ثمن الكتابة
إهداء
حينما ينهزم الرجل
من أجل المعرفة
شرارة من الداخل
قلبي الذي عصيته
عم عثمان
ابتسامة
ثمن الدم
حبي الوحيد
Bog aan la aqoon
الجانب الآخر
لا شيء يفنى
لحظة صدق
نام الرجل بعد العشاء
ليلى تتزوج
نادية ... لم أستطع!
ثمن الكتابة
إهداء
حينما ينهزم الرجل
من أجل المعرفة
Bog aan la aqoon
شرارة من الداخل
قلبي الذي عصيته
عم عثمان
ابتسامة
ثمن الدم
حبي الوحيد
الجانب الآخر
لا شيء يفنى
لحظة صدق
نام الرجل بعد العشاء
Bog aan la aqoon
ليلى تتزوج
نادية ... لم أستطع!
لحظة صدق
لحظة صدق
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
Bog aan la aqoon
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوه يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
Bog aan la aqoon
الأضحى الكبير ، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
كثيرا ما تألمت، ولكني لم أعرف ألما أشد ضراوة من ذلك الألم الذي يصيبني حين أكذب على نفسي. وكثيرا ما سعدت، ولكني لم أعرف سعادة أعذب من تلك السعادة التي أشعر بها حين أعيش مع نفسي لحظة صدق.
لتكن الحقيقة ما تكون، ولكنها تنطوي في أعماقها على شيء لا يكتشف إلا في لحظة الصدق التي نواجهها بها.
Bog aan la aqoon
فإلى كل من ذاق حلاوة الصدق مع نفسه لحظة، وإلى كل من حرم حلاوة الصدق مع نفسه لحظة؛ أهدي هذه المجموعة من اللحظات.
نوال السعداوي
حينما ينهزم الرجل
جلس إلى مكتبه الذي تكدست عليه الأوراق الهامة وغير الهامة قلقا حائرا؛ شيء في أعماقه يدفعه إلى أن يترك مكتبه ويذهب إلى بيته ويأخذ حماما ساخنا ويبدل ملابسه، ويرتدي ملابس جديدة قبل أن يذهب إليها؛ فالليلة موعده معها، موعده الفاصل الذي جاء بعد مواعيد كثيرة، والذي سوف يحدث فيه شيء؛ شيء آخر غير ما كان يحدث كل مرة.
ونظر إلى ساعته، كانت السابعة، وموعده معها في التاسعة، أمامه ساعتان كاملتان، يمكن له أن يستعد لهذا اللقاء الحاسم.
وأغلق درج مكتبه بسرعة، وقال لمساعده الشاب إنه ذاهب لإنجاز بعض الأعمال الهامة، واستقل سيارته، وانطلق إلى بيته، ووضع المفتاح في شق الباب الصغير المظلم ولفه مرتين، ثم دفع الباب، فلفحت وجهه ريح باردة رطبة تسكن شقته دائما أبدا، صيفا وشتاء، لا تتغير كثافتها ولا رائحتها.
بالرغم من دورات الشمس والقمر والأرض، لكنها تظل دائما رطبة باردة قابعة في تلك الشقة الضيقة الواسعة، من دماء البشر أجيالا وقرونا، وواسعة بتلك الحجرات الخاوية العارية إلا من أثاث ضئيل صغير يستند متهالكا إلى زوايا الجدران، كأنه قطع أثرية تركت منسية في كهف من الكهوف.
ولم يكن يفكر من قبل في منظر شقته وأثاثها ورطوبتها، وكان يستضيف فيها فريساته من النساء، ويقضي معهن الليل على سريره المعدني البارد، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك معها، كان حريصا على ألا يدعوها إلى شقته، وقال لها إنه هو الذي يجب أن يذهب إليها لا أن تأتي هي إليه كباقي النساء.
وجرى إلى الحمام وأشعل السخان، وخلع ملابسه ولبس ملابس البيت، وأحضر أدوات الحلاقة ووقف أمام المرآة يتحسس ذقنه بأصابعه، لقد حلقها صباح اليوم، ولكن لا بد له أن يحلقها مرة أخرى حتى تكون ناعمة كالحرير؛ إن موعده معها الليلة ليس كأي موعد سابق، سوف يقبلها حتما، وسوف يلامس وجهه وجهها، ولا بد لبشرته أن تكون ملساء.
