لقد أغرتني معرفتي بحجم التوزيع العالمي لزجاجة «الكوكاكولا» من ناحية، وبأن الشعب المصري من الشعوب المدمنة لاستخدام مياه الحنفية في الشرب (على عكس الشعوب المتحضرة عموما) من ناحية أخرى، على الربط بين عودة هذه الزجاجة إلى مصر وظاهرة قلة مياه الحنفية واختفائها تقريبا بالنهار، فضلا عن دكنة لونها وميله إلى السواد.
إلا أني لم ألبث أن اكتشفت أن الظاهرة المذكورة سابقة على عودة «الكوكاكولا» بسنوات. وبالبحث وجدت أن الحنفية ظلت من الستينيات المصدر الوحيد لمياه الشرب، إلى أن طبقت سياسة التنويع، وظهرت المياه المعدنية المستوردة. واكتشفت أن التغيير الذي لحق بمياه الحنفية قد بدأ منذ تلك اللحظة، مما يتفق مع النتائج التي توصلت إليها في حالة مماثلة، هي الخاصة بمصير السيجارة المصرية.
على أن الوقوف عند إحدى النتائج والقناعة بها من المخاطر التي يواجهها الباحثون عادة؛ فبمواصلة البحث، مهتديا بالمنهاج ذاته، أمكنني التوصل إلى رؤية أعمق تكشف أيضا عن الترابط بين عدد من الظواهر.
ذلك أن مشروعات شركة «الكوكاكولا» لري الصحاري ظلت لفترة طويلة قاصرة على مجال واحد هو إزالة ملوحة مياه البحر. وقد أتاحت لها حرب أكتوبر فرصة ذهبية لتنويع وسائل عملها باستخدام مياه النيل في ري صحراء النقب، وهو ما تيسر بفضل الأنفاق الهائلة المحفورة أسفل قناة السويس. ومن الطبيعي أن يؤدي مثل هذا التنويع إلى قلة المياه المنسابة من الحنفيات، كما أن انخفاض التخزين نتيجة للسحب المتزايد هو المسئول عن تسلل الشوائب إلى المياه وتغير لونها.»
خاطبني الأشقر بلهجة ظافرة: «أتريدنا أن نصدق أنك عرفت كل هذه الأشياء بجهدك الخاص عن طريق الصحف؟!»
أجبت: «أجل!»
تكلم «العسكمدني» أو «المدنعسكري» لأول مرة، وكان يضع «باروكة» واضحة على رأسه، فخاطبني في لهجة حازمة: «من الخير لك أن تدلي على الفور بأسماء شركائك والتفاصيل الكاملة للمؤامرة قبل أن نجبرك على ذلك؛ فنحن قادرون على فك عقدة لسانك. حقا إننا لا نميل - بحكم المبادئ الإنسانية التي نسترشد بها - إلى الالتجاء لهذا السبيل، إلا أن للضرورة أحكامها.»
مالت العانس نحوي وقالت في رقة: «لا أظن أننا سنضطر إلى ذلك ؛ فهو سيتكلم حالما يتبين مصلحته.»
هبط قلبي بين قدمي وقلت: «أنا أعرف الوسائل التي تشيرون إليها، ومن المؤكد أنها ستضطرني للاعتراف بأي شيء. لكن ما سأعترف به - في هذه الحالة - لن يكون هو الحقيقة، أما أنتم فستظلون دائما في حيرة من أمري.»
ران الصمت على القاعة وجعلوا يتبادلون النظرات، وأدركت - كما يقولون بلغة اللجنة - أن القذيفة التي أطلقتها في الظلام قد أصابت مقتلا.
Bog aan la aqoon