قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
Bog aan la aqoon
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
اللجنة
اللجنة
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
Bog aan la aqoon
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
الفصل الأول
بلغت مقر اللجنة في الثامنة والنصف صباحا قبل نصف ساعة من الموعد المحدد لي، ولم أجد صعوبة في العثور على الغرفة المخصصة لمقابلاتها. وكانت في طرقة جانبية هادئة، كابية الضوء، يقف أمامها عجوز في سترة صفراء نظيفة، تنطق ملامحه بالطمأنينة التي تغشى وجوه من يرفعون راية الاستسلام عندما يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، فينسحبون من صخب الحياة والصراع الدائر على مظاهرها الفانية.
أفضى إلي الحارس بأن أعضاء اللجنة لا يتوافدون عادة قبل الساعة العاشرة. ووجدت ذلك أمرا طبيعيا، رغم أنه ضايقني. وندمت لأني التزمت بالموعد المحدد بالضبط، فغادرت فراشي مبكرا دون أن أنعم بقسط كاف من النوم.
Bog aan la aqoon
لم يكن هناك مقعد غير الذي يجلس عليه الحارس، فوقفت إلى جواره، ووضعت حقيبتي «السامسونايت» على الأرض، ثم قدمت إليه سيجارة وأشعلت لنفسي أخرى. كان قلبي يدق بعنف طيلة الوقت، رغم محاولاتي للتماسك والسيطرة على أعصابي. وكررت لنفسي أكثر من مرة أن اضطرابي سيفقدني الفرصة المتاحة لي؛ إذ سأعجز عن تركيز انتباهي وهو ما أحتاج إليه بشدة في المقابلة القادمة.
ضقت بالوقوف بعد قليل، فحملت الحقيبة في يدي، ومضيت في الردهة الطويلة حتى نهايتها، ثم استدرت عائدا وعيني على باب الغرفة؛ خشية أن تكون اللجنة قد وصلت واستدعتني. لكن الحارس كان ما يزال جالسا في مكانه، يحدق أمامه بدعة، وهو يحرك فمه الخالي من الأسنان كأنما يلوك شيئا وهميا.
عدت أذرع الطرقة جيئة وذهابا وأنا أتطلع إلى ساعتي بين الفينة والأخرى. وكانت عقاربها قد اقتربت من العاشرة والنصف عندما رأيت الحارس ينتفض واقفا ويضع سيجارته على الأرض أسفل المقعد، ثم يدير مقبض باب الغرفة ويفتحه بحذر، ثم يختفي وراءه.
أسرعت أتخذ مكاني إلى جوار مقعد الحارس وقلبي يدق أسرع من ذي قبل. وتوقعت أن يطلب مني الدخول عندما يخرج، لكنه لم يفعل، وإنما عاد إلى كرسيه بعد أن تناول سيجارته، وواصل التدخين في هدوء.
حزمت أمري أخيرا وسألته بلطف عما إذا كانت اللجنة قد وصلت، فقال: «واحد منهم فقط.»
تساءلت: «لكني لم أر أحدا يدخل الغرفة؟»
أجابني: «هناك باب آخر يدخلون منه.»
بقيت واقفا إلى جواره نصف ساعة، تتابع خلالها وصول أعضاء اللجنة عن طريق الباب الداخلي. ومضى الحارس عدة مرات إلى البوفيه ليحضر لهم القهوة. وفي كل مرة كنت أحاول اختلاس النظر داخل الغرفة، لكنه كان يحرص دائما على ألا يكشف الباب إلا عن فرجة يسيرة تسمح له بالدخول، بعد أن يحشر نفسه خلالها دون أن تكشف لي عن شيء.
وفي إحدى المرات برز من الغرفة وهو يحمل في يده حذاء جلديا، ونادى على ماسح أحذية يقف في نهاية الردهة فأعطاه الحذاء. وعندما أراد هذا أن يقتعد الأرض قرب الباب، نهره الحارس وأشار إليه أن ينتحي بعيدا حيث كان يقف.
عاودت السير وأنا أنقل حقيبتي من يد إلى أخرى. كنت متعبا لأني لم أنم جيدا بالأمس رغم الحبة المنومة التي تناولتها؛ ولهذا السبب كان هناك صداع خفيف يحوم عند مؤخرة رأسي. ولم أكن قد حسبت حسابا لهذا الطارئ، رغم أني لم أفعل شيئا طوال العام الماضي كله سوى الاستعداد لاحتمالات اليوم. ولم أجرؤ على مغادرة مكاني بحثا عن مسكن خشية أن تستدعيني اللجنة خلال ذلك.
Bog aan la aqoon
اقتربت أثناء سيري من مكان ماسح الأحذية الذي أقبل ينظف بحماس حذاء اللجنة (هكذا أسميته في سري وأعجبتني التسمية حتى إني ابتسمت). ورأيته قد انتهى من تلميع وجه الحذاء، فقلبه ومضى يطلي نعله السفلي.
استدرت عائدا إلى حيث يجلس الحارس، فوضعت حقيبتي إلى جواره على الأرض وناولته سيجارة، ثم أشعلت واحدة، وبقيت إلى جواره أدخن. ولم يلبث الماسح أن انتهى من الحذاء، فأحضره إلى الحارس الذي تناوله بعناية وحمله إلى الداخل. وخرج بعد قليل حاملا صينية امتلأت بفناجين القهوة الفارغة، فمضى بها إلى البوفيه، ثم عاد إلى مكانه فوق الكرسي.
ولما كنت أنا الوحيد الذي ستستقبله اللجنة اليوم؛ لسبب بسيط هو أن الساعة أشرفت على الحادية عشرة والنصف، دون أن ينضم إلي أحد؛ فقد خطر لي أنها تناقش أمري الآن. وكانت هذه فكرة مزعجة للغاية؛ لأن معناها ببساطة أن تتكون لديها صورة مبدئية عني. وإذا كانت هذه الصورة سلبية، وهو الاحتمال الغالب لأسباب عديدة؛ فإن ذلك من شأنه أن يضيق من فرصة التأثير الذي يمكن أن أحدثه عندما أمثل أمامها. كنت أعرف أن لديها تقارير كافية عني، ومع ذلك فقد فهمت أن مصيري يتوقف على المقابلة القادمة. وليس معنى هذا أني الذي سعيت إلى هذا اللقاء، وإنما قيل لي إنه لا مندوحة منه؛ ولهذا جئت.
وعند الظهر تماما دخل الحارس الغرفة، ثم خرج على الفور وسألني عن اسمي، وعندئذ أشار إلي بالدخول.
تناولت حقيبتي بيدي اليمنى، وبيدي الأخرى تحسست رباط عنقي لأتأكد من أنه في المكان الصحيح. ورسمت على وجهي ابتسامة واثقة، ثم وضعت يدي على المقبض الأبيض المصنوع من الخزف، الذي تطلعت إليه عشرات المرات في غضون الساعات الثلاث الماضية، وأدرته دافعا الباب إلى الداخل، وولجت الغرفة.
وللوهلة الأولى ارتكبت غلطتين.
ففي اضطرابي - الذي جاهدت عبثا أن أخفيه - نسيت أن أغلق الباب خلفي، وعندئذ سمعت صوتا نسائيا بالقرب مني يقول بلهجة رقيقة: «أغلق الباب من فضلك.»
اندفع الدم حارا إلى وجهي واستدرت إلى الباب، فأمسكت مقبضه بيدي اليسرى ودفعته إلى الخارج، لكنه لم ينغلق.
كان المصراع قديما يتطلب إغلاقه قليلا من الضغط، وكانت يدي اليمنى مشغولة بالحقيبة، فاستخدمت ركبتي للضغط عليه، بينما تصبب العرق على جبيني.
عندئذ سمعت نفس الصوت النسائي الرقيق يقول: «ضع الحقيبة على الأرض واستخدم يديك الاثنتين.»
Bog aan la aqoon
وأدركت أني خسرت الجولة الأولى.
كنت أعرف أن اللجنة ستوجه إلي بعض الأسئلة، لكن هدفها لم يكن قاصرا على تبين مدى معلوماتي، وإنما يمتد إلى استكناه مفاتيح شخصيتي وحجم قدرتي الذهنية؛ فمضمون الإجابة ليس هو كل شيء، رغم ما له أيضا من وزن، والأهم منه هو القدرة على المواجهة.
وكما سبق أن قلت، فقد قضيت العام الماضي في الاستعداد لهذا اليوم بشتى الوسائل؛ فعكفت على دراسة اللغة التي تستخدمها اللجنة في مقابلاتها، وراجعت معلوماتي في مختلف المجالات، فقرأت في الفلسفة والفن والكيمياء والاقتصاد، ووجهت إلى نفسي عشرات الأسئلة المتباينة، وأنفقت أياما وليالي في البحث عن إجاباتها، وتابعت برامج الذكاء والفوازير التي يذيعها التليفزيون، وراجعت الأبواب المماثلة في الصحف والمجلات. وأسعفني الحظ عندما اكتشفت أن أخي الذي يكبرني بعشرين عاما يحتفظ لديه في حزمة يضمها خيط من المطاط بمجموعة «صدق أو لا تصدق» الكاملة، منذ بدأ نشرها قبل ثلاثين عاما.
