أين المفر
إن الموت حقيقة لا مفر منها، وباب لابد من ولوجه لكل من هو على هذه الأرض، سواءً كان ذكرًا أو أنثى، أو غني أو فقير أو شقي أو سعيد، وهو حقيقة ما بعدها أشد منها، حيث ينقسم الناس إلى قسمين: شقي وسعيد.
فالواجب على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن تحل به سكرات الموت، فعندها لا ينفع الندم ولا البكاء.
1 / 1
حقيقة الموت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة:٢٨١] يوم يُنفخ في الصُّور، ويُبعث مَن في القبور، ويظهر المستور، يوم تُبْلى السرائر، وتُكْشَف الضَّمائر، ويتميز البَرُّ من الفاجر.
ثم اعلموا أن هناك حقيقة وأي حقيقة، حقيقة طالما غفل عنها الإنسان، ولحظة حاسمة، ومصير ومآل.
إنها لحظة (ملاقيكم) إلى أين من هذه اللحظة المَهْرَب؟! وإلى أين منها المفر؟! إلى الأمام مُلاقيكم، إلى اليمين والشمال مُلاقيكم، إلى أعلى إلى أسفل مُلاقيكم، إلى الوراء مُلاقيكم.
لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحصَّن منه في حصون، مدرككم أينما كنتم!
إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت، يأخذ الغني والفقير، والصحيح والسَّقيم، والشريف والوضيع، والمُقر والجَاحِد، والزَّاهد والعابث، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، كل نفس ستذوقه، شاءت أم أَبَتْ.
لعلكم عرفتموه، لا أظن أحدًا يجهله، أما حقيقته فالكل يجهلها؛ إنه الموت: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:١٨٥].
الموت، ما الموت؟ أمر كُبَّار، وكأس يُدار، فيمن أقام وسار، يخرج بصاحبه إلى جنة أو إلى النار، ما زال لأهل اللذات مكدِّرًا، ولأصحاب العقول مُغَيِّرًا ومحيِّرًا، ولأرباب القلوب عن الرغبة فيما سوى الله زاجرًا.
كيف ووراءه قبر وحساب، وسؤال وجواب، ومن بعده يوم تُدهش فيه الألباب فيعدم الجواب؟!
السَّكرات، ما أدراكم ما السكرات! عانى منها رسول الله ﷺ فكان يقول: ﴿لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات﴾ اللَّهم هوِّن علينا سكرات الموت" سكرات وأي سكرات!
يقول العلماء: كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟! الدنيا بين يديْه كالمائدة بين يديْ الرجل، يمد يده إلى ما شاء منها؛ بأمر الله فيأكله، وإنَّ له لأعوانًا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع، والأرضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله! من لحظة حاسمة لو لم تُعتقل الألسنة وتُخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعب الجبال أَلَمًا! ولَصَاح الميِّت من شدة ما يعاني حتى تندكَّ عليه جدران الغرفة التي هو فيها، ولما استطاع أن يحضر ميتًا أحدٌ.
فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهوِّن علينا السكرات!
روي عن الحسن أنه قال: رُئِيَ أحد الصالحين بعد موته، فقيل له: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوَّاهُ أوَّاهُ! وجدته -والله- شديدًا، والذي لا إله إلا هو! لهو أشد من الطَّبخ في القُّدُور، والقطع بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استلَّ الروح من كل عضوٍ منِّي، فلو أني طُبِخْت في القُدُور سبعين مرة لكان أهون عليَّ.
كفى بالموت طامة، وما بعد الموت أطَمُّ وأعظَمُّ!
رئي آخر بعد موته في المنام، فُيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاة، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، اللهم هوِّن علينا السكرات، واجعلها لنا كفَّارات، وآخر المعاناة، وهي كذلك -بإذن الله -للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.
1 / 2
السعداء وحسن الخاتمة
عباد الله: وفي تلك اللحظات الحَرِجَة ينقسم الناس إلى فريقين؛ شقي وسعيد، فريق السعداء حالهم: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:٣٠ - ٣٢].
هاهي أسماء بنت عميس ﵂ تقول -كما رُوِيَ عنها- إنَّا لعند علي ﵁ وأرضاه بعدما ضربه ابن ملجم -عليه من الله ما يستحق- إذ بـ علي يشهق شهقة فيغمى عليه، ثم يفيق وهو يقول: مرحبًا مرحبًا! الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن، لمثل هذا فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون.
فيا لها من موعظة ومصير، لو وافقت من القلوب حياة! مَنْ ظفر بثواب الله فكأنه لم يُصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
واسمع معي أخرى لـ سعيد بن جبير ﵁ يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة -كما قال الذهبي في سيره --فيقول: لما مات ابن عباس ﵄ بـ الطائف، جاء طائر لم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دُفِن إذا على شفير القبر تالٍ يتلو لا يُرى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:٢٧ - ٣٠].
فيا لها من خاتمة! ويا له من مصير! والخير في الأمة يستمر، ولن تَعْدَم الأمة خَيِّر.
فاسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب: يا ليت قومي يعلمون قال: حدثني أحد الصالحين قائلًا: كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدًا فاضلًا نزل مع بعض أصحابه إلى مكة مُحْرِمًا، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو مُحْرِم في الحرم، قد خرج لله ﷿ كما يُحسب.
قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله ﷿: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى:٤] شهق وبكى وأبكى، فلمَّا قرأ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى:٥] تَرَنَّح قليلًا، ثم سقط ميِّتًا، فعليه رحمة الله؛ ليبعث يوم القيامة بإذن الله مصليًا؛ ومن مات على شيء بعث عليه كما ورد عن المصطفى ﷺ.
وآخر يقضي حياته مؤذنًا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذِّن يومًا من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتاُ، فعليه رحمة الله.
سنوات يؤذن، ثم يجيب داعيَ الله مؤذنًا، ليبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقًا فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة! ملائكة بيض الوجوه، يتقدمهم ملك الموت، يخاطب تلك الأرواح الطَّيبة: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فَمِ السِّقَاء، وتفتح لها أبواب السماء، وتُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح، وتقول: قدِّموني قدِّموني، تُسأل فتجيب وتُثبَّت، فيفرش لها من الجنة، ويُفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحت من تعب هذه الدار، وإلى راحة أبدية في دار القرار.
