية في غرناطة حول تعيين عمدة للمدينة، وهو بمثابة المحافظ، ولم تجد هذه الأحزاب حلا إلا في اختيار الدكتور «مانويل مونتسينوس» الاشتراكي، عمدة لغرناطة، وجدير بالذكر أن «مونتسينوس» هذا هو زوج «كونشا» شقيقة لوركا، ولم يشغل منصبه ذاك سوى عشرة أيام، إذ إنه كان من أوائل الأشخاص الذين أعدموا غداة الانقلاب الملكي.

وقد شهد تاريخ إسبانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن الجيش كان هو العامل الحاسم في ميدان السياسة، وأن أي تغيير سياسي كبير يبدأ بانقلاب عسكري، مثلما جرى الحال في صعود الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى السلطة في عام 1923م، ثم صعود فرانكو بعد ذلك عام 1939م؛ ولذلك فإنه بعد الإعلان عن تمرد القوات الإسبانية في المغرب وفي بعض المدن الإسبانية، ونجاحها في السيطرة على عدد من هذه المدن، ومنها إشبيلية التي تتبعها غرناطة عسكريا، شاع الاضطراب في أرجاء الجو السياسي في غرناطة، وتطلعت الأنظار إلى الحامية العسكرية المرابطة فيها، وكان على رأس هذه الحامية الجنرال «ميجيل كامبنز»، الذي أعلن ولاءه للجمهورية، ولكن معظم مساعديه من الضباط كانوا متورطين حتى أقدامهم في المؤامرة الانقلابية دون أن يدري هو بذلك، ورغم أن عدد أفراد «الفالانج» والمنظمات اليمينية المماثلة في غرناطة كان محدودا بالنسبة إلى عدد العمال والفلاحين، إلا أن تخوف قادة المدينة الجمهوريين من توزيع السلاح على الشعب للدفاع عن الجمهورية وإصرارهم على عدم اتخاذ هذه الخطوة، أدى إلى انفساح المجال أمام اليمينيين بما كانوا قد خبأوه من أسلحة.

وهكذا، ففي وسط الانتظار والترقب في غرناطة، انتهز المتآمرون في يوم 20 يوليو فترة القيلولة التي تتعطل فيها الأعمال، ويهجع الناس هنيهة بعد الغداء - خاصة في جو غرناطة الشديد الحرارة في الصيف، فأنزلوا قواتهم إلى المدينة واحتلوا المواقع الهامة فيها، ونصبوا المدافع في الميادين والطرق الرئيسية، واضطروا الحاكم العسكري إلى إصدار بيان يعلن حالة الحرب، وأقالوا الحاكم المدني وعينوا بدله الضابط «خوسيه فالديس»، الذي أصبح منذ ساعتها مسئولا عن المدينة وأرباضها وعن تطهيرها من كل العناصر المعارضة للملكية أو المشكوك في ولائها لها، عن طريق حمام دم غطى المنطقة كلها بالرعب والفزع، وما إن سيطر الموالون للانقلاب على مقاليد الأمور، حتى تصدوا لهذه العملية التطهيرية، التي بدأت بقصف وحشي على تجمعات العمال والفلاحين، التي لجأت إلى حي «البيازين» الشعبي العربي القديم تحتمي به وتتحصن فيه، وانتهى الأمر بسحق هذه التحصنات واعتقال معظم المدافعين وإعدامهم بعد ذلك.

وما إن حلت ليلة 23 يوليو حتى كانت المدينة كلها في يد اليمينيين، الذين بدءوا في الحال حمام دم لمعارضيهم السابقين، في مذبحة كبرى أودت بكثير من الأبرياء، وانتهزها بعض ضعاف النفوس من المنتصرين لصب شرورهم الرخيصة والتنفيس عن أحقادهم الدفينة.

لوركا والتطهير الدموي

ظل لوركا مترددا فيما إذا كان يجدر به السفر إلى غرناطة أو البقاء في مدريد، حتى تنجلي الأزمة السياسية المتفجرة نتيجة للاغتيالات الأخيرة، وانقسم أصدقاؤه بين محبذ للسفر ومحبذ للبقاء، وقال أحدهم قولة شهيرة ترددت أصداؤها طويلا بعد ذلك، إذ قال: «لو أن حربا نشبت في بلادنا، ونجا منها فرد واحد فقط، لكان هذا الفرد هو لوركا!»

وهكذا استقل لوركا قطار الليل في مساء 15 يوليو، وودعه حتى عربة القطار صديقه الشاعر «رافاييل ألبرتي»، ويحكي ألبرتي أنهما شاهدا بين أروقة القطار شخصا نفر منه لوركا، وتوارى عن أنظاره حتى لا يحييه أو يحادثه، وكان هذا الشخص - كما عرف لاحقا - هو «رامون رويث ألونصو»، النائب اليميني السابق لغرناطة في البرلمان، والمسئول المباشر عن اعتقال لوركا بعد ذلك.

ووصل الشاعر إلى منزل العائلة الصيفي في موعد مناسب للاحتفال مع الأسرة بعيد «القديس فديريكو» بالنسبة له ولوالده، إذ إنهما كانا يشتركان في الاسم الأول، وهو اليوم الموافق ليوم الانقلاب: 18 يوليو.

وقد تلقت الأسرة أنباء الانقلاب وبيانات الحكومة وما تلا ذلك من أحداث، ببلبلة واضطراب، شأنها شأن كل سكان الإقليم من غير المتداخلين في السياسة، ثم جاءت نذر الكارثة بعد استيلاء اليمينيين الموالين للانقلاب الملكي على المدينة، إذ كان من أوائل من تم القبض عليهم السنيور مونتيسينوس عمدة المدينة، وهو زوج شقيقة لوركا، والذي أعدم بعد ذلك بأيام، وقد علمت الأسرة بالقبض عليه في حينه، ولكنها لم تعلم بإعدامه إلا بعد ذلك بكثير.

وبعد ذلك يفطن الشاعر إلى وجود شخصين مريبين يراقبان المنزل ويطوفان به من بعيد، ثم عاود نفس الشخصين المراقبة، ودخلا المنزل هذه المرة، ولكنهما لم يكونا يبحثان عن لوركا، بل عن البستاني المسئول عن حديقة المنزل، وكان أخا لأحد العمال المنخرطين في سلك الجبهة الشعبية، وكانت الأقوال تشير إلى مسئولية ذلك الأخ عن مقتل أحد ضباط الشرطة، وعن إحراق كنيسة بلدته، ولما لم يجدوا غير البستاني، أوسعوه ضربا ولطما، وحين حاول فديريكو التدخل، لطماه هو أيضا، وقال له واحد منهما: «لا فائدة، إننا نعرفك جيدا، يا فديريكو غرسيه لوركا!»

Bog aan la aqoon