ولم أكتف بهذا؛ فحاولت أن أكون فكرة واضحة عن عمل اللجنة بالبحث عمن مثلوا أمامها من قبل. ورغم ثقتي من كثرتهم فإني لم أتوصل إلى غير قليلين منهم، نفى أغلبهم أنه تقدم إلى اللجنة في يوم من الأيام، بل أنكر معرفته بوجودها. وتذرع الآخرون بأنهم نسوا تفاصيل ما جرى معهم، فجاءت أقوالهم عائمة متضاربة. ولم تساعدني الشذرات الأخرى التي التقطتها من مصادر مختلفة على استخلاص شيء. الأمر الوحيد الذي خرجت به أنه ليس ثمة قاعدة محددة لعمل اللجنة.
وعندما سعيت لجمع المعلومات عن أعضائها؛ لعلي أستطيع تكوين فكرة عن اتجاهاتهم وميولهم؛ وجدت ستارا من السرية المحكمة قد أسدل على أسمائهم ومهنهم. وكان كل من سألته عنهم يتطلع إلي في وجود وإشفاق بالغين.
لكن الجميع اتفقوا على أن اللجنة تنصب شراكا ماهرة لكل من يمثل أمامها؛ ومعنى هذا أن حكاية الباب وإغلاقه لم تكن مصادفة؛ فهي قد كشفت لهم - والمقابلة لم تبدأ بعد - عن ارتباكي وقلة حيلتي.
ولكم أن تتصوروا حالتي بعد هذه التجربة الفاشلة وقد وقفت أمامهم غارقا في عرقي. لكن أغرب ما في الموضوع أني لمست في أعماقي شعورا بالارتياح لهذا الفشل، كأنما كان ثمة جزء من نفسي يخشى على نفسه من نجاحي. ولم يحل ذلك دون اضطرابي أو رغبتي الجارفة في كسب رضاء هؤلاء الذين اصطفوا أمامي إلى مائدة طويلة بعرض القاعة.
كان عددهم كبيرا حقا. ولأني كنت عاجزا عن التركيز لم أتمكن من إحصائه بالضبط. وكان بعضهم منهمكا في أحاديث هامسة، والبعض الآخر يتصفح أوراقا أمامه، وأغلبهم يضع عوينات سوداء كبيرة على عينيه. وخيل إلي أن بينهم وجوها مألوفة طالعتني من قبل على صفحات الجرائد والمجلات، واكتشفت أيضا أني أعرف صاحبة الصوت الرقيق؛ فهي عانس التقيت بها في إحدى المناسبات. ولمت نفسي على أني لم أولها - حينذاك - شيئا من الاهتمام. وكانت تتطلع إلي الآن بابتسامة خلت أنها ودية.
ولم أدهش عندما رأيت بينهم ثلاثة من العسكريين. وكانت الشرائط الحمراء الموشاة بالذهب فوق ياقات ستراتهم تنطق برفعة شأنهم.
وكان يتوسطهم عجوز متهالك، ذو عوينات طبية سميكة، قرب منها ورقة في يده حتى أوشكت أن تلامسها، واستغرق في محاولة القراءة. وقدرت أن الورقة تنتمي ولا شك إلى الملف الخاص بي.
Bog aan la aqoon
فرغ العجوز من القراءة، أو لعله يئس من المحاولة، فوضع الورقة على المائدة، واستدار بوجهه ناحية اليسار، ثم ناحية اليمين؛ فأدرك زملاؤه أن الجلسة بدأت، وكفوا عن الكلام وهم يسلطون نظراتهم علي.
تعلقت عيناي بشفتي العجوز، وبدا لي وجهه الشاحب أبعد ما يكون عن الحياة.
خاطبني قائلا: «في بداية هذا اللقاء أحب أن أسجل تقديري، الذي يشاركني فيه زملائي، لاختيارك المجيء إلينا. وليس معنى هذا أننا سنأخذ - حتما - بوجهة نظرك؛ فهذا أمر يتوقف على أشياء كثيرة، ونحن هنا اليوم لنحسمه. أما ما أردت أن أوضحه فهو أن المثول أمام لجنتنا - كما يعلم الجميع - ليس إجباريا؛ ففي هذا العصر يتمتع كل إنسان بحرية تامة في الاختيار، ويعكس هذا الاختيار من جانبك قدرا كبيرا من سلامة التفكير ونفاذ البصيرة، وهو مؤشر هام سنأخذه في اعتبارنا عندما نبحث حالتك. إلا أننا نود أولا أن نسمع وجهة نظرك في هذا الشأن.»
كنت أعرف مما سمعته من مختلف المصادر أن اللجنة تطالب الماثلين أمامها دائما بعرض للأسباب والدوافع التي حملتهم على التوجه إليها؛ ولهذا السبب أعددت الإجابة مقدما.
وكنت قد توقعت أن تكون اللجنة على إدراك بأني سأفعل ذلك؛ ولهذا فكرت طويلا قبل أن أستقر على الإجابة الضرورية، فلم أشأ أن أقدم إليهم إجابة مبتذلة سمعوها من قبل، هدفها الظاهر هو تملقهم، إنما أردت أن أقدم إليهم إجابة متميزة، تبدو بسيطة وتلقائية، كأنما فوجئت بالسؤال، وتنطق بشيء من الأمانة والصدق، أعطي فيها صورة دقيقة عن نفسي، دون أن أتورط في الحديث عن أشياء معينة، مثل الدوافع الحقيقية لبعض الأفعال، وإنما أشير إلى هذه بطريقة تخلي مسئوليتي عن كل ما من شأنه أن يسيء إلي، وتجعلهم يستنتجون ما أتصور أنه سيلقى قبولا لديهم.
وكانت تلك في الواقع مهمة شاقة للغاية؛ بالنظر إلى ما لديهم من وسائل خاصة وإمكانيات واسعة، تتيح لهم معرفة كل شيء عني.
بلعت ريقي عدة مرات، ثم شرعت أتكلم، وخرج صوتي خافتا، فمال العجوز إلى الأمام واضعا يده على أذنه اليمنى وقال: «عفوا، إني لا أسمع جيدا بإحدى أذني، فهل لك أن ترفع صوتك؟»
أذعنت لطلبه ومضيت أبسط الإجابة التي أعددتها من قبل. وغني عن البيان أني نسيت جزءا كبيرا منها بسبب اضطرابي من ناحية، وصراعي مع لغتهم - كي لا أرتكب أخطاء فادحة في قواعدها - من ناحية أخرى.
المهم أني رسمت لهم صورة عامة لنشأتي، والمسار الذي اتخذه تطور حياتي وفقا لظروف لم يكن لي فيها خيار كبير، وان كنت مسوقا أيضا بأحلام عريضة، وبالرغبة في تنمية مواهبي واستغلالها على أحسن وجه. ولم يفتني أن أنوه بالمثل والمبادئ الأخلاقية التي كنت أسترشد بها.
انتقلت بعد ذلك إلى المحنة التي وقعت لي وعرضتني للمرض، وقلت إن مرضي في الغالب كان نتيجة للتباين الشاسع بين طموحاتي وقدراتي الحقيقية، وأنه أدى بي إلى أن أضيق ذرعا بكل شيء، حتى لم يعد أمامي من مخرج سوى أن أغير حياتي تغييرا تاما.
Bog aan la aqoon
وأشفعت حديثي بحركة مسرحية تدربت عليها؛ إذ تناولت حقيبتي وفتحتها، ثم أخرجت منها مجموعة من الشهادات التي حصلت عليها من مصادر مختلفة تنوه بكفاءاتي، وتؤكد صحة المعلومات التي قدمتها عن نفسي.
ولما كانت أغلب هذه المواد باللغة العربية؛ فقد انطلقت أتحدث عنها بلغة اللجنة، فاستمعوا إلي باهتمام وهم يتصفحون الأوراق التي وضعتها أمامهم. لكني لاحظت أن العضو الجالس إلى يسار العجوز - وهو أشقر الشعر ملون العينين - لم يعبأ بهذه الشهادات، وانهمك في تصفح ملف يضم - ولا شك - التقارير السرية بشأني.
رفع عضو قصير القامة قبيح الوجه رأسه نحوي، وكان يجلس إلى يمين الرئيس بينه وبين أحد العسكريين، وخاطبني في لهجة عدائية: «أنا لا أستطيع أن أفهمك؛ فأنت فيما يبدو قطعت شوطا بعيدا، وها أنت في هذه السن تسعى وراء بداية جديدة. ألا تظن أن الوقت قد فات لذلك؟!»
أجبته بلهفة: «إن الكثيرين يبدءون حياة جديدة بعد الأربعين. ثم إنها ليست بداية جديدة بمعنى الكلمة، وإنما هي تتويج للمسيرة السابقة، واستثمار شامل للإمكانيات المختلفة التي أملكها، ومن زوايا عديدة يمكن اعتبارها تطورا طبيعيا لشخصيتي.»