1 / 3
الأشقياء وسوء الخاتمة
وفريق آخر في تلك الساعة يشقى، حسب أن الحياة عبث ولهو ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سُود الوجوه يقدمهم ملك الموت -نعوذ بالله من خاتمة السوء، وساعة السوء- يقول: أيتها النَّفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعًا بعد أن تفرق في الجسد، ثم ترفع فلا تُفتح لها أبواب السماء، تُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسأل فلا تجيب فُيفرش لها من النار، ويُفتح لها باب إلى النار، فنعوذ بالله من النار، ومن سوء الختام، وغضب الجبَّار.
ذَكَرَ صاحب: قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلُّون سيارة واحدة، توفيَ اثنان منهم في الحال، وبقيَ الثالث في آخر رَمَقٍ يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث: قل (لا إله إلا الله) فأخذ يحكي عن نفسه ويقول: أنا في سَقَر، أنا في سقر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله! رجل المرور يسأل ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله ﷿: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر:٤٢ - ٤٣] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر:٢٧ - ٢٩] نسأل الله العافية والسَّلامة.
عباد الله: فريقان لا ثالث؛ شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد، ومضى إلى جنهم وبئس المهاد.
ألا ترون؟! ألا تتفكرون؟! ألا تنظرون؟! تشيعون كل يوم غاديًا إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض.
خُلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، انتهى أمله وأجله، تبعه أهله وماله وعمله، فرجع الأهل والمال، وبقي العمل.
فارق الأحبَّة والجيران، هجره الأصحاب والخلاَّن، ما كأنه فرح يومًا، ولا ضحك، ولا أَنِسَ يومًا ما، ارتُهن بعمله فصار فقيرًا إلى ما قدم غنيًا عما ترك.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا وبنوا مساكنهم وما سكنوا
فكأنهم كانوا بها ظُعنًا لمَّا استراحوا ساعة ظَعَنُوا
1 / 4
تذكر الموت وسكراته
كان رسول الله ﷺ أرحم الناس بالأموات.
يقول عوف بن مالك: ﴿صلَّى بنَا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدَخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو! لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه ﷺ له﴾.
ومن رحمته بالأموات ﷺ: أنه كان يذهب في الليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلًا، ويترحم عليهم طويلًا.
صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك؛ ابن عمر كان إذا قرأ قول الله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ:٥٤] بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: [[اللهم لا تَحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله]] فلا إله إلا الله! ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجَّل في صحيفته (لا إله إلا الله) ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقيَ الجزاء والحساب، فرحم الله امرأً قدَّم من الصَّالحات لتلك الحُفَر، ورحم الله امرأ حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا!
عمر بن عبد العزيز ﵀ يقول لجُلاسه يومًا ما: أرقت البارحة فلم أنمْ حتَّى الفجر، قالوا: ما أسهرك؟ قال: لمَّا أويت إلى فراشي، ووضعت عليَّ لحافي، تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ليالٍ تمر عليه حينما تركه أهله وأحبَّته وخلاَّنه، تغيَّر رِيحُه، وتمزَّق كفنه، وسرى الدُّودُ على خدوده، فليتك ترى تلك الرائحة المنتنة، وترى تلك الأكفان الممزَّقة، إذًا لرأيت أمرًا مهولًا، ثم انفجر يبكي، ويقول: لا إله إلا الله! حاله:
والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ وإنَّ عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته ولا بأضعافها ما كنت آتيها
تجهَّزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثًا
كفى بالموت واعظًا لمن كان له قلب، أو ألقى السَّمع.
يمرُّ عمرو بن العاص ﵁ بمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: [[لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: تذكرت قول الله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ:٥٤] وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحال بيني وبينها]].
عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: [[يا أبتاه! صف لنا الموت، قال: يا بني! الموت أعظم من أن يوصف، لكأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السَّماء أُطْبِقَت على الأرض وأنا بينهما، ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ويبكي بكاءً مرًا مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله ﷺ، أَمَا فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاثًا؛ لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله ﷺ فيا ويلتاه لو متُّ في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله ﷺ أحبَّ النَّاس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالًا له، فيا ليتني مِتُّ في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي ﷺ وصلاته عليّ.
يقول: ثم تخلفت بعد رسول الله ﷺ فلَعِبَت بنا الدنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله؛ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله]] ثم قُبض على لا إله إلا الله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:٢٧].
كفى بالموت واعظًا!
يقول ابن عوف: [[خرجت مع عمر ﵁ إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءً طويلًا، فقلت: ما بك؟ قال: يا بن عوف! ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟]] حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لا فيكا
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
كفى بالموت واعظًا، وبسِيَر الصالحين عنده عبرًا!
تُحلُّ السَّكرات بـ محمد بن أسلم وتصيبه رعدة، يقول خادمه: كان يصيح ويقول: مالي وللناس، والذي لا إله إلا هو! لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني مَلَكَايَ لفعلت؛ خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، فيغلق بابه فيقرأ القرآن، ويبكي، وينشج، فيسمعه ابنٌ له صغير، فيقلِّده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل؛ لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: أبشر؛ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليَّ أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني -والله- لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق عليَّ الباب، ولا تأذن لأحد عليَّ حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغَطُّوا عليَّ بكسائي، وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحِنْطِ والكفن
كفى بالموت واعظًا!
فوالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيِّنًا سهلًا، لكنه مع شدَّتِه وهَولِه أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هينٌ إذا قُورِنَ بالوقوف بين يديْ الله الكبير المتعال.
تلفَّت المرء يمينًا فلم ير إلا ما قَّدم، وشمالًا فلم ير إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجهه فلم ير إلا النار.
فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد!
يبلغ العرق أن يُلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث! مجرد تصورها يخلع ويذيب القلوب!
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
روي عن الحسن: ﴿أن رسول الله ﷺ كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرةَ عائشة ﵂ فسالت دموعها على خد رسول الله ﷺ فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال ﷺ: والذي نفسي بيده! في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه؛ إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله.
وعند الصراط -نعم عند الصراط- أيمرُّ أم يكردس على وجهه في جهنم﴾.
يؤتى بابن آدم حتى يُوقف بين كفَّتيْ الميزان، فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت واقف بين الخلائق، إذ نوديَ باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال.
قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف، وذل، وانهيار أعصاب:
شبابك فيما أبليته؟
عمرك فيما أفنيته؟
مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟
علمك ماذا عملت به؟
هذه الأسئلة فما الإجابة؟
كم من كبيرة نسيتها قد أثبتها عليك المَلَك؟
كم من بلية أحدثتها؟
كم من سريرة كتمتها ظهرت وبَدَتْ أمام عينيك؟
أَعْظِم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! وأعظم به من حياء يُداخلك، وغمٍّ، وحزن، وأسف شديد!
فإما أن يقول الله: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيا لسرورك! وهدأة بالك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإما أن يقول الله- عافاك الله وسلمك-: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فيُذهب بك إلى جهنم، مسوَّد الوجه، كتابك في شمالك، ومن وراء ظهرك، قد غُلَّت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رءوس الخلائق ينادى: شقيَ فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
عباد الله: الأمر خطير جد خطير؛ إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله برحمته ومَنِّه يقول: وعزَّتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر؛ فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين، اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم، عاملوا الله فلن تخيبوا: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٨١].
نفعني الله وإياكم بالقرآن، وبسنة سيد الأنام ﵊ وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
1 / 5
التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ.
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى.
والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد.
وفي ذلك -والله- ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات.
التفتوا، وانظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتملُّوا بعيون قلوبكم:
أين من كان حولكم من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خِلًاّ لـ عبد الملك بن مروان، فلمَّا مات عبد الملك ودُفِن، وتفرَّق الناس عن قبره، وقف عليه عبد الرحمن بن يزيد قائلًا: أنت عبد الملك، أنت من كنت تعدني خيرًا فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، الآن تصبح وتمسي وليس معك من مُلكك غير ثوبك، وليس لك من ملكك سوى تراب أربعة أذرع في ذراعين، إنه لملك هيِّن حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها، ثم رجع إلى أهله، فاجتهد وجدَّ في العبادة، وعلم أنها الباقية، حتى صار كأنه شنٌ بالٍ من كثرة ما أجهد نفسه في العبادة، فدخل عليه بعض أهله يعاتبه؛ لأنه أضر بنفسه، فقال للذي يعاتبه: أسألك عن شيء فهل تصدقني فيه؟ قال: نعم.
قال: نشدتك الله! عن حالتك التي أنت عليها أترضاها حين يأتيك ملك الموت؟ قال: اللهم لا.
قال: نشدتك الله! أعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: اللهم لم أشاور عقلي بعد.
قال: نشدتك الله أفتأمن أن يأتيك ملك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا آمن.
قال: حال ما أقام عليها عاقل، وما يقيم عليها ذو قلب ولبّ، إنَّ الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر الذي ستنفرد فيه وحدك، ويُسَدُ عليك فيه بالطين وحدك؟ ألا عملت لك فراشًا من تقوى الله، فمن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون.
فلا يومك الماضي عليك بعائدِ ولا يومك الآتي به أنت واثقُ
فاستعد وأعدَّ.
يا شابًا عكف على القرآن! مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره سل الله الثبات.
وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة.
فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا.
ويا شابًا هجر القرآن! وأعطى نفسه هواها فدسَّاها؛ لتقفن موقفًا ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النَّقِير والقِطْمِير، والصغير والكبير.
فعُد فالعود أحْمَدُ قبل أن تقول: رب ارجعون، فلا رجوع.
ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات ومضى وقتك في لهو وسهو وسُبات
يا شيخًا اقترب من القبر! عرف أنه منه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيَّته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بشراك بشراك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلت إلى آخر السباق قدَّمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخًا نسى الله في شيخوخته بعد شبابه! فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت.
أين الهوى والشهوات؟ ذهبت، وبقيت التَّبِعات، تتمنى بعد يُبس العُود العَوْد وهيهات!
يا من شَاب رأسه! فما استحيا من الله.
يا مَنْ شَاب رأسه! فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تُبْ إلى الله قبل أن تكون ممَّن لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيَّع الصلاة، واتَّبع الشهوات، إلى المنافقين والزناة، إلى الظلمة والبغاة، إلى من طغى وآثر الحياة الدُّنيا، إلى المُغْتابين والنَّمَّامين والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثر فنسوا بعثرة المقابر، وتحصيل ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدة المسلسلات، واستقبال القاذورات.
إلى من طربت أذنه باستماع الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصره، وأصمَّ سمعه فكان حيًّا وهو في عداد الأموات، إلى الراشين والمُرْتشين وأهل السُّكْر والمخدَّرات، إلى المُسبل والمنَّان والمنفِق سلعته بالحَلِف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاة جميعًا:
من الموت والقبر والحساب أين المفر؟!
﴿كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ [القيامة:١١ - ١٢] ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧].
عباد الله: آن الأوان أن نُعْلِنَها توبة إلى الله باللِّسان والجَنَان.
1 / 6
حاجتنا إلى التمسك بالعقيدة
إن الله ﷾ جعل هذه الأمة أمة عقيدة، روابطها بالله وثيقة، وأملها في الله شديد، لا تلتفت إلى غيره مهما اشتدت الأزمات والكربات، ومهما تكالب أعداء الله عليها؛ وكان ذلك بسبب اتباعها لدين ربها ﷿.
2 / 1
أهمية التوكل على الله في الشدائد
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت بيده مقاليد السماوات والأرض ومصايير الخلق أجمعين: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام:١٠٢] أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اتقى الله فوقاه، وتوكل عليه فكفاه، واعتمد عليه فأيده بنصره وآواه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين توكلوا على مدبر أمرهم ومالك ناصيتهم، فأحاطهم بعونه في الحياة ونعيمه بعد الممات، أولئك هم المفلحون.
عباد الله! إن من الإيمان تفويض الأمر لله والاعتماد عليه في شئون الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء، والاعتقاد بأنه الإله المدبر للملك الفعال لما يشاء، بيده وحده العطاء والمنة، والهزيمة والنصر، والتقدم والتأخر لا إله إلا هو،، التوكل على الله زاد المؤمنين يثبتهم عند الفزع، ويدفعهم إلى الإقدام، ويملأ قلوبهم بالعزة عند السؤال، المؤمن الحق يجد في التوكل على الله راحة نفسية وطمأنينة قلبيه، فإذا أصابه خير علم أنه هو الله المدبر الذي ساقه إليه، فحمده وشكره فكان خيرًا له، وإن أصابته شدة أيقن أن الله هو الذي أصابه بها اختبارًا له وابتلاءً، فصبر واسترجع فكان خيرًا له ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:٥١].
