وهذه المسرحية خفيفة الروح والجو، وتزخر بالأغاني الشعبية الأندلسية، مما جعلها تنجح على المسرح، ويقبلها الجمهور الإسباني والأجنبي على حد سواء.
ورغم أن عام 1931م قد شهد أيضا صدور ديوان «قصيدة الغناء العميق»، الذي يضم القصائد التي كان لوركا قد كتبها في عام 1921م، ثم نسيها في أحد أدراج مكتبه بعد ذلك، إلا أن عرض المسرحية وصدور هذا الديوان - رغم نجاحها - قد غرقا في الأحداث العظيمة التي شهدتها إسبانيا في ذلك الربيع الملتهب، ربيع عام 1931م وما تلاه، ذلك أنه بعد الحكم الدكتاتوري للبلاد على يد الجنرال «بريمو دي ريفييرا» - في ظل الملكية والملك - والذي استمر من عام 1921م حتى بداية عام 1930م، لم يجد الملك بدا من تعيين حكومة تجري انتخابات بلدية عامة، أجريت بالفعل في 12 أبريل 1931م، وفوجئ الملك والحكومة بنجاح معظم المرشحين المناهضين للملكية والداعين لقيام حكم جمهوري، وحين لم يبادر الجيش ولا الحرس المدني إلى إعلان ولائهما للملكية، وجد الملك - ألفونسو الثالث عشر - أنه ليس أمامه إلا أن يرحل إلى المنفى، حيث استقر هو وأسرته في إيطاليا، وفي نفس يوم رحيل الملك - 14 أبريل 1931م - أعلنت الجمهورية في إسبانيا، وبدأت الحياة الديمقراطية بإجراء انتخابات عامة في يونيو 1931م، فاز فيها الجمهوريون والاشتراكيون والتقدميون بأغلبية ساحقة على الملكيين، وتشكلت على أثرها حكومة اشتراكية النزعة برئاسة «ألكالا زامورا» ... وقد دخل أستاذ لوركا وصديقه «فرناندو دي لوس ريوس» الحكومة الجديدة وزيرا للمعارف العمومية، وقد أعقبت تلك الأحداث صراعات خفية وعلنية بين مختلف طوائف الشعب الإسباني، ظلت تعمق وتستفحل إلى أن انتهت باندلاع حرب أهلية دامية كما سنرى بعد ذلك.
ولا شك أن تلك الأحداث التي بدأت تترى في إسبانيا في ربيع عام 1931م، قد أثرت أعظم تأثير في نفسية لوركا، وألهبته حماسا لتقديم إسهاماته لخدمة ذلك القطاع من الشعب، الذي يكن له أعظم حب ومودة: الفقراء والفلاحين والغجر. ولقد صارت عبارة صرح بها الشاعر لأحد الصحفيين بعد ذلك في أواخر عام 1934م علما على تفكيره وإنسانيته، إذ قال: «في هذا العالم، أنا دائما، وسأكون دائما، في صف الفقراء، سأكون دائما في صف من لا يملكون شيئا، بل هم محرومون حتى من طمأنينة العدم».
وقد دفعه هذا الإحساس الإنساني والاجتماعي إلى التفكير بعد قليل من قيام الجمهورية في مشروع ثقافي، وهبه الكثير من فكره وجهده ووقته: إنشاء مسرح جامعي متنقل من الهواة، يطوف قرى إسبانيا ونجوعها في كل الأنحاء، لتقديم الأعمال المسرحية الإسبانية العظيمة، من «مشهيات»، «سرفانتس» صاحب «دون كيشوت»، إلى درامات «لوبي دي فيجا» و«كالديرون دي لاباركا». وخلع لوركا على مسرحه اسم «لاباراكا» أي «الكوخ» بالإسبانية، ونالت الفكرة استحسان الوزير الجديد «فرناندو دي لوس ريوس» - الذي أمد المشروع بالاعتمادات المالية الضرورية - كما تحمس لها أيضا مجموعة من الشباب من طلبة الجامعة، معظمهم من كلية الآداب، من هواة المسرح والتمثيل، وتطوع عديد من أصدقاء لوركا من الفنانين والرسامين للمساهمة بجهودهم في تصميم الديكورات والعرائس للمسرحيات المختلفة، وأولى لوركا عنايته لكل صغيرة وكبيرة في التحضير لتنفيذ المشروع الفني الكبير، من الإجراءات الإدارية بكل أنواعها إلى التفاصيل الفنية بوصفه مخرج المسرح، فكان يدير حركة الممثلين وطريقة أدائهم ونطقهم، والإضاءة، والملابس، والديكورات.
وبدأت البروفات في منتصف عام 1932م، لتقود إلى حفلة الافتتاح التي أقيمت في ميدان «برغو دي أوسما» في مقاطعة «صوريا»، بتقديم عملين من «مشهيات» سرفانتس هما: «الحارسة الحريصة» و«كهف شلمنقة».