همهم القصير غاضبا، وعجبت لحقده علي، وأحسست إحساسا مبهما أني أثرته عندما أبرزت مواهبي، ودللت عليها بالشهادات الصادرة من جهات محترمة ذات نفوذ.
وتتبعت هذا الخط من التفكير، فقدرت أنه ربما وقف موقفي في صدر شبابه وأجازته اللجنة، لكنه فشل في تحقيق الآمال المعقودة عليه، وانتهى به الأمر إلى أن يكون مجرد عضو من أعضائها؛ ذلك أنه بالرغم من خطورة اللجنة وضخامة نفوذها، فإن البعض - وأنا منهم - يعتبرون عضويتها دليلا على نضوب الموهبة والفشل التام.
تكلمت إحدى السيدات وهي عجوز وقور، كانت تجلس في أقصى اليسار إلى جوار رجل بدين يرتدي سترة بيضاء، ويضع ساقا على ساق رافعا رأسه إلى أعلى، محدقا في السقف كأنه ليس معنا. سألتني: «هل تعرف الرقص؟»
أجبت: «أجل، بالطبع.»
فتدخل الرجل القصير الغاضب قائلا: «أرنا إذن.»
سألته: «أي أنواع الرقص؟»
Bog aan la aqoon
وأدركت أني أخطأت بالسؤال. أي نوع من الرقص حقيقة؟! كما لوكان ثمة غيره.
تصرفت بسرعة وبراعة. طمعت في أن تشهدا لصالحي؛ فعندما لم أجد ما أحزم به وسطي، خلعت رباط رقبتي، وعقدته حول خصري فوق عظام الحوض مباشرة، حيث يتمتع الجسم بمرونة بالغة. وراعيت أن أجعل العقدة على الجانب كما تفعل الراقصات المحترفات. وسرعان ما اكتشفت أن لهذا الوضع ميزة كبرى؛ فهو يكاد يفصل البطن عن الردف، ويعطي لكل منهما قدرة كبيرة على الحركة المستقلة.
انطلقت أهز وسطي وأنا أرفع كعبي قدمي قليلا عن الأرض، متطلعا إليهما من فوق كتفي، بينما أشرعت ذراعي إلى أعلى وشبكت يدي فوق رأسي. ورقصت في حماس بعض الوقت، بل حاولت أن أطرقع بأصابع يدي بعد أن ضممت سبابتيهما. وكنت منهمكا في ذلك فلم أعرف انطباع الأعضاء.
تكلم الرئيس الذي لا يسمع ولا يرى فجأة قائلا وهو يلوح بيده: «كفى.»
عندئذ مال أحد العسكريين الذي كاد وجهه يختفي تماما خلف عوينات سوداء كبيرة، وخاطبني قائلا: «إننا نعرف من الأوراق التي أمامنا كل شيء تقريبا عنك، لكن هناك شيء واحد ما زلنا نجهله؛ وهو أين كنت في ذلك العام؟ فهل لك أن تخبرنا؟»
تشاغلت بنزع رباط عنقي عن خصري وعقده حول رقبتي وأنا أفكر بسرعة في العام الذي يعنيه؛ ففي حدود معرفتي بلغة اللجنة، لم يكن اسم الإشارة الذي استخدمه يشير إلى العام الذي نحن فيه. وطالما أنه لم يذكر عاما بعينه؛ فلا بد أنه تعمد ذلك، وبهذا يكون الأمر شركا نصب لي، خاصة وأني لا أتصور أن يكون ثمة نقص في التقارير المرفوعة عني.
لم يكن في وسعي أن أستفسر عن العام الذي يقصده، وإلا أكون قد وقعت في الفخ. وتعين علي أن أحدده بمفردي وبأسرع ما يمكن.
بدت لي المسألة صعبة للغاية، وقررت أن المخرج الوحيد هو أن أستبعد بعض الأعوام المحتملة مثل 48 و52 على أساس عمري في ذلك الحين؛ وبذلك أضيق من دائرة البحث. بقيت أمامي أعوام 56 و58 و61 و67. وقبل أن ينتابني اليأس خطرت لي إجابة موجزة لا تبعد عن الحقيقة كثيرا.
قلت: «في السجن.»
ويظهر أن إجابتي، على إيجازها، كانت مفحمة؛ فلم يسألني أحد شيئا. وتبدد جانب من الجو العدائي الذي جابهني في البداية، أو هكذا خيل لي. وإن كنت قد احترت في تفسير النظرة التي لمحتها في العينين الملونتين للعضو الأشقر، وهيئ لي أن بها شيئا من السخرية.
Bog aan la aqoon
رأيته يخط بقلم أحمر على ورقة أمامه، ثم مال على الرئيس العجوز وهمس له شيئا في أذنه اليسرى التي تجيد السمع، وهو يناول الورقة للقصير.
خاطبني الرئيس في لهجة حازمة: «لقد استمعنا منك إلى حديث طويل عن مواهبك وقدراتك، لكن لدينا هنا تقريرا يقول إنك لم تتمكن من ممارسة الجنس مع سيدة معينة. والتقرير لا تشوبه شائبة؛ فقد رفعته نفس السيدة التي تعرضت لهذا الموقف، فما تفسيرك له؟!»
أخذني هذا السؤال على غرة. وشعرت بالحيرة؛ لأن هذا الطارئ لم يعرض لي مع سيدة واحدة فقط، وإنما مع عدد منهن ولأسباب مختلفة. ولما كانت اللجنة دقيقة في عملها فلا بد أن تكون إجابتي محددة، وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرف السيدة التي يعنيها ؟
كان العضو القصير - بدافع من حقده علي - هو الذي أنقذني من الإجابة؛ فلم يملك نفسه وصاح: «ربما كان عنينا.»
لكن ذا الشعر الأشقر لم يشاطره الرأي؛ فقد انحنى على أذن الرئيس قائلا: «هو في الغالب ...»
لم أسمع بقية الجملة، لكني لم أجد صعوبة في تخمينها.
أشار إلي صاحب الشعر الأشقر أن أقترب بحيث أقف أمامه، ثم أمرني بأن أخلع بنطلوني، ففعلت، ووضعت بنطلوني على حافة مقعد فارغ، ثم وقفت أمامهم بسروالي الداخلي القصير والجورب والحذاء.
ظلوا يتطلعون إلي كما لو كانوا ينتظرون شيئا، فمددت يدا إلى سروالي الداخلي متسائلا: «وهذا أيضا؟»
أومأ الأشقر برأسه فخلعت السروال ووضعته فوق البنطلون، بينما استقرت أنظار أعضاء اللجنة على الجزء العاري من جسدي يتأملونه باهتمام.
ولم يلبث الأشقر أن طلب مني أن أستدير وأعطيه ظهري، ثم أمرني أن أنحني، وشعرت بيده على أليتي العارية، وأمرني أن أسعل، وعندئذ شعرت بإصبعه داخل جسدي.
Bog aan la aqoon
اعتدلت واقفا بعد أن سحب الرجل إصبعه، وعدت أواجههم، فرأيت الرجل الأشقر يتطلع إلى الرئيس قائلا في انتصار: «ألم أقل لك؟»
ابتسم العجوز لأول مرة، وانطلق الجميع يتكلمون في وقت واحد. وساد الهرج القاعدة؛ فلم أتبين شيئا مما يقولون. وأخيرا دق الرئيس على المائدة بقبضة يده، فتوقف الكلام، وعندما هدأت الضجة تماما خاطبني قائلا: «إن القرن الذي نعيش فيه هو بلا شك أعظم عصور التاريخ، سواء من حيث ضخامة وقائعه وعددها، أو من حيث الآفاق التي تنتظره. فبأي شيء من هذه الوقائع، كالحروب والثورات والابتكارات، سيذكر قرننا في المستقبل؟»
رحبت بهذا السؤال رغم صعوبته؛ لأني وجدت فيه فرصة لاستعراض معلوماتي في موضوعات محببة لدي.
قلت: «هذا سؤال قيم، وبوسعي أن أذكر أمورا كثيرة ذات خطر.»
تدخل ذو الشعر الأشقر موضحا: «إننا نريد أمرا واحدا، ولا بد أن تكون له صفة العالمية من حيث ماهيته أو دائرة نفوذه، فضلا عن قدرته على تجسيد المعاني السامية والخالدة لحضارة هذا القرن.»
ابتسمت وأنا أقول: «وهنا وجه الصعوبة يا سيدي؛ فمن الممكن أن نذكر مارلين مونرو ؛ لأن هذه الفاتنة الأمريكية كانت حدثا عالميا حضاريا بمعنى الكلمة، لكنه حدث عابر، ولى أمره وانتهى؛ فمقاييس الجمال تتغير كل يوم على يد أشخاص موهوبين مثل ديور وكاردان. والكائن الإنساني نفسه فان، وهي خاصية تنأى بنا عن اختيار البترول العربي الذي سينضب بعد سنوات قليلة. ويمكن أن نذكر غزو الفضاء سوى أنه لم يتمخض بعد عن شيء ذي قيمة. ونفس المعيار يجعلنا نستبعد الكثير من الثورات. ربما خطر لنا أن نتوقف عند فيتنام، وهو ما لا أحبذه لما سيجرنا إليه ذلك من مداخلات أيديولوجية لا ضرورة لها.