أرشد الله المؤمنين إلى التوكل عليه، ووصل قلوبهم به إذا سعوا لاستدفاع ضر أو لتحقيق مطلب، حتى تكون يد الله فوق أيديهم، وعنايته فوق تصرفهم ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:٣].
أقول هذا الكلام في وقت أصبح الناس فيه حيارى فجعين هلعين قلقين، همهم الأعظم جمع الغذاء، وسماع الأخبار من إذاعات مرجفة كاذبة خاطئة، عنوان إرجافها: جاءنا للتو حتى آذت مسامعنا بهذه الكلمات، أقول هذا والبشر قد وقتوا اليوم الخامس عشر من يناير يومًا محتملًا لقيام حرب في هذه المنطقة لا تبقي ولا تذر، ونسوا رب البشر، نسوا من بيده مقاليد السماوات والأرض، وصدق السذج، وأيقنوا بذلك بل تعلقوا بقوى مادية لا تغني عنهم من الله شيئًا، نسوا من بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء وكيل.
لكن أقول للكل مخصصًا كل عبد من عباد الله: والله إن تخلى الله عن عبد فلن تغني عنه قوته، ولا استعداده، ولا ذكاؤه، ولا ماله، ولا جاهه، ولا غذاؤه، ولا جميع قوى الدنيا وإن وقفت معه، لكن المؤمنون في أشد الساعات يوم تشتد الأهوال، يوم يحجب الأمر، يوم تكفهر الأجواء وتنقطع الأسباب، لا يلتمسون إلا عون الله وفضله، لا يطلبون إلا رعاية الله ومدده، وسرعان ما تزول عنهم الشدائد وتفرج عنهم الكربات، أفلا نكون من هؤلاء المؤمنين ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤] هذا الزاد كان عماد الأنبياء في جهادهم مع أعداء الله، كان قولهم عندما يتألب الخصوم وتتألب الأعداء ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم:١٢].
يا مسلمون! الله حذر العباد من الاعتماد على غيره، ليعيش المسلم عزيز النفس، مرفوع الرأس، عالي الهمة، لسان حاله ومقاله يقول: ما سوى الله عبد مسخر لا ينبغي الاعتماد عليه ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأعراف:١٩٤].
في خضم الفتن يدعونا ديننا إلى الاعتزاز بالله والثقة فيه والاعتماد عليه وصدق اللجوء إليه، لا تواكل، ولا تكاسل ولا اعتماد بل عمل بإخلاص وثقة بالله ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت:٥٨ - ٥٩].
المسلمون الأوائل توكلوا على الله وتعلقوا بالله، خاضوا ميادين الجهاد فانتصروا، كانت لهم السيادة والريادة، رائدهم وقائدهم محمد ﷺ ما دعاهم إلى عدة بغذاء، وما دعاهم إلى سماع الأخبار، لكن دعاهم إلى الاستعداد بجميع القوى المادية والمعنوية، وأعظم قوة مكن الله لمحمد ﷺ بها هي قوة (لا إله إلا الله) التي من أجلها أرسل ﷺ، هي أعظم قوة في ذلك الوقت، وهي أعظم قوة في كل زمان ومكان.
وشعبٌ بغير عقيدةٍ ورق تذريه الرياح
2 / 2
أهمية العقيدة في الحياة وقيمتها
إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بعقيدتها خافها أعداؤها، إننا أمة عقيدة يهابها الكفر وأهله وأعوانه مهما كان عندهم من عتاد وعدة، إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بها ثبتت عند الشدائد والمحن، إننا أمة لطالما قلنا إننا أمة عقيدة، فإن عقيدتها في خضم الأحداث الجارية، في خضم الفتن التي ما تأتي فتنة إلا وأختها ترققها وتحدوها من بعدها.
ماذا أقول ومن سيفقه قولتي وإذا صرخت فمن سيسمع صرختي
إنها هذه الفتنة المحدقة بنا أعطتنا إفرازات معينة تقول: إننا أمة تحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، إنها هذه الفتنة أعطتنا: أنه يجب أن نرجع إلى الكتاب والسنة ونبحث عنها أكثر من بحثنا عن الطعام والشراب والهواء، إنها أعطتنا إن لم نرجع بصدق؛ فإن الفتن كعقد قطع سلكه فتتابع، فتن بعضها يحدو بعضًا، ومحمد ﷺ تركنا على المحجة البيضاء، ولما أحدقت بنا الفتن تخبطنا يمنة ويسرة ونسينا قول المصطفى: ﴿تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي﴾ ترك الله لنا هذا النور، من استضاء به في الظلمات كان مهديًا منصورًا، وكثير منا تنكبه ونسيه وتعلق بغيره فهو في الظلمات ليس بخارج منها.
عقيدتنا تأمرنا أن نرتبط برب يقول للشيء: كن فيكون، وارتبط الناس بكل شيء إلا بمن يقول للشيء: كن فيكون، عقيدتنا تأمرنا أن نفتش عن أسباب الفتن وسبب تسلط الأشرار من الأعداء، فكم هم الذين ارتبطوا بذلك مع هذه الأحداث؟!
كم هم الذين انطلقوا إلى المسجد ليواظبوا على صلاة الفجر ويقوموا الليل، لما أحدقت الخطوب الآن، ورأوا أن الموت وشرر الحرب يتقد يمنة ويسرة؟!
كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: لا مخرج لنا مما نحن فيه إلا بعودة صادقة إلى الله؟!
كم هم الذين نادوا بالتناصح والقضاء على المنكرات التي قلما نتجه إلى جهة إلا ونجد فيها منكرًا فظيعًا؟!
كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: إن سفينة الحياة تخرب، فهيا لإنقاذها قبل غرق الجميع؟! إنهم والله قلة، لكن يرحم الله البلاد بمصلحيها ودعاتها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود:١١٧].
عقيدتنا تقول: الولاء والمحبة والنصرة لأولياء الله لا من أجل عروبة، ولا لقومية، ولا لقرابة، ولا لقبيلة، ولا لجيرة، ولكن نوالي من قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين وإخلاص، أما تلك فأعراف ألقاها الإسلام، داسها بقدميه وبعضنا لا زال ينادي بها، محمد ﷺ يقول: ﴿أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله﴾ إن أحببنا فلله، وإن أبغضنا فلله، وإن والينا فلله، وإن عادينا فلله.