ونظر إلى وجهه في المرآة وتحسس شعرات رأسه البيض، وأخذ يعدها شعرة شعرة كعادته كل ليلة، ولما وجد أن عددها ست وعشرون شعرة كليلة الأمس، انبسطت أسارير وجهه، لكن قلبه لم يلبث أن انقبض حين لمح خطين رفيعين تحت عينيه؛ هذان الخطان لم يكونا بالأمس، وفتح درجا في أسفل المرآة وأخرج علبة الكريم الطبي الذي يغذي البشرة، ووضع بأصبعه قطعة صغيرة تحت عينيه، وأخذ يدلك بشرته بأطراف أصابعه تدليكا خفيفا، حتى خيل إليه أن الخطين الرفيعين قد ذابا تماما بفعل الكريم الساحر.
Bog aan la aqoon
نظر في عينيه يتأملهما فرأى سوادهما باهتا، تغشى بياضهما صفرة كئيبة جعلتها أشبه بعيون مرضى الكبد والصفراء، وأحس بالفزع فجرى إلى رف صغير في الحائط، وأخذ منه زجاجة دواء ، وابتلع منها قرصين ثم أعادها إلى مكانها، وسحب زجاجة أخرى وشرب منها معلقة كبيرة، ثم أخذ قطعة صغيرة من القطن وغسل جفنيه ورموشه.
وعاد ينظر إلى نفسه في المرآة، وأمسك بماكينة الحلاقة وراح يحلق ذقنه بعناية فائقة، وحلق نصف وجهه، وتحسس بأطراف أصابعه فإذا ما عثر على شعرة نافرة أو على بقعة خشنة عاد فأجرى عليها الماكينة، ولا يتركها إلا بعد أن يتحسسها ويجدها ناعمة نعومة الحرير.
وانتهى من حلاقة ذقنه، فأمسك المقص وشذب أظافر يديه وقدميه، ثم حمل ملابسه النظيفة على كتفه ودخل الحمام.
وأخذ ساعته معه وعلقها في مسمار في الحائط؛ كان خائفا من أن يسرقه الوقت الممتع الذي يقضيه غارقا لنصفه في الماء الساخن والصابون المعطر فيتأخر عن موعده معها، وهو حريص على أن يذهب إليها في الموعد تماما بالدقيقة؛ فقد حدث ذات ليلة أن ذهب إليها متأخرا خمس عشرة دقيقة، ولم يكن يبغي من هذا التأخير سوى أن يلهب شوقها إليها بشيء من الانتظار، لكنه حين وصل إلى شقتها وجدها مظلمة، وظل ضاغطا على الجرس زمنا طويلا حتى يئس ونزل، ولم يعرف ليلتها هل كانت بالبيت وتعمدت ألا تفتح أم أنها خرجت إلى موعد آخر، وحين سألها لم تعطه تفسيرا واضحا، وقالت في صراحة وصدق: لقد تأخرت، وأنا لا أطيق الانتظار. وأخذ يدلك جسمه بالماء وهو يسأل نفسه: أيمكن أن يصدر هذا العمل عن امرأة تحب؟! ولم يحاول أن يصدق أنها لا تحب، وكيف له أن يصدق أن هناك امرأة لا يمكن أن تحبه؟ لقد أحبته مئات النساء من قبل، ولا تزال تحبه العشرات والعشرات، وهو يبتكر في كل يوم أساليب جديدة للهروب من النساء. كيف لا تحبه هذه المرأة وتحترمه احتراما بالغا، ولسوف يخضع هذه الأنوثة الليلة إذن؟ هي تحبه بلا شك، ولكنها امرأة عنيدة تعتز بأنوثتها، ولسوف يحطم عندها وكبرياءها ...
وعادت إلى ذاكرته صورتها حين رآها لأول مرة؛ كان ذلك منذ عامين تقريبا، وكنت تجلس وسط عدد من الرجال والنساء، ووجد عينيه تمران بسرعة على كل الوجوه لتستقر على وجهها. كانت ملامحها غريبة بالنسبة لملامح النساء؛ ملامح متسقة متكاملة تنطق بأنوثة عارمة، ولكنها أنوثة غالية مثقفة، تثير في نفس الرجل المغرور برجولته بالذات رغبة عنيفة في تحديها وإخضاعها.
وكان تعود أن يخضع النساء، وأدمن لذة إذلالهن وإخضاعهن له حتى تضخمت رجولته وأصبحت القسوة على النساء صفته الأولى؛ فهو لا يشعر بلذة عناقه للمرأة إلا بعد أن يصفعها على وجهها بضع صفعات، ويجذبها من شعرها بقوة حتى تستلقي رأسها بين قدميه وتمرغ أنفها في ترابهما؛ بعد ذلك يقبلها.
