لقد فهم المرأة وعرفها بعد أن قضى من عمره عشرين عاما يتدرب على تقبيل النساء وعناقهن؛ حتى أصبح أستاذا للحب والغرام، وبلغ من عمره الأربعين عاما ولم يفكر في الزواج، وهو قد تزوج مئات المرات وأنجب مئات الأطفال؛ بعضهم تمزق أشلاء بيد الطبيب الجريء، وبعضهم يعيشون في بيوت أزواج من الرجال ويحملون أسماءهم ولا أحد يعلم الحقيقة إلا الزوجة وهو. وكثيرا ما كان يزور أحد هؤلاء الأزواج - ومعظمهم معارفه وأصدقاؤه - وينظر إلى عيني الطفل البريء ويرى فيهما نفس لون عينيه ونفس ارتفاع أنفه، لكنه لم يشعر قط بذلك الشعور الذي اسمه الأبوة، بل كان ينظر إلى الزوج الغبي الجاهل في لذة تفوق لذة الشياطين، ويشعر بالزهو لانتصاره على الرجال والنساء معا. وكان كلما فكر في الزواج تراءت له زوجته في أحضان رجل آخر، وتراءى له أطفاله يجرون في بيته وينفقون من ماله ويحملون اسمه وهم أولاد رجال آخرين، فترتعد فرائصه من الهلع ويلعن الزواج ويمجد العزوبية.
وصب الماء الساخن على جسمه وقدميه، ونهض واقفا وأمسك المنشفة، وأخذ يجفف جسده بعناية، واعترف بينه وبين نفسه أنه كان يسعى طوال حياته إلى الانتصار، الانتصار بأي شكل وبأي ثمن؛ إذا خالفه رجل في رأيه وكان صائبا فإنه يعاند ويتحمس ويناقش ولا يهدأ حتى ينتصر، وإذا رغب في امرأة ولم ينلها ظل يطاردها بأساليب مختلفة بعضها اهتمام وبعضها إهمال حتى تقع الفريسة بين يديه.
وكان يعلم أن انتصاره على المرأة يبدأ حين تسلم له جسدها؛ حينئذ يعلم أنها سلمت كل أسلحتها، وأنها سوف تلاحقه وسوف تستعطفه وسوف تستجديه، وأنه سوف يشدها من رقبتها وراءه بذلك الخيط الحريري المتين، فما الذي يبقى للمرأة بعد أن تمنح جسدها للرجل سوى الالتصاق الأبدي أو الندم والحسرة والهوان؟!
ولم يكن يؤمن بذلك الالتصاق الأبدي بالمرأة، بل لم يكن يؤمن بأي التصاق بها على الإطلاق؛ فلم يكن يبقى للمرأة منه إلا الهزيمة والهوان، وهو لا يشعر بانتصاره إلا حينما تغسل المرأة بدموعها قدميه؛ حينئذ يعرف أنه حقق الغرض الأسمى لرجولته، فتنتهي مهمته معها ويبحث عن فريسة أخرى يسلك معها نفس الطريق.
ووقف أمام المرآة يمشط شعره الأكرت، وشعر ببعض الارتياح؛ لقد اهتدى أخيرا إلى مفتاح المرأة الجديدة وتعرف على طريقها الوعر الشاذ. كانت قد عذبته عامين كاملين وهي ترفض قبلاته، حتى لمسات يديه كانت لا تصيبها بتلك الرعشة التي تصيب النساء فترتخي جفونهن. لكنها لم تقتل الأمل في قلبه، كانت تجلسه معه وتتحدث إليه وتدقق النظر في ملامحه، وخاصة إلى أسنانه التي لم يعجب بها قط طوال حياته، رغم إعجابه الشديد بعينيه وأذنيه.
واستطاع في هاتين السنتين أن يحول نظرها من أسنانه إلى عينيه وأذنيه، واستطاع أيضا أن يجعلها تعجب بكلامه؛ فرأى نظراتها القوية الثابتة تلين، ولمح بريق أنوثتها العارمة يتقد في عينيها؛ فاقترب منها وحاول أن يقبلها، لكنها ابتعدت عنه وقالت في عناد وكبرياء: هل تحبني؟ فنظر إليها مستغربا؛ كيف تجرؤ امرأة على أن تسأله هذا السؤال؟ لم تشترط عليه امرأة من قبل أن يعترف بالحب قبل أن يقبلها، فسألها بدوره: هل تحبينني؟ ولم يكن يشعر بحاجة إلى هذا السؤال، فهو يعلم أنها تحبه، وإلا فما الذي يدفع امرأة مثلها إلى أن توافق على لقائه! لكنها أجابت في قوة وصدق: لا، ليس بعد.