عقيدتنا تقول: آن الأوان لترك اللهو والطرب والمزامير والعبث، وآن الأوان لشد المئزر وحمل المدفع لا لتراب، ولا لعروبة، ولكن لرفع لا إله إلا الله.
عقيدتنا تقول: انطلقوا للدفاع عن راية التوحيد حتى لا يعبد في الأرض سوى الله، وما ذلك على الله بعزيز.
عقيدتنا تقول: لسنا بحاجة إلى قوة عسكرية فقط، بل حاجتنا والله إلى القوة المعنوية أعظم وأشد، ألا وهي قوة التوكل على الله، قوة العقيدة التي إن وجدت ينصرنا رب السماوات والأرض.
عقيدتنا تقول: وآأسفاه على أمتي! وآأسفاه على أهل العقيدة! ينظرون لتحليلات إذاعات الغرب التي تقارن قواتنا بقوات الغرب، وما علمت أنها تنصر بهذا الدين لا بعدد ولا عُدد.
عقيدتنا تقول: لا تتعلق أيها المسلم بمحادثات فلان وفلان، ولكن تعلق بمن يقول: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١].
عقيدتنا تقول: لا تتعلقوا بإذاعات الأراجيف التي تبث سمومها لتضع الفجوة بين الولاة والعلماء، لكن تعلقوا بمن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:٦].
عقيدتنا تقول: إن ارتباطنا بمن يقول للشيء كن فيكون، أين إيماننا بلا إله إلا الله؟!
عقيدتنا تقول: لو جاءت جميع قوى الدنيا ولم يرد الله نصرنا ما استطعنا أن ننتصر على أحد ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران:١٦٠] هل وعينا ذلك؟ هل فهمنا ذلك؟ هل أيقنا بذلك؟ نسأل الله ذلك.
عباد الله! أمتكم مستهدفة في كل شيء؛ في عقيدتها، في ثرواتها، في مناهجها، في إعلامها، والكثير لا زال يعيش في غيبوبة لا يعلم ما يحيط أمته ولا ما يحيط بها، هو بحاجة إلى نظارات من تقوى الله يبصر به المجتمع ليرى ما فيه مما يندى له الجبين.
2 / 3
حال العرب قبل الإسلام وبعده
لفتةٌُ إلى الماضي: كيف كنا أيها العرب قبل لا إله إلا الله؟ كنا غثاء نتقاتل على مربط الشاة ومورد البعير، حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا تعبد من دون الله ضلالًا وظلامًا، بل ظلمات بعضها فوق بعض، ثم جاء الحق والنور على يدي محمد ﷺ، وزهق الباطل، ونشر الدين في هذا العالم، ولا زال له بفضل الله أصحاب وأنصار بمقتضى قول محمد ﷺ: ﴿لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك﴾.
انطلق صحابة رسول الله ﷺ ومن بعدهم، وإلى الآن على قلة يدافعون عن عقيدتهم، فضحوا بأنفسهم، ضحوا بكل ما يملكون في سبيل الله، فربح بيعهم، وحصدوا انتصارات بارعة على أعدائهم على الرغم من قلتهم، أما اليوم فالمسلمون قد أهينت كراماتهم، وانتهكت حرماتهم، رغم كثرتهم لم؟ لاختلاف السابقين المسلمين عن الآن، أولئك صدقوا الله، وقاتلوا بقوة الله رجالًا ونساءً وأطفالًا، وتعلقوا بالله، فنصرهم الله.
هاهو طفل من أطفالهم عمير بن أبي وقاص أخو سعد كان عمره أربعة عشر عامًا، أي: بعمر أولادنا الذين يتيهون اليوم في الملاعب وعلى أنغام الموسيقى وما لا فائدة فيه، يأتي عمير يوم بدر وحمائم السيف تجر خلفه لنحافته وقصره، لكنه كبير بعقيدته وإيمانه، أمر النبي ﷺ بإعادته؛ لأنه لا يقدر على الجهاد، فبكى عمير، فقال النبي ﷺ لأخيه سعد: ﴿ما يبكيه؟ قال سعد: والله يا رسول الله! ما خرج من المدينة رغبة في شيء إلا في الشهادة في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة لعله يرزقها في هذا اليوم يا رسول الله! فتدمع عيناه ﷺ، ويأذن له، فيكون أول شهداء بدر ﵃ أجمعين﴾ حريٌ بأطفالنا، لا، بل برجالنا أن يجعلوه مثلًا يحتذى به بعد أن ضللهم الفراغ، وأعدم عندهم الأخلاق والعقائد والأفكار.
من عقيدتنا إيماننا بالله، فأين ذلك؟ يوم حدث الحادث على بلد مجاور، واليوم نحن في انتظار حرب كانت هناك حرب يلتفت الناس يمنة ويسرة فزعين هلعين قد أصابهم السخط والجزع، وكأن لم يكن لهم ربٌ يقول للشيء كن فيكون، أليس هو مالك الملك؟! أليس هو مدبر الأمر؟! بلى والله، الأمر لله، والملك لله، والخلق لله، والعزة لله، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
يا من يعرف معرفة الطريق لنصر الله! اسمع قول الله في الحديث القدسي: ﴿ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه﴾ فهل حققنا ذلك لنكون أهلًا، لنسأل فنعطى، ولنستعيذ فنعاذ؟ هل ارتبطنا بالله؟!
أما والله لو ارتبطنا به لسخر لنا كل ما في الكون، ولنصرنا، ولأعزنا، ولوقف معنا ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:٦٩] سخر الله النهر - نهر دجلة - لـ سعد بن أبي وقاص وجنده، فمشوا عليه كأنه يابسًا يرون الأسماك من تحتهم، وعبروا النهر، وأدخلوا الرعب في نفوس الفرس، فهربوا قائلين: إنكم تقاتلون شياطينًا وجنًا لا بشرًا وإنسًا، أين يكون ذلك؟ أين يكون أن يجعل النهر يابسًا إلا في عقيدتنا، نحن لا نرتبط بقوانا، ولا بقدراتنا، لكن معنا من يقول للشيء: كن فيكون.
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا؟
كنا جبالًا في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارًا
2 / 4
نصر الله متعلق بمن ينصر دينه
من استنصر بالله نصره الله، بل يمده الله بالملائكة، بل يمده بكل شيء وينصره: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال:١٢].