أقول كل هذا لأنكم طلبتم أمرا سيذكر به قرننا في المستقبل. أولا يتحقق هذا إذا ما وجد الشيء نفسه في المستقبل ليكون تذكرة دائمة بنفسه؟
وهذا يقودنا للبحث في اتجاه آخر، وسنعثر بغير صعوبة على الطريق السليم، لكنه للأسف طريق طويل مزدحم، كالطريق المؤدي إلى المطار، بلافتات كثيرة تحمل أسماء شديدة التنوع مثل فيليبس، توشيبا، جيليت، ميشلان، شل، كوداك، وستنجهاوس، فورد، نسله، مارلبورو.
وأظنكم توافقونني أيها السادة على أن العالم كله يستخدم الابتكارات التي تحمل هذه الأسماء. كما أن الشركات العملاقة التي تنتجها تستخدم العالم بدورها، فتحول العمال إلى آلات، والمستهلكون إلى أرقام، والأوطان إلى أسواق؛ وهي بذلك نتاج ذو خطر لمنجزات قرننا العلمية والتكنولوجية، كما أنها غير معرضة للفناء أو النضوب؛ فقد وجدت لتبقى.» - «أيها إذن نختار؟»
توقفت لحظة محسوبة وأنا أتطلع إليهم، ثم أجبت بطريقة مسرحية: «ولا واحدة!»
Bog aan la aqoon
سرت همهمة بين الأعضاء فتجاسرت ورفعت يدي قائلا: «مهلا أيها السادة. لم أقصد أني عاجز عن الإجابة على سؤال لجنتكم الموقرة، وإنما أردت أن أقول إن الإجابة ليست فيما ذكرت لكم من أسماء.»
توقفت لحظة، ثم استطردت: «سأذكر لكم أيها السادة، ردا على سؤالكم، كلمة واحدة وإن كانت منصفة، هي كوكا-كولا.»
انتظرت أن أسمع تعليقا ما أتبين منه أثر إجابتي، لكن الصمت ران عليهم. عندئذ مضيت في حديثي: «لن نجد، أيها السادة، بين كل ما ذكرت شيئا تتجسد فيه حضارة هذا القرن ومنجزاته، بل آفاقه، مثل هذه الزجاجة الصغيرة الرشيقة التي يتسع است كل إنسان لرأسها الرفيع.»
ابتسمت لهم منتظرا أن يشاركوني الابتسام لمحاولتي في الفكاهة، لكنهم ظلوا يتطلعون إلي في جمود، فاستطردت: «إنها موجودة في كل مكان تقريبا، من فنلندا وألاسكا في الشمال، إلى أستراليا وجنوب أفريقيا في الجنوب. ولقد كان نبأ عودتها إلى الصين - بعد غيبة استمرت ثلاثين عاما - من الأنباء المدوية التي سيصاغ منها تاريخ هذا القرن. وفي الوقت الذي تختلف فيه كلمات الله والحب والسعادة من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى غيرها، تعني الكوكا-كولا نفس الشيء في كل مكان، وبكافة اللغات. وإلى جانب هذا فإن المادة التي تصنع منها لا يهددها شيء بالنضوب؛ لأنها نبات يمكن زراعته بسهولة، والذوق الذي يستسيغها لن يتحول عنها بفضل ما تتميز به من قدرة على تكوين عادة تقرب من الإدمان.
ومنذ ظهورها، ارتبطت الكوكا-كولا بالمعالم الرئيسية للعصر، بل وساهمت أحيانا كثيرة في صياغتها؛ فقد توصل الصيدلي الأمريكي «بمبرتون» إلى تحضيرها بمدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، مسقط رأس الرئيس الأمريكي كارتر، وعصابات كلو-كلوس كلان الشهيرة في سنة 1886م، وهي نفس السنة التي تم فيها نحت تمثال الحرية الشهير، الذي أصبح رمزا للعالم الجديد.
أما الزجاجة نفسها فهي إحدى ثمار أول حرب تحريرية تخوضها الولايات المتحدة خارج حدودها، بعد انتصارها في الداخل على الهنود الحمر، وهي الحرب ضد إسبانيا في كوبا، والتي انتهت عام 1899م بإعلان «استقلال» كل من كوبا وبورتوريكو والفيليبين؛ ففي كوبا شهد جندي أمريكي - يحمل بالصدفة اسم المفكر الأمريكي العظيم للقرن السابق بنيامين فرانكلين - زجاجة مياه غازية من شراب الموز. وتمكن فور عودته إلى بلاده من الحصول على امتياز تعبئة الاختراع الجديد في زجاجات تعددت أشكالها حتى استقرت أخيرا على الشكل الشهير المعروف «بالمرأة ذات الثوب الضيق».
ربما كانت الكوكا-كولا هي أول من حطم المفهوم القديم للإعلان، الذي كان قاصرا على مجرد بيان بمواصفات السلعة، واضعة بذلك حجر الأساس في البناء الشامخ لأحد فنون العصر القائدة، وأعني بذلك فن الدعاية. لكن المؤكد أنها هي التي قضت على الوهم الذي ساد طويلا بشأن العلاقة بين العطش ودرجة الحرارة، عندما ابتدعت وروجت شعار «العطش لا يعرف فصلا». وكانت سباقة إلى استغلال الراديو، وإلى إضاءة المدن بالإعلانات الضوئية، وتبني البرامج التليفزيونية والأفلام السينمائية، واحتضان نجوم الدنيا الجديدة ومعبوديها الجدد من ممثلين وخنافس ورواد للروك والتويست والبوب.
وخاضت الكوكا-كولا غمار حربين عالميتين، خرجت منهما منتصرة؛ فقد باعت خمسة مليارات من الزجاجات خلال السنوات السبع للحرب الثانية. ثم إنها دخلت أوروبا على جناح مشروع مارشال الذي ساعد الأوروبيين بالمنتجات والقروض الأمريكية على تغطية ما سببته الحرب من عجز في الدولارات.
وإذ استقرت فوق قمة المجتمع الاستهلاكي إلى جوار سيارة فورد وقلم باركر وولاعة رونسون، لم تفتها التغيرات المتلاحقة في عالم اليوم؛ فعندما بدأ عصر الشراء العظيم والبيع بالتقسيط والتنافس على أكبر سيارة وأحدث طراز منها بأكبر مساحة في الخلف، تستوعب أكبر كمية من السلع لتملأ أكبر ثلاجة؛ تقدمت الكوكا-كولا بالزجاجة العائلية «الماكسي».
وعندما اشتركت الولايات المتحدة في حرب تحريرية جديدة في كوريا، ابتكرت الكوكا-كولا علبتها الصفيح؛ حتى يمكن إلقاؤها بالمظلات إلى الجنود. ولم تقتصر أهمية هذه العلبة على أن صورة الأمريكي الذي يفتحها بأسنانه أصبحت رمزا للبطولة والرجولة، أو على أنها أثبتت فاعليتها في الحرب التالية بفيتنام، وإنما تعدت كل ذلك إلى ما هو أخطر، فدشنت عصر الفوارغ، الذي يرمي فيه المستهلك بعبوة السلعة بعد أن ينتهي من استخدامها.
Bog aan la aqoon
ولا شك أن نجاح الكوكا-كولا يرجع أساسا إلى حسن التنظيم، الذي ابتكرت له منذ البداية الشكل الهرمي، حيث توجد الشركة الأصلية في القمة، وتتتابع تحتها، حتى القاعدة، شركات مستقلة تتولى التعبئة والتوزيع. وقد مكنها هذا الشكل الفريد من الحصول على التمويل اللازم لتغطية السوق الأمريكية في أول عهدها، ثم ساعدها فيما بعد على الإفلات من حملة روزفلت ضد الاحتكارات، وأتاح لها أخيرا أن تغزو العالم.
فهي تعتمد في فتح الأسواق العالمية على إقامة مؤسسات محلية مستقلة في كل بلد، يؤلفها أشهر الرأسماليين به. وقد حققت هذه الخطة نتائج هائلة، ليس أقلها إضفاء الصبغة الوطنية على الزجاجة الأمريكية.
ولعلكم سمعتم بقصة الياباني الذي تمايل طربا عندما قدموا إليه زجاجة كوكا-كولا في أحد مطاعم باريس؛ إذ ظن أن إدارة المطعم كرمته بصفة خاصة فأحضرت له مشروبه القومي بالطائرة من طوكيو.
ولمزيد من الدلالة على ما لهذه الزجاجة من خطر، فإني أحيلكم أيها السادة إلى المقال الذي نشرته جريدة «الموند ديبلوماتيك» الفرنسية المعروفة في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 1976م، وذكرت فيه أن رئيس شركة الكوكا-كولا هو الذي أعد - منذ زمن بعيد - وبالاشتراك مع عدد آخر من رؤساء الشركات الأمريكية الضخمة، جيمي كارتر، ليكون مرشحا لرئاسة الولايات المتحدة.