علمته تجاربه مع النساء أن المرأة بغريزتها الأولى التي لا تستطيع منه خلاصا مهما تحررت وارتقت؛ فإنها تعشق موضعها عند قدمي سيدها الرجل، وتعبد قسوته وقوته وعناده وكبرياءه وجبروته، وتشمئز من رقته وحنانه وهيامه.
العذاب هو الخيط الحريري الرفيع الذي يربط المرأة به، المرأة تحب الرجل الذي يعذبها؛ فلماذا لا يعذبها ليلف حول رقبتها ذلك الخيط الحريري ويشدها وراءه؟
وأخذ يدلك أصابع قدميه بالصابون المعطر، ولاحظ كعادته أن أصبع قدمه الصغير أصغر من اللازم، لا يكاد يشبه أصبع الآدميين؛ فهو قصير سميك كروي، كأنه مخلب مكسور لحيوان أليف، أو برعم عقيم في شجرة عجوز. كثيرا ما كان يشعر بالاشمئزاز من جسده، وخاصة فتحتي أنفه حين يصيبه الزكام والرشح، فيشعر كأنهما فتحتا صنبور عتيق بليت جلدته وفي حاجة إلى قطعة غيار جديدة. وكثيرا ما ضاق من منظر أسنانه الصفراء، وتمنى لو خلعها جميعا وركب أسنانا جديدة.
ولكن هل يمكن لامرأة أن تكشف عيوبه التي يعرفها؟ إن المرأة كما فهمها ليست كالرجل؛ إنها تنظر إلى الرجال ككل وليس كأجزاء أو أعضاء، إن الرجل في نظرها سيد، إله؛ يمنحها الحياة واللذة والغذاء، فكيف لها أن تدقق النظر في جسد الإله؟ كيف تجرؤ على أن تنظر إلى أسنانه الصفراء المشرشرة وهو يقبلها، كيف تجرؤ على أن تتأمل أصابع قدميه حين يستلقي رأسها بينهما؟ يجب أن تغمض عينيها، كل النساء يغمضن عيونهن.
Bog aan la aqoon
لقد فهم المرأة وعرفها بعد أن قضى من عمره عشرين عاما يتدرب على تقبيل النساء وعناقهن؛ حتى أصبح أستاذا للحب والغرام، وبلغ من عمره الأربعين عاما ولم يفكر في الزواج، وهو قد تزوج مئات المرات وأنجب مئات الأطفال؛ بعضهم تمزق أشلاء بيد الطبيب الجريء، وبعضهم يعيشون في بيوت أزواج من الرجال ويحملون أسماءهم ولا أحد يعلم الحقيقة إلا الزوجة وهو. وكثيرا ما كان يزور أحد هؤلاء الأزواج - ومعظمهم معارفه وأصدقاؤه - وينظر إلى عيني الطفل البريء ويرى فيهما نفس لون عينيه ونفس ارتفاع أنفه، لكنه لم يشعر قط بذلك الشعور الذي اسمه الأبوة، بل كان ينظر إلى الزوج الغبي الجاهل في لذة تفوق لذة الشياطين، ويشعر بالزهو لانتصاره على الرجال والنساء معا. وكان كلما فكر في الزواج تراءت له زوجته في أحضان رجل آخر، وتراءى له أطفاله يجرون في بيته وينفقون من ماله ويحملون اسمه وهم أولاد رجال آخرين، فترتعد فرائصه من الهلع ويلعن الزواج ويمجد العزوبية.
وصب الماء الساخن على جسمه وقدميه، ونهض واقفا وأمسك المنشفة، وأخذ يجفف جسده بعناية، واعترف بينه وبين نفسه أنه كان يسعى طوال حياته إلى الانتصار، الانتصار بأي شكل وبأي ثمن؛ إذا خالفه رجل في رأيه وكان صائبا فإنه يعاند ويتحمس ويناقش ولا يهدأ حتى ينتصر، وإذا رغب في امرأة ولم ينلها ظل يطاردها بأساليب مختلفة بعضها اهتمام وبعضها إهمال حتى تقع الفريسة بين يديه.
وكان يعلم أن انتصاره على المرأة يبدأ حين تسلم له جسدها؛ حينئذ يعلم أنها سلمت كل أسلحتها، وأنها سوف تلاحقه وسوف تستعطفه وسوف تستجديه، وأنه سوف يشدها من رقبتها وراءه بذلك الخيط الحريري المتين، فما الذي يبقى للمرأة بعد أن تمنح جسدها للرجل سوى الالتصاق الأبدي أو الندم والحسرة والهوان؟!