جاء أحد الصحابة إلى رسول الله ﷺ فقال: ﴿كنت في الجهاد فسمعت هاتفًا يقول: اقدم حيزوم اقدم حيزوم، ما حيزوم يا رسول الله؟ فقال ﷺ: هذا ملكٌ من ملائكة السماء الثالثة جاء ليقاتل معكم﴾.
أمتنا مددها من الله؛ يمدها بالملائكة، يمدها بالريح، بقذف الرعب في قلوب أعدائها، أفتستغيث بغيره وتتعلق بغيره، ثم ترجو النجاة.
عباد الله! في يوم الأحزاب أحدق الأعداء بمحمد ﷺ وجنده ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب:١٠] وهم في خضم بلواهم واختبارهم إذ بمحمد ﷺ يحن لهم، ويرق عليهم يوم يرى حال الصحابة وما بهم من جوع وبرد وقلة عدد، يعملون ثلاثة أيام لم يذوقوا شيئًا، يكشف أحدهم عن بطنه، وقد ربط عليه حجرًا من شدة الجوع، ويرى النبي ﷺ ما بهم من الجهد، فيسليهم بنفسه ﷺ، يكشف عن بطنه ﷺ، وقد ربط عليه حجران وهو يقول: ﴿اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة﴾ ويجيب الجائعون في بطونهم، الشبعانون بإيمانهم بالله، فيقولون:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا
لا إله إلا الله! أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وشريعتنا الآن؟!
إن حياتنا لا بد أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على أمل نيل الشهادات وضمان المستقبل ولقمة العيش، وإذا فاز أحد الشباب بشهادة، قالوا: أمن مستقبله.
إن مستقبل الأمة المسلمة حقًا هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، لا في بيت، ولا وظيفة، ولا شهادة، بل في جنة:
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
فاعمل لدارٍ غدًا رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
وآأسفاه على أمة الإسلام! إذا انتصرت في الرياضة قالت: بتمسكنا بعقيدتنا، ويتساءل الإنسان بمرارة أي عقيدة تكون في اللهو والطرب والضياع؟!
ثم نأسى ونتحسر ونأسف على شبابنا، وعلى ضياعهم، لا نملك إلا أن نقول:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
2 / 5
بروز العقيدة وقت الشدائد
عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمات، نرتبط بها ارتباطًا عجيبًا، هاهو ﷺ لا يؤمل صحابته في جهاده برجوعهم إلى الدنيا، لكن يؤملهم بجنة وما عند الله، حتى رأوا الجنة من هنا، وشموا رائحتها حتى قال قائلهم: واه لريح الجنة! إني لأجد ريحها دون أحد.
تعلقوا بالله وما عند الله؛ فنصرهم الله.
خالد بن الوليد يوم يجتمع الكفر عليه ويتألب عليه بأضعاف أضعاف عدد المسلمين لديه، فيقول المسلمون لـ خالد: لا بد من اللجوء إلى سلمى، أو إلى أجى -جبلين في حائل - فتدمع عيناه، وهو المتوكل على الله، والواثق بنصر الله، ويقول: لا، لا إلى سلمى، ولا إلى أجى، ولكن إلى الله الملتجى.
فينصر؛ لأنه نصر الله، وتوكل عليه.
ويا جامع الطعام والشراب استعدادًا لخوض معركة مع أعداء الله! هاهو إبراهيم ﵇ يضع زوجته وابنه إسماعيل في أرض مجدبة لا زرع فيها ولا ثمر، ويذهب فتقول زوجته: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله الذي أستودعكما إياه، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا.
ما أعظم التوكل واليقين!
يا أمة العقيدة! تمسكوا بدينكم، والتزموا شرعكم، وافتخروا به، وتحاكموا إليه في كل شئونكم، واستشعروا معية الله معكم، فإن الله مع المؤمنين ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:١٤٦] اصدحوا بالحق فقد صدح به أسلافكم، سطح ربعي في إيوان كسرى يوم سأله كسرى: لم جئتم؟ فرد بصوت مدوىٍ كالصاعقة، قال: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] يقول له كسرى: كم في جيش الإسلام من مثلك؟ قال: إني خلفت في جيش الإسلام آلافًا مثلي، فيقول كسرى: والله ليملكون ما تحت قدمي هاتين، وفعلًا ملكوه بعقيدتهم الصافية.
ألا واثبتوا -يا عباد الله- كثبات أسلافكم، ومنهم عبد الله بن حذافة يوم عرضت عليه النصرانية وهو أسير، فأبى أشد الإباء، أغليت له قدور الزيت حتى أصبح الزيت يغلي وألقي فيه اثنان من المسلمين، فتفتتوا ليرهبوه، وليردوه عن (لا إله إلا الله) وتدمع عيناه، فقيل له: لم؟! هل ستعود عن دينك إلى النصرانية؟! قال: لا.
قالوا: فما يبكيك؟! قال: [[نظرت، فإذا هي نفس واحدة، وددت أن لي أنفاسًا بعدد شعر جسدي تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله]].
والخير لا زال، وسيبقى بمقتضى ﴿لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة﴾.
هاهو أحد قادة الأفغان المعتزين بدين الإسلام، والذين يدافعون عنه بمثل هذه الأيام، يقول: اعتقل الشيوعيون أبي حتى أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ثم اعتقلوا أمي لكي أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوها، ثم اعتقلوا أخي لأترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ولا والله ما أترك الجهاد، ولن أتركه حتى النصر أو أهلك دونه في سبيل الله، فألقى الأحبة محمدًا وصحبه.
الله أكبر يا عباد الله! نريد رجالًا كهذا في مثل هذه الأيام تعتز بدينها، تعتز بعقيدتها لتنصر من رب النصر ﷾.
يا أمة العقيدة! إن أمة العقيدة أمة نشيطة لا تضيع وقتها في اللهو واللعب؛ لأن الله سيسألها عن أوقاتها، أمة العقيدة أمة تضحية، أمة العقيدة أمة مراقبة لله، ثابتة لا تتزحزح في أي مكان، أما أمة تلتزم بعقيدتها، ثم إذا سافرت إلى بلاد الكفر نسيتها هنا، ليست بأمة عقيدة حقة.
أمة تلتزم بعقيدتها في الرخاء، وفي الشدة تضيعها ليست بأمة عقيدة.
أمة العقيدة أمة آمرة ناهية ليست متخاذلة، أمة العقيدة تنكر الروابط الأرضية من جنس ولون ولغة وترفع (لا إله إلا الله).