ويقول المقال - الذي قرأتموه ولا شك - إن رؤساء الشركات المذكورة كونوا لجنة من عشرة سياسيين - بينهم الرئيس الأمريكي نفسه ونائبه والتر مونديل - لتمثيل الفرع الأمريكي لما يسمى ب «اللجنة الثلاثية» التي أسسها عام 1973م دافيد روكفلر، وتولى إدارتها حتى فترة قريبة جدا البروفسور زيجنيو برجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي. أما لماذا سميت اللجنة بالثلاثية؛ فلأنها تجمع أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان في هدف محدد هو مواجهة العالم الثالث وقوى اليسار في أوروبا الغربية.
وإذا كان هذا هو نفوذها على أكبر وأغنى دولة في العالم، فلكم أن تتصوروا وضعها في بلدان العالم الثالث، وخاصة بلادنا نحن الصغيرة الفقيرة.
والواقع أن من حقنا أن نصدق ما يقال عن هذه الزجاجة البريئة المظهر، وكيف أنها تلعب دورا حاسما في اختيار طريقة حياتنا، وميول أذواقنا، ورؤساء بلادنا وملوكها، بل والحروب التي نشترك فيها، والمعاهدات التي نوقعها.»
خيل إلي أن الوجوم سيطر على اللجنة، وقدرت أن السبب ربما يعود إلى أني - وقد خلب الموضوع لبي - أطلت الحديث أكثر مما يجب، لكني لم ألبث أن أحسست إحساسا مبهما بأني «قد وطأت قدم أحدهم»، وهو تعبير دارج في لغة اللجنة، يستعمل للدلالة على الشخص الذي يرتكب إساءة أو خطأ عن غير قصد.
كنت ما أزال مجردا من بنطلوني وسروالي الداخلي، وجعلني هذا أشعر أني عار تماما أمام اللجنة، ليس فقط بالمعنى المادي للكلمة، وإنما بمعناها المجازي أيضا، وأنني تحت رحمتهم تماما.
لكن أغرب ما في الأمر أن الدقائق الأخيرة أمدتني بإحساس مبهم بأني أستطيع أن أوجه إليهم ضربة ما، أو أرد لهم ضربتهم بصورة ما.
Bog aan la aqoon
تنحنح القصير الذي صرت أبادله الكراهية، وبعد أن التفت للعجوز مستأذنا، وجه إلي الحديث بلهجة متكلفة: «إن إجابتك المستفيضة تكشف عن سعة اطلاعك في الشئون المعاصرة، ونحن نتمنى أن تكون على نفس القدر من السعة (وهنا لم أملك نفسي من الابتسام) بالنسبة للقضايا التاريخية.»
التمعت العينان الملونتان لذي الشعر الأشقر وقال لزميله القصير: «إذا سمحت لي.»
ثم اتجه إلي قائلا: «سنختبر هذه النقطة حالا. وبالنظر للأهمية التي أعطيتها في حديثك للشكل الهرمي، فليكن الهرم الأكبر موضوعنا. فلا يساورني الشك في أنك تتمنى الجلوس فوق قمته. على أن لك مطلق الحرية في اختيار الزاوية التي تريد الحديث عنها.»
للوهلة الأولى فرحت؛ فها هو موضوع أعرفه جيدا بحكم مصريتي، وأستطيع أن أصول وأجول فيه كما أشاء، لكن قلبي سرعان ما حدثني بأن هناك شركا كبيرا في انتظاري، وتضرعت إلى الله أن يلهمني كي أتجنبه، وأزيل أيضا الأثر السيئ الذي أحدثته كلمتي السابقة. ولم يلبث الله أن استجاب لدعائي؛ فأنار بصيرتي، وانطلقت أتكلم بثقة وطمأنينة: «إن المجموعة المعمارية المؤلفة من الأهرامات الثلاثة وأبي الهول، والتي شيدت قبل خمسة آلاف سنة، ما زالت تمثل لغزا من الألغاز التي تتحدى العقل الإنساني، وتشهد بعبقرية من شيدوها.
وكلنا - ولا شك - تابعنا المحاولة الأخيرة التي قام بها العلماء الأمريكان لكشف هذا اللغز بالأجهزة الإلكترونية المتقدمة، ولم تسفر عن شيء.
فما زال العلماء مختلفين في الغرض من إقامة الأهرامات وكيفية بنائها؛ فمنهم من يرى أنها شيدت لتكون مراصد لتسجيل ما حدث، والتنبؤ بما سيحدث. ويقول دافيدسون: إن السطوح الخارجية للهرم الأكبر صممت بحيث تعكس الضوء. وبذلك يكون الهرم بمثابة مزولة شمسية تعين مواعيد البذار والحصاد.
وهناك بالطبع الاحتمال الأغلب، وهو تخليد أسماء الملوك والمحافظة على جثثهم؛ فلا شك أن الغرض الواضح من بناء الأهرامات هو أن تكون بمثابة مقابر خالدة. وإن كان خوفو قد نجح في تخليد اسمه أكثر من أي ملك آخر في التاريخ، فإن الغرض الأساسي من بناء الهرم، وهو المحافظة على جثته لم يتحقق؛ لأنها اختفت رغم الشبكة الداخلية المتقنة من الممرات والغرف التي أخفيت عمدا أثناء البناء.
ونحن نعرف من هيرودوت أن الأحجار المستخدمة في بناء الهرم الأكبر كانت تنقل بواسطة نهر النيل، عبر طريق بناه مائة ألف عامل في عشر سنوات، وبعد ذلك ترفع من درجة إلى أخرى في البناء بواسطة روافع مصنوعة من قضبان قصيرة.
وليس هناك من دليل على أن المصريين استخدموا - في أي عصر من عصور تاريخهم - أجهزة ميكانيكية عدا الرافعة والبكرة والمنحدر المائل؛ ولهذا يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن ضخامة البناء ودقته تقطعان بأن وسائل ميكانيكية سرية - ضاع سرها - قد استخدمت في إتمامه. وربما كان هذا مبعث الخلاف الناجم بشأن دور الإسرائيليين في بنائه؛ فالبعض يقول إن خوفو نفسه كان من ملوك بني إسرائيل في حقيقة الأمر، وقد أخفى ذلك طبقا لتقاليد هذا الشعب، الذي أجبره الاضطهاد المتواصل منذ فجر التاريخ على أن يتسلح بالسرية التامة في كل أموره. والبعض الآخر يقول إن خوفو لم يكن سوى فرعون مصري، لكنه استعان بالعبقرية اليهودية لحل المشاكل المعقدة التي طرحها بناء هذه الأعجوبة المعمارية.
والواقع أن الخواص الهندسية للهرم الأكبر تدل على دراية وافرة بعلم الهندسة، وقدرة فائقة على الابتكار والإبداع. وهما أمران لم يتوفرا بالطبع لدى المصريين؛ ولهذا فمن الأرجح أن يكونوا قد استعانوا بالخبرة الأجنبية الإسرائيلية. وإن كان هناك من يؤكد أن الإسرائيليين كانوا عبيدا لخوفو، وأن هذا الملك المستبد أرغمهم على العمل في بناء الأهرام. وهذه النقطة بالذات محل مناقشة، فإذا كان من الصعب إنكار الطابع الاستبدادي لفراعنة مصر على مر الزمن، فمن العسير أن نتصور أن بناء بهذه العظمة والدقة يمكن أن يكون وليد السخرة وحدها، والأقرب إلى التصديق أن يكون وليد إيمان عميق بديانة تضع الفرعون على قمة الوجود.
Bog aan la aqoon
وهذا ما يؤدي بنا إلى تفضيل النظرية القائلة بأن خوفو نفسه كان من الملوك السريين لبني إسرائيل، خاصة وأننا نعرف المهندس الذي أشرف على بناء الهرم ويدعى حم-إيونو، وهو ابن عم خوفو نفسه.
وفي كافة الحالات فإن هذا البناء الهائل الذي تكون من مليونين وثلاثمائة ألف قطعة من الحجر، شاهد على عبقرية من بنوه؛ فهناك ما يدل على أن مناشير نحاسية يبلغ طول الواحد منها تسعة أقدام، قد استخدمت في قطع الكتل الحجرية الكبيرة، التي إذا قطعت اليوم إلى أجزاء صغيرة بطول قدم لكل منها، ووضعت بجانب بعضها؛ لأمكنها أن تغطي ثلثي المسافة حول الأرض عند خط الاستواء.
والمؤكد أيضا أن المثاقب الأنبوبية الشكل قد استخدمت في تفريغ الكتل الحجرية. والحق أن الثقوب الحديثة لا تداني في الدقة والكمال تلك التي صنعها أولئك البناة العظام منذ خمسة آلاف عام، وهي وحدها معجزة حقيقية.»
شعرت أن التوتر الذي كان يسود الحجرة قد تلاشى، وأن الجو المعادي لي قد خف كثيرا. وكان أعضاء اللجنة قد استمعوا لي في اهتمام شديد، حتى إن الرجل البدين الذي يجلس في الطرف أنزل عينيه لأول مرة من السقف وصوبهما إلي. وعندما انتهيت رمقني أحد العسكريين بنظرة رضاء أسعدتني. ودبت الحركة في الأعضاء فانهمكوا في أحاديث هامسة. وعندئذ لحظت أن الجزء الأسفل من جسدي ما زال عاريا، فتناولت سروالي الداخلي في تردد. وعندما لم يستوقفني أحد ارتديته على عجل، ثم أشفعته ببنطلوني.
