وثمة مبحث خامس في علوم السياسة والإدارة حول فن صياغة وعي الجماهير، وتوحيد معتقداتها وأذواقها، ثم استبدال هذه المعتقدات والأذواق بغيرها، بين الحين والآخر، في سهولة ويسر.
وإنه ليسعدني أن أعلن بكل فخر أني قد عثرت على قصائد رقيقة مجهولة من نظمه، وإشارات متناثرة إلى آرائه في المسرح والسينما والغناء، تصلح أساسا لدراسة مبدعة في آداب العصر وفنونه.
ويتصل بذلك مبحث مستقل عن التطور الذي لحق باللغة العربية ويتمثل في اختفاء كلمات معينة، وظهور كلمات جديدة، بعضها منحوتات فذة ليست لها سابقة؛ مثل «التهليب» و«التطنيش»، والبعض الآخر اشتقاقات مبتكرة من كلمات مألوفة مثل «التنويع» و«التطبيع» و«التحريك».
وقد أوحى لي ما يتميز به «الدكتور» من مرونة في التفكير، وقدرة على تعديل المواقف والآراء التي يثبت خطؤها، أو يتعذر تحقيقها، ببحث فريد في علوم التربية وبناء الشخصية. وبسبب ما أعلقه من أهمية خاصة على هذا البحث أرجو أن تسمحوا لي بشيء من الاستطراد في هذه النقطة بالذات لأقدم إلى حضراتكم مثالا لما أعنيه، مستمدا من وقائع المقابلة الأولى التي تشرفت بها في مقركم، وأقصد بذلك حديثي المستفيض بشأن الكوكا-كولا.
فهذه الزجاجة، كما تعلمون حضراتكم، دخلت بلادنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، في ظل حملة إعلانية هائلة سهلت من انتشارها حتى بلغت أقاصي القرى والنجوع، وصار اسمها على كل لسان، لكنها لم تلبث أن بدأت في التراجع بعد الثورة. وقد تبينت أن «الدكتور» كان - مع عوامل أخرى - مسئولا عن هذا التراجع؛ ذلك أنه شارك في محاولة لمنافستها بشراب محلي كتب لها النجاح إلى حين.
أما الضربة القاصمة فجاءت في بداية الستينيات عندما اكتشفت أجهزة المقاطعة العربية أن الشركة الأمريكية أعطت حق التعبئة للإسرائيليين. وترتب على هذا أن وضعت الكوكا-كولا في القائمة السوداء ومنعت من دخول البلاد العربية، فأصبح السوق خاليا أمام «الدكتور».
إلا أن الأحوال لا تثبت على حال كما تعلمون؛ فمن ناحية فشل مشروع «الدكتور» لأسباب عديدة لا محل لسردها الآن، ومن ناحية أخرى لم تعد للمقاطعة المذكورة - بين ليلة وضحاها - من ضرورة. وكان «الدكتور» مبادرا، في الوقت المناسب، على الربط بين الأمرين. وسبق بجهوده من أجل إزالة العقبات والحواجز التي فصلت طويلا بين الشراب المنعش وعشاقه من المصريين. وكافأته الشركة على جهوده بأن منحته امتياز التعبئة في زجاجة وطنية.
ولعلكم توافقونني، أيها السادة والسيدات، على أن هذا الإجراء من جانب الكوكا-كولا هو - من أحد نواحيه - بمثابة شهادة بارزة في حق «الدكتور»، بالنظر إلى أن الشركة الأم لا تعطي هذا الامتياز إلا لألمع الناس في كل بلد.
وأرجو المعذرة إذا كانت هذه النقطة ذكرتني بمجال آخر واسع، تفتحه سيرة «الدكتور» أمام الباحث الطموح، وأقصد بذلك حياته الجنسية التي اتسمت بنشاط غير عادي؛ فمثل هذا النشاط قد تكون له أوجه متباينة للغاية. فمن خصوبة زائدة يمكن دراسة أسبابها للاستفادة منها وتعميمها، إلى محاولة دائمة لنفي ميول لوطية كامنة، أو بحث عن الأم تمخض عما يتجلى في سلوكه الاقتصادي بوضوح من قلق دائم، ورغبة جارفة في الانتماء.»
شعرت أن حلقي جف فتوقفت عن الكلام، وتأملت وجوههم لأتبين أثر حديثي، لكن ستارا كثيفا من الجمود كان يغطيها.
Bog aan la aqoon