أمة العقيدة جعلت بلالًا وسلمان وعمر وعثمان بنعمة الله إخوانًا، عقيدتنا ثمينة، عقيدتنا غالية، ألا وفي هذه الأحداث رخصت عند بعض الرخصاء من الناس، يوم خرج بعض مرضى القلوب فأطلقوا ألفاظًا نسأل الله أن لا يؤاخذ الأمة كلها بهذه الألفاظ تدل على عدم ثبات العقيدة، كقول بعضهم: إن قوى الكفر تقول للشيء: كن فيكون، لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! عقيدتنا تنادي هؤلاء المرضى، ولا زالت تناديهم: عودة إلى الله، فالعود أحمد.
العودة إلى الله أيها المسلمون! التعلق بالله، التوكل على الله، الثقة بالله، الرجوع إلى القرآن، الرجوع إلى السنة، تصفية العقيدة، عند ذلك أبشروا بالنصر ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:٧].
إسلامنا هو درعنا وسلاحنا ومنارنا عبر الدجاة الظلمة
هو بالإخوة رافعٌ أعلامه فامشي بظل رضائه يا أمتي
لا الغرب يقصد عزنا كلا ولا شرق التحلل إنهم كالحية
الكل يقصد ذلنا وهواننا أفغير ربي منقذٌ من شدتي
اللهم إنا نسألك يا من لا ينقذ من الشدة إلا أنت! نسألك نصرك نسألك عزك نسألك قوتك نسألك أن تثبتنا على الإيمان، وأن تنصرنا بالقرآن، وأن تخذل أعداءك أعداء الإسلام.
اللهم وأخرج للأمة رجالًا كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
2 / 6
احفظ الله يحفظك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله هدية أقدمها لكل مسلم يسمع ويعي هذه الأيام، أهدي قول محمد ﷺ: ﴿احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف﴾ وفي رواية: ﴿واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا﴾ لا إله إلا الله ما أحوجنا إلى فهم وتطبيق هذا الحديث في هذه الأيام، وفي كل آن، يقول بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت منه أطيش.
وآأسفاه من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم والتفهم لمعناه، أسفي على فهم تبلد فيه الفطن.
2 / 7
أهمية الإيمان بالقضاء والقدر
يا مسلمون! إننا أمة تنطلق في توجهاتها وتوقعاتها من أحكام شريعتها، وصميم عقيدتها، ومبادئ دينها، ويمثل الإيمان بقضاء الله وقدره ركنًا عظيمًا من أركان إيماننا بربنا، يقول جل وعلا: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩] ويقول: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:٣٨] ما من حدث يحدث، ولا مصيبة تحصل في أرض الله، ولا في عباد الله إلا بقدر الله ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:٢٢ - ٢٣] إن يقيننا بذلك يهون علينا مصائب الدنيا، ويجعلنا نشق طريقنا مع الأحداث بعقيدة قوية وعزيمة صادقة، والله ليست في المجتمعات البشرية كلها أمضى عزيمة ولا أقوى سكينة من المؤمن بأقدار الله جل وعلا، فهو يمضي فيما عزم عليه من الخير دون توقف أو تردد أو وجل، يقينه بأن كل ذرة في السماوات والأرض قد قدرها الله مبدأها ومعادها وأجلها، ونظامها، وعلاقتها بالكون وما فيه ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:٢٣].
المؤمن الحق يعلم أنه لن يأتيه إلا ما كتب له، فلا يعترض على قدر الله، بل يعمل ويجد ويصحح الأخطاء ﴿ولا يلدغ مؤمن من جحر مرتين﴾ أما الذين يقابلون هذه الأحداث بعقيدة مضطربة، وأفكار منهزمة، ومعنويات منهارة يمجدون المخلوق الضعيف وينسون الخالق القوي القادر، يتصيدون رضا الناس بسخط رب الناس، ينسون ربهم في حال الشدة والرخاء، يواقعون المعاصي في حال السراء والضراء، هؤلاء إنما يمكنون للعدو من أنفسهم، ويوجد في المسلمين اليوم من يستوي عنده الأمران، فأين الإيمان؟ أين العقيدة؟ هل أمنا مكر الله؟ ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:٩٩]، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون.
إن العدو الحقيقي الذي نخشاه هو من داخل أنفسنا بما كسبت أيدينا قبل أن يكون العدو الخارجي ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ * إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:١٠ - ١١].
هل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة؟!
هل يعودوا إلى قلوبهم فيصلحوها؟!
هل يعودوا إلى أنفسهم فيحاسبوها؟!
هل يعودون إلى أسرهم فيربوها؟!
لقد سمعنا مقولات، وطالعتنا صحف ومجلات، وأثقلت مسامعنا إذاعات بتوقعات وتحليلات لا تشم فيها رائحة الولاء لرب الأرض والسماوات، بل وجدت أفعال وتصرفات تبين حالة الرعب والفزع والهلع الذي حل بهؤلاء وأولئك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أين الله؟!
أين التوكل على الله؟!
ماذا يغني الإعداد الغذائي في غياب الإعداد الإيماني؟
لا بأس بالإعداد الغذائي، لا نقول: لا تعدوا أنفسكم، لكن الإعداد الإيماني هو الغاية، وهو الحبل الذي يمدنا الله به: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ [الزمر:٦١].
2 / 8
الاستعداد للمراحل التي ستمر بالأمة
إن المراحل التي تمر بها الأمة تتطلب الاستعداد بجد، يجب أن تولى حياة اللعب واللهو والترف إلى غير رجعة، ويحل محلها الإيمان والقوة والجد والنشاط والتدريب والجهاد واليقين والتوكل والتوبة والطاعة، والإيمان بقضاء الله وقدره، والاستجابة لله رب العالمين، الإيمان بأن ما حصل ويحصل من حوادث وكوارث، إنما هو بعلم الله وقدرته وإرادته، فلنعد الأنفس بالإيمان الذي تستطيع به مواجهة الشدائد، ولنقل: توكلنا على الله، ولنلجأ إلى الله بشدة، ونواصل الدعاء لنضرع عليه أن يلطف بما تجري به المقادير، لو حققنا ذلك وأيقنا أنه لن تنطلق رصاصة واحدة إلا بإذن الله، فاعتصمنا بحبل الله واجتمعنا؛ لينصرنَّا الله وهو القوي العزيز.