وبدا أنهم استقروا أخيرا على رأي تولي الرجل ذي الشعر الأشقر إبلاغه للرئيس عبر أذنه السليمة، فقال لي هذا وهو يشير إلى الأوراق التي وضعتها أمامهم فوق المائدة: «يمكنك أن تأخذ هذه الأشياء الآن. لم تعد لدينا أسئلة، وعندما نتوصل إلى قرار بشأنك سنحيطك به علما.»
جمعت أوراقي وأنا أحاول أن أبدو واثقا من الحكم الذي سيصدرونه، لكني كنت أحس باضطراب شديد في أمعائي، وكنت أقوم بحركاتي دون وعي ، فوضعت الأوراق في الحقيبة بغير انتظام، ثم أغلقتها وتناولتها في يدي اليسرى (إذ تذكرت ما وقع لي في بداية المقابلة). وانحنيت أمام أعضاء اللجنة دون أن أنبس بكلمة، ثم اتجهت إلى الباب فأدرت مقبضه بيدي اليمنى، وسررت لأنه استجاب ليدي في يسر وانفتح، فغادرت القاعة ولم أنس أن أغلق الباب من خلفي. ووضعت الحقيبة على الأرض، ثم أشعلت سيجارة في لهفة.
وكنت أعرف أني لن أذوق طعم النوم، أو راحة البال، حتى تصدر اللجنة قرارها النهائي بشأني.
الفصل الثاني
انقضت عدة شهور على المقابلة التي جرت لي مع اللجنة، تناوبتني خلالها مشاعر اليأس والرجاء؛ فكنت أستيقظ في الصباح بثقة مطلقة في أن قرارها سيكون لصالحي، ولا تمضي ساعات إلا ويكون الشك قد راودني، فأسترجع وقائع المقابلة لحظة بلحظة، وعندئذ يستولي علي هبوط بالغ، أو أقع فريسة ليأس مطبق.
لم تكن هناك وسيلة لتلمس موقف اللجنة مني، أو الاتجاه الذي تمضي فيه مداولاتها بشأني. حقا إنه قد خطر لي أن أسعى للقاء العانس، عضو اللجنة، لكني تصورت أنها ليست من البله بحيث تفضي إلي على الفور بما أريد، ولا بد أن أبذل جهدا خاصا لأبلغ هذه الغاية. على أني كلما تذكرت وجهها الشاحب، تلاشت رغبتي في لقائها. فرغم أني تورطت في بضعة أشياء تتناقض بدرجة أو أخرى مع مبادئي، منها على الأقل قبولي للمهانة التي تعرضت لها على «يد» اللجنة، إلا أني لم أهبط بعد إلى الدرك الذي أتودد فيه إلى امرأة توددا مصطنعا. وليس الأمر قرارا عقليا بقدر ما هو استعداد نفسي في الأساس. وحتى لو استطعت، فماذا يضمن لي ألا أضطر للمضي حتى النهاية. ومعنى هذا أن يتطور الموقف إلى كارثة، بالنظر إلى سوابقي في هذا الشأن، والتي كانت موضوعا للعبث بي أمام اللجنة.
Bog aan la aqoon
لم يبق أمامي غير الانتظار، فلزمت البيت لا أغادره إلا لماما كي لا تفوتني إشارة من اللجنة تبلغني فيه بقرارها، إن سلبا أو إيجابا، أو تستدعيني أمامها لهذا الغرض.
وكنت أهم بتناول عشائي ذات مساء ، عندما وصلتني منها برقية أثارت حيرتي؛ فبدلا من دعوة للحضور، أو بلاغ وجيز بالقرار النهائي، طالعتني هذه الكلمات: «ننتظر دراسة عن ألمع شخصية عربية معاصرة».
كانت المعلومات القليلة التي تجمعت لدي عن إجراءات اللجنة تؤكد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة؛ فقد جرت اللجنة على أن تبت في أمر من يسوقه حظه للمثول أمامها، من خلال لقاء وحيد لا يتكرر.
ولم يكن من سبيل لتعليل هذا التحول الغريب في تقاليدها إلا بافتراض حدوث انقسام في الرأي بشأني بين أعضائها؛ ومعنى هذا أن قوة مركزي هي الدافع لهذا القرار، الذي أرادت به اللجنة - ولا شك - إرضاء المعترضين علي (وبينهم بالتأكيد ذلك القصير قبيح الوجه)، وإعطائي فرصة جديدة لتبيان مواهبي.
رفع هذا التأويل من معنوياتي إلى أن تبينت الوجه الآخر من الأمر؛ فماذا يمنع أن يكون ضعف مركزي، على العكس، هو الذي جعل اللجنة تحاول إرضاء من تصدى للوقوف بجانبي، بمنحي فرصة ثانية؟ ومعنى هذا - في الغالب - أن المهمة المطروحة ليست لها قيمة كبيرة، وإنما هي ذريعة لتأجيل القرار الذي تحدد جوهره بالفعل.
وقبل أن أهوي إلى قرار اليأس، تراءى لي احتمال ثالث، هو أن تكون اللجنة قد أدخلت بعض التطوير على إجراءاتها. ومن الطبيعي أني لم أسمع بالنبأ منذ كانت الصحف لا تخوض في شئونها من قريب أو بعيد.
ساعد على ميلي للأخذ بهذا التفسير أن الدراسة المطلوبة ستكشف عن مدى تمكني من لغة اللجنة، حيث إنها ستقدم إليها مكتوبة كما يفهم من ثنايا البرقية. ولم تكن تهتم في السابق بهذا الجانب من قدرات الماثلين أمامها.
اتجه اهتمامي بعد ذلك إلى دراسة البرقية بحثا عن الفخاخ التي اشتهرت اللجنة بها، فوجدتها حافلة بالعديد منها؛ فهي أولا لم تحدد زمنا لهذه الدراسة ولا حجما لها، فلا أعرف إذا كان المطلوب هو عجالة سريعة مثل ما ينشر بالصحف، أو بحثا أكاديميا في مئات الصفحات. كما أنها لم تحدد المقصود باللمعان، أهو الشهرة؟ أم تحقيق إنجازات معينة؟ وأي نوع من الإنجازات؟ وعلى أي مستوى؛ فردي أم عام؟ وفي أي مجال؟
لم يكن من الممكن الاستفسار من اللجنة عن هذه الأمور؛ لأن هذا من شأنه - إذا فرضنا أنه تيسر - أن يظهرني بمظهر العاجز، ويقضي على كل فرصي منذ كانت اللجنة تعول كثيرا على طريقة تفسير أسئلتها؛ لهذا لم يكن أمامي سوى الاعتماد على نفسي.
لجأت إلى معاجم اللغة فوجدت أن للمعان في لغة اللجنة معنى واحدا يقتصر على خاصية عكس الضوء. أما العرب فقد أضفوا على الكلمة معاني متعددة فاستخدموها بمعنى البرق والإضاءة، وبمعنى السرقة عندما قالوا: لمع بالشيء؛ أي ذهب به واختلسه. كما قالوا إن الأنثى ألمعت؛ أي ظهر حملها وتحرك الجنين في بطنها. وقالوا أيضا إن الألمع هو الذكي المتوقد. أما ألمع الناس فهو أكثرهم كذبا. ويبدو أن المعنى الأخير هو الذي اشتق منه التعبير الشعبي المعاصر «أبو لمعة الأصلي»، الذي عرف في البداية كاسم تجاري لأجود أنواع الطلاءات المستخدمة في تلميع الأحذية، ثم أصبح مع الوقت علما على كل من أدمن الكذب والمبالغة والادعاء.
Bog aan la aqoon
ولكم أن تتخيلوا حيرتي؛ فأي هذه المعاني التي تعرفها اللجنة هو المقصود؟ وعم أبحث بين مئات الشخصيات التي تحدث ضجيجا لا ينتهي في كل بلد عربي على حدة، وعلى نطاق العالم العربي ككل؟!
قلبت الأمر في رأسي مدة دون أن أصل إلى رأي، وأخيرا قررت أن أستعرض الأسماء المعروفة في المنطقة من مختلف المجالات، دون أن أتقيد بمقياس معين لهذه المعرفة. ومن خلال استبعاد الواحد منها بعد الآخر، أحصر البحث في عدد محدود من الأسماء والمعايير، ثم أتخذ قرارا بشأن المعيار النهائي في اختيار أحدها.
بدأت بالزعماء السياسيين والحكام؛ فليس هناك من هم أكثر إحداثا للضجيج منهم، ولا أقوى، لكني لم ألبث أن تبينت المشاكل التي ستترتب على اختيار أحدهم؛ فالمعروف أن الجدل يثور كثيرا حولهم، ومن شأن دراسة كالتي أنا مقدم عليها أن تتعرض لتقويم الشخصية المختارة. وفي هذه الحالة تكون ثمة فرصة - قد لا تتوفر في حالات أخرى - لأن أتخذ وجهة نظر تتعارض مع تلك التي تتبناها اللجنة.