ولم يكن يؤمن بذلك الالتصاق الأبدي بالمرأة، بل لم يكن يؤمن بأي التصاق بها على الإطلاق؛ فلم يكن يبقى للمرأة منه إلا الهزيمة والهوان، وهو لا يشعر بانتصاره إلا حينما تغسل المرأة بدموعها قدميه؛ حينئذ يعرف أنه حقق الغرض الأسمى لرجولته، فتنتهي مهمته معها ويبحث عن فريسة أخرى يسلك معها نفس الطريق.
ووقف أمام المرآة يمشط شعره الأكرت، وشعر ببعض الارتياح؛ لقد اهتدى أخيرا إلى مفتاح المرأة الجديدة وتعرف على طريقها الوعر الشاذ. كانت قد عذبته عامين كاملين وهي ترفض قبلاته، حتى لمسات يديه كانت لا تصيبها بتلك الرعشة التي تصيب النساء فترتخي جفونهن. لكنها لم تقتل الأمل في قلبه، كانت تجلسه معه وتتحدث إليه وتدقق النظر في ملامحه، وخاصة إلى أسنانه التي لم يعجب بها قط طوال حياته، رغم إعجابه الشديد بعينيه وأذنيه.
واستطاع في هاتين السنتين أن يحول نظرها من أسنانه إلى عينيه وأذنيه، واستطاع أيضا أن يجعلها تعجب بكلامه؛ فرأى نظراتها القوية الثابتة تلين، ولمح بريق أنوثتها العارمة يتقد في عينيها؛ فاقترب منها وحاول أن يقبلها، لكنها ابتعدت عنه وقالت في عناد وكبرياء: هل تحبني؟ فنظر إليها مستغربا؛ كيف تجرؤ امرأة على أن تسأله هذا السؤال؟ لم تشترط عليه امرأة من قبل أن يعترف بالحب قبل أن يقبلها، فسألها بدوره: هل تحبينني؟ ولم يكن يشعر بحاجة إلى هذا السؤال، فهو يعلم أنها تحبه، وإلا فما الذي يدفع امرأة مثلها إلى أن توافق على لقائه! لكنها أجابت في قوة وصدق: لا، ليس بعد.
وأحس بالدماء تغلي في رأسه، وود لو صفعها على وجهها، لكنها سألته بجرأة: هل تحبني؟ ولم يستطع أن يكون في مثل قوتها وصدقها، فأطبق شفتيه في صمت؛ لم يكن يريد أن يمتهن رجولته الغالية ويشعر أنه رجل رخيص ككل الرجال يتاجر باسم الحب، ويكذب على المرأة بكلمة أحبك حتى ينال منها ما يريد، لقد عودته انتصاراته المتكررة مع النساء على ألا يكذب؛ فهو في غير حاجة إلى الكذب؛ كانت النساء يعطينه قلوبهن وأجسادهن دون أن يكلف نفسه مشقة الكلام عن الحب، وأصبحت كلمة الحب التي تخرج من بين شفتيه أغلى عنده من قلب أي امرأة ومن جسد أي امرأة. كانت رءوس النساء تستقر بين قدميه بلا مقابل، بلا ثمن، بلا وعد، بلا شيء على الإطلاق؛ بل أحيانا ما كانت المرأة هي التي تدفع له حتى لا يقطع صلته بها إلى الأبد، وتظل تخدع نفسها بذلك الأمل الكاذب في أنه سيأتي إليها يوما.
وفتح صوان ملابسه وارتدى بدلة أنيقة، وأخذ زجاجة العطر الثمين ووضع نقطتين تحت كل إبط.
وركب عربته وتطلع إلى المرآة الصغيرة، وأعجب بشكله إعجابا كبيرا، وشعر كأنه عريس جديد ذاهب إلى عروسه ليلة الزفاف، وتخيلها وهي جالسة في حجرة الاستقبال تنتظر قدومه. لا بد أنها قضت في الحمام اليوم كله، تدلك ذراعيها وساقيها، ولا شك أنها ترتدي فستانا عاريا يظهر مفاتن جسدها، ولا شك أنها تعطرت؛ إنها أنثى رغم عنادها وقوتها. وتخيل نفسه وهو يقبلها ويعانقها وهي تسلم له جسدها ثم تبكي، كل النساء يبكين بعد أن يستسلمن، وشعر بالزهو والانتصار حين تخيل دموعها؛ كم تشوق كثيرا أن يرى دمعة واحدة تطفر من هاتين العينين القويتين الجريئتين، وتخيل رأسها الصغير بين قدميه وهي تستجديه وتستعطفه أن يبقى، ولكنه لا يبقى، ثم تطلبه في اليوم التالي فيرد عليها في جفاء، فتطلبه مرة أخرى وأخرى، تحاول أن تفهم لماذا نهب جسدها وهرب، وهو لا يستطيع أن يشرح لها نفسه، لا يستطيع أن يقول لها: إنه لم يكن يريد جسدها لذاته، فهو هارب من أجساد النساء، ولكنه كان يريد أن ينتصر عليها بعد عامين من اللهفة والعذاب والانتظار؛ أن يخضع أنوثتها العنيدة، أن يشعر بها وهي ذليلة جريحة تتعثر في استسلامها له وتبكي على ضعفها وهزيمتها، أن يلف حول عنقها خيطه الحريري القاتل ويشدها وراءه.