وأحس بالدماء تغلي في رأسه، وود لو صفعها على وجهها، لكنها سألته بجرأة: هل تحبني؟ ولم يستطع أن يكون في مثل قوتها وصدقها، فأطبق شفتيه في صمت؛ لم يكن يريد أن يمتهن رجولته الغالية ويشعر أنه رجل رخيص ككل الرجال يتاجر باسم الحب، ويكذب على المرأة بكلمة أحبك حتى ينال منها ما يريد، لقد عودته انتصاراته المتكررة مع النساء على ألا يكذب؛ فهو في غير حاجة إلى الكذب؛ كانت النساء يعطينه قلوبهن وأجسادهن دون أن يكلف نفسه مشقة الكلام عن الحب، وأصبحت كلمة الحب التي تخرج من بين شفتيه أغلى عنده من قلب أي امرأة ومن جسد أي امرأة. كانت رءوس النساء تستقر بين قدميه بلا مقابل، بلا ثمن، بلا وعد، بلا شيء على الإطلاق؛ بل أحيانا ما كانت المرأة هي التي تدفع له حتى لا يقطع صلته بها إلى الأبد، وتظل تخدع نفسها بذلك الأمل الكاذب في أنه سيأتي إليها يوما.
وفتح صوان ملابسه وارتدى بدلة أنيقة، وأخذ زجاجة العطر الثمين ووضع نقطتين تحت كل إبط.
وركب عربته وتطلع إلى المرآة الصغيرة، وأعجب بشكله إعجابا كبيرا، وشعر كأنه عريس جديد ذاهب إلى عروسه ليلة الزفاف، وتخيلها وهي جالسة في حجرة الاستقبال تنتظر قدومه. لا بد أنها قضت في الحمام اليوم كله، تدلك ذراعيها وساقيها، ولا شك أنها ترتدي فستانا عاريا يظهر مفاتن جسدها، ولا شك أنها تعطرت؛ إنها أنثى رغم عنادها وقوتها. وتخيل نفسه وهو يقبلها ويعانقها وهي تسلم له جسدها ثم تبكي، كل النساء يبكين بعد أن يستسلمن، وشعر بالزهو والانتصار حين تخيل دموعها؛ كم تشوق كثيرا أن يرى دمعة واحدة تطفر من هاتين العينين القويتين الجريئتين، وتخيل رأسها الصغير بين قدميه وهي تستجديه وتستعطفه أن يبقى، ولكنه لا يبقى، ثم تطلبه في اليوم التالي فيرد عليها في جفاء، فتطلبه مرة أخرى وأخرى، تحاول أن تفهم لماذا نهب جسدها وهرب، وهو لا يستطيع أن يشرح لها نفسه، لا يستطيع أن يقول لها: إنه لم يكن يريد جسدها لذاته، فهو هارب من أجساد النساء، ولكنه كان يريد أن ينتصر عليها بعد عامين من اللهفة والعذاب والانتظار؛ أن يخضع أنوثتها العنيدة، أن يشعر بها وهي ذليلة جريحة تتعثر في استسلامها له وتبكي على ضعفها وهزيمتها، أن يلف حول عنقها خيطه الحريري القاتل ويشدها وراءه.
ووصل إلى شقتها، ولم يستطع أن يخفي دهشته حين رآها، كانت كعادتها ترتدي رداء قاتما لا يظهر شيئا من ملامح جسدها، وشعرها مرسل دون عناية، ولم يشم رائحة أي عطر نسائي. وجلس أمامها ببدلته الأنيقة وشعره اللامع المغسول، وفاحت رائحة عطره في الشقة الصغيرة؛ فشعر بالخجل من نفسه، ورأى نظراتها الثابتة تتأمله، ولمح ابتسامة ساخرة تحوم حول شفتيها، وانتهزت أول نكتة قالها فضحكت ضحكا متواصلا وألقت برأسها إلى الوراء، وخيل إليه أنها سيغمى عليها من الضحك؛ فشعر بالغيظ، لكنه تظاهر بعدم الفهم وشاركها الضحك بلا مبالاة.
Bog aan la aqoon