استقر رأيي على استبعاد الساسة والحكام ، وأتبعتهم بالقادة العسكريين عندما لم تسعفني ذاكرتي باسم واحد منهم. ثم أسقطت الشعراء من حسابي لأني لا أستسيغ - ربما عن خطأ - كلماتهم الفضفاضة ومعانيهم المبهمة؛ وبذلك فأنا من البداية متحيز ضدهم، وهو أمر يخل بالموضوعية الكاملة التي لا بد أن تتوفر في دراسة كالتي أنا بصددها.
دونت أسماء عدد من الكتاب البارزين. وعندما أخذت في تحليل وضع كل منهم، وجدت أن ما نالوه من مكانة يعود إلى الأفكار والمبادئ التي دعوا إليها في وقت ما. وبمزيد من التحليل تبينت أنهم أصبحوا فريقين؛ الأول التزم الصمت، سواء عن رهبة أو قنوط، رغم أنه يعرف أكثر من غيره حقيقة ما يجري، والفريق الآخر تراجع بسهولة ويسر عن دعاويه السابقة، بل وتنكر لها.
وبحثت عبثا عن قاض واحد ارتبط اسمه بوقفة مجيدة إلى جانب الحق. ومن هذه الزاوية أيضا أمكنني أن أتخلص من الصحفيين وزعماء العمال، وسرعان ما ألحقت بهم من يدعون بنواب الشعب.
واكتشفت أن أغلب العلماء والأطباء والفنانين والمهندسين والمدرسين وأساتذة الجامعات كانوا مشغولين بجمع الثروات عن القيام بعمل واحد من شأنه أن يضعهم في دائرة الضوء، أو بالقرب منها. حقا إن صيت بعض من هاجر منهم طبق الآفاق بما حققه من كشف أو ابتكار في مجاله (رغم شكي أن الأمر في كثير من الحالات لا يتعدى الدعاية المفتعلة). لكنه فعل ذلك في الخارج، بعد أن نشأ وتعلم بين ظهرانينا، ووضعت ابتكاراته وكشوفه على الفور لخدمة البلاد الأجنبية وأهلها. فأي علاقة صارت تربطه بموطن نشأته؟!
توقفت طويلا عند عدد من المغنين والمغنيات الذين يتمتعون بشعبية واسعة بين جميع العرب، وتتابعهم الآذان بشغف من فوق قمم الجبال، وفي متاهات الصحراء، ومراكز المدن، لكن الكلمات المبتذلة والألحان الرخيصة التي يرددونها نفرتني منهم. وكنت أميل إلى صوت أحد كبارهم، الذي استطاع بعبقرية من نوع خاص أن يبقى فوق القمة أكثر من نصف قرن، طافيا فوق سطح الأحداث التي عصفت بهذه الأمة. لكني كنت أعرف، بحكم ظروف عرضت لي، المصدر الأصلي لأغلب الألحان التي نسبها لنفسه، كما كنت أعرف أيضا أنه يقدم ما يشبه الرواتب الشهرية لعديد من الشخصيات الإعلامية التي تعمل على حراسة مجده، وأنه يحارب بلا هوادة أية أصوات جديدة منافسة.
وقضيت وقتا مماثلا أدرس موقف تلك الدمى التي تملأ فراغ الشاشتين الكبيرة والصغيرة على السواء، فلم أجد لدي حماسا لتقصي أمر أحدها. فبالرغم من دقة وضعي، وحاجتي الشديدة لرضاء اللجنة، فاني آليت على نفسي في كل أموري ألا أقوم بعمل من الأعمال إلا ويكون له صدى في نفسي، ويستجيب لشيء عميق أو أصيل في داخلي.
لم يتبق غير الراقصات اللاتي تظهر صورهن في الصحف كل يوم، ويأتي للاستمتاع بمشاهدتهن في الملاهي المتناثرة تحت سفح الأهرامات العتيدة، آلاف المبعوثين المتعطشين إلى المعرفة من مختلف أركان الوطن العربي.
Bog aan la aqoon
وكان ثمة ما يغري بالبحث والتقصي بشأنهن، وأقصد بذلك بعدهن عن الأمور الأيديولوجية والسياسية؛ مما يضمن منذ البداية عدم الاصطدام باللجنة.
اتجه ذهني على الفور إلى واحدة منهن، دأبت الصحف على نشر أخبارها. وكنت قد شاهدتها بعيني في مرة وحيدة قادتني فيها الصدف إلى الملهى الذي ترقص به، وأعجبني يومها جسدها الفارع الطويل الذي تلاعبت بدلة الرقصة اللامعة بتفاصيله الرائعة بين الكشف والإخفاء، رغم ما اتسمت به حركاتها من مبالغة. ولاحظت أنها تجد صعوبة في إيداع الهبات التي انهالت عليها، بين نهديها المكتنزين. وكان من الواضح أن بدلة الرقص لا تترك في هذا الموضع مكانا كافيا للأوراق العريضة من الجنيهات العشر التي كانت الهبات تتألف منها، وهو أمر تنبهت إليه الدولة أخيرا عندما أصدرت أوراقا من فئة المائة جنيه في أحجام صغيرة ملائمة، مما يقطع بمدى ما لصاحبتنا من ثقل.
فكرت طويلا في الأمر، وقد استمالني أني سأقضي - بحكم الدراسة المقترحة - بعض الوقت بالقرب منها، قد تسمح لي خلاله بارتياد الأماكن المطروقة جيدا من فنها العظيم.
إلا أني لم ألبث أن تخليت عن هذه الفكرة آسفا، عندما تصورت المقاومة العنيفة التي ستواجهني من عضوات اللجنة، والتي ستحظى - دون شك - ببعض المساندة، ولو ظاهريا، من بقية الأعضاء .
عندئذ انتابني شعور بالغ بالإحباط والعجز، ورأيت أني مشرف على الإفلاس والفشل، ولمت نفسي على أني انسقت منذ البداية وراء سراب من الطموح، قادتني إليه ثقة مبالغة بمواهبي، فوضعت نفسي في طريق اللجنة، متعرضا بذلك لمحن متتابعة.
كان هذا منحى تفكيري ذات صباح، وأنا أمر ببصري في غير مبالاة على عناوين الصحف، متوقفا عند بعضها لأقرأ التفاصيل بشعور المرارة الذي يفيض بي عادة عندما أفعل.
لفتت نظري صورة كبيرة بعرض الصفحة الأخيرة، تمثل إعلانا عن بنك أمريكي-عربي جديد، ظهر بها جانب من حفل افتتاحه، وعدد من كبار المؤسسين وجلهم من الشخصيات البارزة.
والذي اجتذب انتباهي على وجه التحديد هو البدلة اللامعة لأحد الذين ظهروا في الصورة. ولم أتعرف عليه في البداية بسبب التمويه الذي تتميز به هذه الصور عادة، إلا أني تمكنت من ذلك بعد أن قرأت أسماء الواقفين بالترتيب.
كان لاسمه الكامل وقع غريب في أذني؛ لأنه كان معروفا لي وللكثيرين بلقب «الدكتور» وحسب. ومع أن بلادنا تعج بالآلاف الذين يحملون هذا اللقب العلمي الرفيع، فإن مجرد ذكر اللقب وحده كان كافيا للدلالة عليه دون سواه.
ظل كل من اسمه ولقبه يتردد في ذهني طول اليوم، ومعهما صورته بالبدلة اللامعة، وبعض الذكريات القديمة، ومنها المرة الوحيدة التي رأيته فيها رأي العين. وكان ذلك منذ خمس سنوات تقريبا عندما توقفت بي سيارة أجرة أمام إشارة المرور في ميدان رمسيس، ورأيت الأنظار كلها تتجه إلى سيارة مرسيدس فخمة من أحدث طراز، استقر صاحبنا في مؤخرتها ممسكا بسماعة تليفون. وكان ذلك أمرا عجبا حينئذ؛ لأننا كنا ما نزال قريبي العهد بحرب أكتوبر، ولم نكن قد انفتحنا بعد، وبالإضافة إلى ذلك كانت أغلب التليفونات الثابتة في البلاد عاطلة عن العمل، فما بالكم بواحد متحرك يعمل؟!
Bog aan la aqoon
وبعد ذلك بعام أو نحوه حملتني الظروف إلى بغداد، وكنت أسير مع صديق عراقي في أحد الشوارع القريبة من وسط المدينة، عندما رأيت على الرصيف المقابل منزلا مكونا من طابقين، تحيط به حديقة صغيرة، ويحرسه عدد من الجنود بالملابس المموهة والمدافع الرشاشة. سألت صديقي عن صاحب المنزل فإذا به ينهرني بصوت خافت وقد أطرق برأسه إلى الأرض: «انظر أمامك ولا تتطلع إلى الناحية الأخرى.» فعلت كما أراد، وعندما ابتعدنا عن المنطقة قال لي: «أتريد أن تقضي علينا؟ هذا منزل «الدكتور»!» لم أجرؤ ساعتها على مزيد من الاستفسار؛ فلم أعرف حتى الآن ما إذا كان المقصود بذلك هو مواطني المعروف، أم شخص آخر، عراقي، ينازعه اللقب.
