من عجائب الصبر
ويذكر ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في عيون الحكايات قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق؛ فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا؛ فإذا عجوز ترد السلام، ثم قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، وأَنِسْنَا بكم، وقوم جياع.
قالت: ولُّوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا، وجلسنا على فراش ألْقَتْهُ لنا، وإذا ببعير مقبل، عليه راكب، وإذا بها تقول: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي.
جاء الراكب، وقال: يا أم عقيل! السلام عليك أعظم الله أجرك في عقيل، فقالت: ويحك! أوقد مات عقيل؟ قال: نعم.
قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل، ودفعت له كبشًا، ونحن مدهوشون، فذبحه وأصلحه، وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نتعجب من صبرها؛ فلما فرغنا قالت: هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله ﷿ شيئًا فقلنا: نعم.
قالت: فاقرءوا عليَّ آيات أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلت: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:١٥٥ - ١٥٧] قالت: آللهِ إنها لفي كتاب الله؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله.
قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبرًا جميلًا، وعند الله أحتسب عقيلًا.
اللهم إني فعلت ما أمرتني به؛ فانجزني ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد ﷺ لأمته.
قال: فخرجنا، ونحن نقول: ما أكمل منها ولا أجزل! لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعًا، وأن البكاء لا يرد هالكًا؛ رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم، فاحتسبت ابنها عند الله ﷿ ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.
فما أجمل الرضا بقضاء الله في كشف محن المصاب ومكروباته! هذه سجايا السلف؛ صبرٌ واحتسابٌ، وتجلُّدٌ وتحمُّلٌ، ورضا واسترجاعٌ، وبُعْدٌ عن الجزع والتسخُّط والتذمُّر عند المصاب.
لهم قدرهم باعتبار الرجال وسمعتهم في ذرى الأنجم
أنتم كهُم ومن يشابهْ أبه فما ظلم
7 / 13