وتنقل مسرح «لاباراكا» في عديد من المدن والقرى الإسبانية، حيث كان يلقى حفاوة بالغة وتشجيعا عظيما، كان معظم جمهور النظارة من الناس الذين أحبهم لوركا دائما: الناس البسطاء، العمال والفلاحون الذين يجدون في ذلك المسرح الشعبي فرصة يلتقون فيها مع أدب بلادهم وفنها العريق، وكانت المسرحيات التي تقدم كلها من التراث الإسباني في عصره الذهبي، ولكنها رصعت بعمل واحد حديث هو «تاريخ جندي» للمؤلف «راموز»، الذي وضع موسيقاه الموسيقار الفرنسي الشهير «سترافنسكي»، ويحكي «بابلو نيرودا» عن مدى اهتمام لوركا بخدمة مسرحه، أنه عندما كان لوركا يشرف على إعداد الملابس والديكور لمسرحية «بيريبانيث» للوبي دي فيجا، جاب كل بقاع مقاطعة «اكستربمادورا» وقراها، إلى أن عثر على ملابس حقيقية ترجع إلى القرن السابع عشر، كانت تحتفظ بها أسرات ريفية عريقة كأثر من آثار الأجداد وتوارثتها جيلا عن جيل، وقد رضيت بإعارتها للوركا لاستخدامها في مسرحه؛ لأن خفته ولطفه، كانا كفيلين بفتح جميع الأبواب أمامه.
ومع كل الوقت والجهد الذي بذلهما الشاعر في خلق مسرحه والسير به قدما إلى الأمام، فإن ذلك لم يشغله عن النشاط الأدبي والفني الخاص به، وعن متابعة زيارة أصدقائه والتردد على جلسات أهل الأدب والفن، وكذلك عن إلقاء المحاضرات الأدبية في محافل عدة، قامت بإنشائها الجمهورية الوليدة، وقد حملته واحدة من تلك المحاضرات إلى إقليم «غاليسيا» الناضر المزهر الخضرة على الدوام في شمالي غربي إسبانيا. وكانت حصيلة تلك الزيارة ست قصائد غاليسية وضعها المشاعر، رغم أنه كان يجهل هذه اللهجة المختلفة عن الإسبانية، ولكن إيقاعاتها وموسيقيتها حملاه على أن يعبر عن نفسه بها. وقد طاف في زيارته «الغاليسية» بالمدينتين الرئيسيتين هناك: «كورونيا»، و«سنتياجو دي كومبوستيلا»، وفي الأخيرة، زار قبر الشاعرة الإسبانية المشهورة «روساليا دي كاسترو» التي كان يغرم بشعرها، ووضع باقة من الزهور هناك.
وكان لوركا في ذلك الوقت يكمل رائعته المسرحية: «عرس الدم»، وهي حلقة مستقلة من ثلاثية مسرحية اكتملت فيما بعد بمسرحيتي «يرما» و«بيت برناردا ألبا»، وقد افتتحت مسرحية «عرس الدم» في 8 من مارس 1933م، على مسرح «بياتريز» بمدريد، بحضور نجوم الفن والأدب والفكر الإسباني، ومنهم خاسنتو بنافنتي، وميجيل دي أونامونو، وأورتيجا إي جاسيت ، علاوة على أعضاء «جماعة 27 الأدبية بكاملهم»، ولاقت المسرحية نجاحا فوريا ساحقا، ولا غرو فهي قد تكامل فيها الفن المسرحي، والشعر الغنائي الذي يقوم بدوره في بناء درامي متكامل، وشخصيات ورموز مسبوكة، ويدور موضوع المسرحية - التي ترجمت إلى العربية ثلاث مرات - حول الصراع على فتاة يحبها شابان ينتميان إلى عائلتين متعاديتين، وتقبل الفتاة أحدهما زوجا نكاية في الآخر الذي تحبه لأنه تزوج بفتاة أخرى، وفي ليلة عرس الفتاة، تهرب مع حبيبها المتزوج ليوناردو، ويطارد العريس وأهله العاشقين في دروب إحدى الغابات إلى أن يعثروا عليهما، فتدور معركة تنتهي بمقتل الشابين المتنافسين، ولم يبق إلا النسوة يذرفن الدموع على مصيرهن.
جو المسرحية أندلسي صرف، يزخر بالعواطف المشبوبة والمنازعات والصراعات العنيفة، كما أنها تمتلئ بالأغاني الشعبية التي تدور حول الحب والزواج والأطفال، وقد لقيت هذه المسرحية نجاحا هائلا لما صورته من جوانب الحياة الإسبانية الأصيلة، وقابلها النقاد المسرحيون بحرارة شديدة.
وفي ربيع نفس العام - 1933م - بتعاون الشاعر مع صديقه «بورا أوسيلاي» في إنشاء «نوادي الثقافة المسرحية»، بهدف إقامة مسرح إسباني يقف أمام الموجة التي انتشرت في إسبانيا من المسرحيات المبتذلة، التي تعتمد على تقديم الأغاني والاستعراضات دون أي هدف فني، وكانت الفكرة تقوم على إنشاء مثل تلك النوادي في كبريات المدن الإسبانية، وبدأ نادي مدريد عمله بتقديم عملين من أعمال لوركا هما «الإسكافية العجيبة» و«غرام دون برلمبلين وبليزا في حديقته»، التي كان قد كتبها في عام 1928م، ومثلت في العملين «مرجريتا شيرجو»، وقدما على مسرح «إسبانيول» في 5 أبريل، ورغم نجاح تقديم هاتين المسرحيتين عند عرضهما في مدريد، إلا أن النجاح الهائل الذي كانت تلاقيه مسرحية «عرس الدم» طغى عليهما.
Bog aan la aqoon