وإذ أعطيت الأمر الآن جانبا من تفكيري رأيت أنه يستوي في الحالتين؛ فلا يقلل من شأن مواطني أن يوجد منافس له في كل عاصمة عربية. وعلى العكس؛ فإن ذلك يعطي فكرة عن أوجه التشابه، إن لم يكن التطابق بين الاثنين، ويؤكد من جديد خطورة شأن صاحبي وأهميته.
ولعلكم لمستم اهتمامي بأمره؛ فمع تداعي الذكريات والانطباعات، ازددت اقتناعا بأني وجدت ضالتي أخيرا. قد لا يكون «الدكتور» معروفا بالقدر الذي يتمتع به المغنون والراقصات، إلا أنه بالتأكيد أكثر منهم فاعلية وتأثيرا، لا في حدود بلادي وحدها، وإنما على مستوى العالم العربي بأكمله. ولا شك في أنه يساهم بقدر كبير في صياغة الحاضر والمستقبل، فهل يكون ثمة من هو «ألمع» من ذلك؟
هكذا حزمت أمري على أن أجعله موضوعا للدراسة المطلوبة مني.
وضعت خطة بارعة تتلخص في قراءة كل ما كتب عنه من دراسات أو مقالات أو أنباء عابرة بالصحف، ثم مقابلته وتوجيه عدد من الأسئلة الذكية إليه أعدها بعناية، بحيث تسد الفجوات التي ستقابلني في قراءاتي، وأستكمل بها معالم شخصيته التي أنوي رسمها بدقة وإحكام.
على أني اضطررت إلى تعديل خطتي عندما لم أجد كتابا واحدا عنه. ويبدو أن أحدا غيري لم ينتبه إلى أهميته، ولم يجد فيه موضوعا جذابا، أو ربما كان الكتاب ينتظرون موته لتكتمل بذلك سيرته.
وبقدر ما سعدت لأني أطرق موضوعا بكرا لم يسبقني إليه أحد، شعرت بالصعوبات الناشئة عن ذلك؛ لهذا قررت أن أبدأ بمقابلته؛ فقد يدلني على شيء كتب عنه وفاتني العثور عليه، أو قد تكون لديه بعض المذكرات الشخصية التي لا يمانع في اطلاعي عليها.
ارتديت أفضل ملابسي، وحملت حقيبتي «السامسونايت» بعد أن أودعت بها مسجلة يابانية صغيرة الحجم، وكراسا جديدا، وعدة أقلام، وورقة صغيرة دونت بها رءوس الموضوعات التي أبغي طرقها معه.
انطلقت إلى مقر إحدى المؤسسات التي ارتبطت باسمه بعد أن حصلت على عنوانها من دفتر التليفون. وذكر لي موظف الاستعلامات أن «الدكتور» لا يتردد على مؤسسته في مواعيد محددة. وعندما أوضحت له حاجتي الشديدة للقائه - دون أن أذكر له بالطبع السبب الحقيقي - أحالني إلى إحدى السكرتيرات بعد أن فتش حقيبتي للاطمئنان على خلوها من الأسلحة والمتفجرات.
عاملتني السكرتيرة بجفاء، مؤكدة استحالة الفوز بمقابلة «الدكتور» في موعد قريب؛ فهو أولا لا يتواجد في مكتبه إلا نادرا لأنه دائم التنقل بين العواصم العربية بحكم أشغاله، وهناك ثانية قائمة طويلة من المنتظرين، ولا بد لي ثالثا من إيضاح مطلبي باستفاضة على ورقة مكتوبة بلغة سليمة تقدم إليها لتحيلها بعد ذلك إلى مدير مكتبه. وعرفت منها أن مدير المكتب هو نفسه أحد أساتذة الجامعات المعروفين الذين لمعوا في الستينيات، وارتبطت أسماؤهم بمشروعات طموحة للتصنيع الثقيل.
Bog aan la aqoon
وقعت في حيرة شديدة؛ فلم يكن في وسعي أن أذكر حقيقة علاقتي باللجنة. فبالرغم من خطورتها وسعة نفوذها، فإنها من الناحية الرسمية لا وجود لها، وأي محاولة للتمسح بها لن تقابل إلا بالاستغراب والسخرية. وإذا كان من الممكن أن يدور الحديث حول هذا الموضوع بيني وبين «الدكتور» نفسه، فمن المستحيل أن أشير إليه في ورقة تأخذها السكرتيرة لتضعها أمام مدير المكتب. أما إذا أغفلت دور اللجنة، فماذا يتبقى؟ أحد هواة الكتابة المجهولين يبغي وضع كتاب عن شخصكم الكريم. وما الذي يضمن له أني لست سوى محتال يسعى للقائه طلبا لوظيفة أو صدقة.
انصرفت مهموما لأدرس الأمر، ورأيت أن الوقت يمضي بسرعة دون أن أتوصل لشيء، وأن محاولة الالتقاء بالدكتور ستستغرق عدة أيام وربما أسابيع، وفي النهاية قد لا تسفر عن شيء؛ لذلك غيرت خطتي مرة ثانية، وعزمت على التفرغ فورا لجمع كل ما نشر عنه بالصحف.
مضيت إلى المبنى الضخم الذي يضم مكاتب أهم الصحف اليومية وأكثرها توزيعا، وطلبت الاطلاع على أعدادها الصادرة منذ ربع قرن؛ فهذا هو التاريخ الذي رأيت أنه يصلح نقطة بدء لتتبع مسيرة «الدكتور» الحافلة.
اتخذت مكاني إلى إحدى الموائد في قاعة المكتبة، وأخرجت من حقيبتي الكراس الفارغ والقلم، بينما أحضر لي الموظف عدة مجلدات من الصحيفة يكسوها الغبار، فتناولت المجلد الأول، وفتحت غلافه، ثم بدأت أقلب الصفحات.
غصت على الفور في عالم غريب من الأحداث المثيرة، والرجال والنساء الذين ملئوا الأسماع والأصداء. وانبسطت أمامي الطموحات التي تأججت يوما في الصدور. استغرقتني صور الماضي، حتى إني كنت أنتزع عيني بصعوبة من الصفحات المغبرة مذكرا نفسي بالهدف الذي أسعى وراءه، فانتقلت إلى الصفحات التالية في تثاقل وكآبة، وأصبحت كمن يستعيد طفولته وصدر شبابه، ويتأمل ما داعبه ذات يوم من أحلام وآمال، ولا يلبث أن يشعر بالأسى عندما يتبين ما صار إليه حاله.
اعتورني دوار من جراء تقليب الصفحات، ونقل البصر بين العناوين والصور، واستنشاق الغبار. وبدأت أشعر بهول المهمة التي وضعتها لنفسي عندما لم أتمكن بعد ثلاث ساعات من استعراض أكثر من عشرة أعداد؛ عندئذ أصابني هبوط مألوف، وشعرت بحاجة ماسة إلى فنجان من القهوة أو كوب من البيرة، لكني لم أجد الهمة الكافية لأن أطلب شيئا من صبي المقصف الذي كان يطل برأسه من مدخل القاعة كل حين.
وحسم موظف المكتبة الأمر عندما أبلغني بانتهاء موعد العمل فتنهدت في ارتياح، وأعدت أوراقي إلى الحقيبة، بيضاء من كل سوء، وحملت الحقيبة وغادرت القاعة.
قمت بعملية حسابية بسيطة فرأيت أن الأعداد التي أريد الاطلاع عليها من هذه الصحيفة بالذات هي 365 × 25 سنة = 9125 عددا. وطبقا لمعدل اليوم، وبفرض أني عملت كل يوم دون انقطاع ودون أن أمرض أو تؤخرني المواصلات أو يعوقني انقطاع الكهرباء أو المياه أو غير ذلك من الطوارئ المألوفة، أكون بحاجة إلى حوالي الألف يوم؛ أي ثلاث سنوات. هذا بالنسبة لصحيفة واحدة.
ولم يكن بوسعي أن أعتمد على صحيفة واحدة فحسب؛ فرغم أن صحفنا القومية تنشر دوما نفس الأخبار والتعليقات، بل ونفس الصور، إلا أن أركان الأخبار الخفيفة وأنباء النوادي والسهرات تتميز بشيء من التنوع. وهي التي عولت عليها؛ فليس ثمة مكان لأنباء «الدكتور» على الصفحات الأولى، طالما أنه ليس بالشخصية السياسية أو السينمائية.
يضاف إلى ذلك المجلات الأسبوعية والشهرية، والصحف والمجلات الصادرة في المشرق والمغرب. ومعنى هذا كله أني إذا أردت أن أكون أمينا مع نفسي، فلا بد لي من التفرغ، تفرغا كاملا، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو أربع، من أجل جمع مادة البحث فقط. وهناك بعد ذلك الوقت اللازم لدراستها وتحليلها، ثم صياغة النتائج التي سأتوصل إليها.
Bog aan la aqoon