ليس لنا يا مسلمون بغير حبل الله مستمسك، ولا بغير دينه مستعصم، ومن اتكل في أموره على غير الله وكله الله إلى ضعفه وعجزه.
لن يحصل نصرٌ إلا بتحكيم شرع الله، وبالإعداد والتربية، بفتح الباب للدعاة، بعودة عباد الليل وفرسان النهار كما كان ذلك في تاريخ الإسلام، لكن عباد الله مع هذه الظلمة كلها، فالفجر يخرج في خضم الظلام، هذه الأمة بحمد الله وكرمه أمة خير ونصر حتى لو سلط عليها أعداؤها، فإن البشائر والآمال معقودة بأبنائها، لكن أي أبناء؟! بأبنائها أولياء الله، عمار المساجد، حفاظ الكتاب، محبي الخير، هواة الموت في سبيل الله، الدعاة إلى الله الصادقين المخلصين، عباد الله في الليل، وأسود النهار، لا زال الأمل بعد الله في هؤلاء.
فلنعتصم بالله، ولنحفظ الله، ولنتعرف على الله، ولنتضرع إليه، فهو القائل كما في الأثر: ﴿وما اعتصم عبد من عبادي بي، فكادته السماوات والأرض؛ إلا جعلت له منها فرجًا ومخرجًا﴾ ولنرفع أيدينا في جوف الليل إلى الله، ليدٌ مخلصةٌ في جوف الليل ترفع إلى الله أشد على الأعداء من القنابل الذرية والجرثومية والغازات السامة ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:٤٠].
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فأشغله بنفسه، اللهم دمره، اللهم مزقه، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع له راية، اللهم اجعله لمن خلفه آية، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، يا قهار! يا جبار! يا مالك الملك! يا من أنت على كل شيء قدير! أرنا في الظلمة يومًا تقر به أعين الموحدين، اللهم إنا نجعلك في نحور الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرور المعتدين، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله يا أكرم الأكرمين!
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم قوي يقيننا وتوكلنا وصدقنا وإخلاصنا وثبتنا في زمن الفتن، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم إذا نسوك، وتعينهم على الحق يا أكرم الأكرمين!
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
2 / 9
حقيقة الكلمة
إن العبد المؤمن الذي يبتغي مرضات الله سبحانه، ليتذكر يوم وقوفه بين يدي الجبار حيث يكلمه ليس بينه وبين الله ترجمان؛ فيكون ذلك دافعًا لأن يجعل تقوى الله مصاحبه، ورضا الله مطلبه، واتباع سنة نبيه ﷺ قائده، وإعداد الجواب والصواب بين يدي الله مقصده، فيتزود بالتقوى والأعمال الصالحة.
3 / 1
وصية الله للأولين والآخرين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
أما بعد: عبد الله! عقلك عقلك، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول؛ راجيًا أن يتسع صدرك احتسابًا لما أقول.
ثم حلِّقْ معي بخيالك متخيلًا ما هو واقع، ومتصورًا ما هو حقيقة على الحقيقة.
3 / 2
حقيقة الموقف وأهوال القيامة
تخيل وليدًا عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين.
وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافيًا عاريًا أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالًا ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش.
السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت.
والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت.
والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت.
العِشَار عُطِّلت الوحوش حُشِرت البحار فُجِّرت وسُجِّرت.
الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ.
الكواكب انتثرت النجوم انكدرت الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت.
الأمم ازدحمت وتدافعت الأقدام اختلفت الأجواف احترقت الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت.
فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين.
والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس.
الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها.
اللسان كليل القلب حسير كسير الجوارح اضطربت الألوان تغيرت لِمَا رأت الفرائص ارتعدت القلوب بالنداء قُرِعت والموءودة سُئلت والجحيم سُعِّرت والجنة أُزلِفَت.
عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت.
زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت.
وأحضروا للعرض والحساب وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال وانعجم البليغ في المقال
وعنت الوجوه للقيوم واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم
وساوت الملوك للأجناد وجيء بالكتاب والأشهاد
وشهد الأعضاء والجوارح وبدت السوءات والفضائح
وابتُليت هنالك السرائر وانكشف المخفي في الضمائر
هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟!
ما اقترف ذنبًا، وما ارتكب جُرْمًا، اًالأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعورًا قلبه، اشتعل رأسه شيبًا في الحال؛ لهول ما يرى.
فيالله لذلك الموقف:
يوم عبوس قمطرير شرُّه وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنب يخاف مصيره كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟!
قال الله ﷿: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:١٧].
عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!
3 / 3
المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة
إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين.
أي أمر هذا أيها المؤمنون؟
إنه وصية الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:١٣١] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الزمر:٦١] ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم:٧١ - ٧٢].
أي تقوى تنجي بين يدي الله؟
أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟
أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟
كلا.
ما كل منتسب للقول قوَّال.
لو أن أسباب العفاف بلا تقى نفعت لقد نفعت إذًا إبليس
فهو القائل: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر:١٦] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها كُنهها ماهيتها مضمونها.
فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟
إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان:
وثالث مرتبة الإحسان وتلك أعلاها لدى الرحمن
وهي رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعيان
3 / 4
حقيقة الاتباع عند الصحابة
بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقًا ونظامًا، رابطة وأخوة.
هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.
هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكارًا ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكًا محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها:
خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات
فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله ﷺ فصاغوه واقعًا حيًّا نابضًا انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم.
صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.
إذا ما دُعوا للهدى هرولوا وإن تدعهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: ﴿كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلانًا وفلانًا وفلانًا، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله ﷺ مناديًا ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة﴾، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:٩١] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا.
لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالًا لأمر الله، وأمر رسول الله ﷺ.
إن النبي ﷺ يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعبًا حين تخلف عن تبوك، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ ﵇، فاستعبرت عينا كعب ﵁ ورجع كسير البال، كاسف الحال.
فأمْرُ رسول الله ﷺ عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب ﵁ وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها:
ما بعث نفسي إلا لله ﷿ فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى ﷺ ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئًا سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: ﴿بينما رسول الله ﷺ يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى ﷺ صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا﴾.
توحيد في الاتباع.
فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلًا مع رسول الله ﷺ في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم ﷺ: ﴿إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم﴾ تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى
تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها حقًا يقال لمثله أطْرق كرى
أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى
3 / 5