ووصل إلى شقتها، ولم يستطع أن يخفي دهشته حين رآها، كانت كعادتها ترتدي رداء قاتما لا يظهر شيئا من ملامح جسدها، وشعرها مرسل دون عناية، ولم يشم رائحة أي عطر نسائي. وجلس أمامها ببدلته الأنيقة وشعره اللامع المغسول، وفاحت رائحة عطره في الشقة الصغيرة؛ فشعر بالخجل من نفسه، ورأى نظراتها الثابتة تتأمله، ولمح ابتسامة ساخرة تحوم حول شفتيها، وانتهزت أول نكتة قالها فضحكت ضحكا متواصلا وألقت برأسها إلى الوراء، وخيل إليه أنها سيغمى عليها من الضحك؛ فشعر بالغيظ، لكنه تظاهر بعدم الفهم وشاركها الضحك بلا مبالاة.
Bog aan la aqoon
وتوقفت عن الضحك فجأة، ونظرت إليه ثم أطرقت إلى الأرض، ولم يدر ما الذي فعلته تلك الإطراقة، لم يكن رآها من قبل وهي تطرق برأسها، وظن أنها بدأت تضعف؛ فاقترب منها وحاول أن يضمها ويقبلها، ولكنها تخلصت منه، ونظرت إليه في جرأة وقالت له: هل تحبني؟ فأطرقت إلى الأرض مرة أخرى في صمت، فأمسك رأسها وحاول أن يقبلها، واستطاع أن يضع شفتيه على شفتيها وقبلها قبلة طويلة. ثم ترك شفتيها لحظة ونظر في عينيها قائلا: هل تحبينني؟ فابتسمت وهي تقول: لا، ليس بعد. وشدها من شعرها الطويل وأخذها بين ذراعيه وقاومته، لكنه استطاع أن يضمها إلى صدره بقوة وعنف، ولم يترك لها مجالا حتى لتتنفس، وسمعها تقول في عناد وهي تتملص منه: هل تحبني؟ وكان شعوره في تلك اللحظة قد تغلب على تفكيره وعناده؛ فخرجت من بين شفتيه كلمة أحبك مع أنفاسه الساخنة اللاهثة؛ فابتسمت. وهمس لها قائلا: هل تحبينني؟ فقالت: لا، ليس بعد. ولم يكن لديه ثمة قوة أو تفكير، فاستسلم لها استسلاما كاملا وأفاق بعد قليل؛ كيف شعر أنه هو الذي استسلم لها وليست هي التي استسلمت له؟ كيف يمكن لرجل أن يحس في مثل هذه اللحظة أنه هو الذي يعطي نفسه للمرأة وليست هي التي تعطيه؟ وأحس بمرارة في حلقه، هي نفس المرارة التي تشعر بها المرأة حين تدرك أنها استسلمت لرجل، ولرجل لا يحبها.
وأشعل سيجارة وجلس يدخن في صمت، وجلست أمامه صامتة. لماذا لا تتكلم هذه المرأة؟ لماذا لا تثرثر ككل النساء في مثل هذا الموقف؟
عيناها فقط تنظران إليه ... في قوة وكبرياء وعناد، كأنها لم تكن بين ذراعيه من لحظة، كأن شيئا لم يحدث بينهما على الإطلاق، بل لعل نظرتها ازدادت قوة وكبرياء وعنادا، وشعر برغبة في أن يصفعها ويقول لها: أنت لست امرأة، أنت رجل، أنت تحتقرين أنوثتك. ولكن كيف ينطق بهذه الكذبة الهائلة وبهذه السرعة الكبيرة؟ ولا شك أنها تفهم أن الرجل لا يتهم المرأة هذا الاتهام وفي هذا الموقف بالذات، إلا حين يشعر أمامها بالعجز، أو حين يحس أنها تحتقر رجولته.
وانتهى من تدخين السيجارة، ووقف ومد لها يده مصافحا، وصافحته، وخرج مسرعا كأنما يطارده شبح.
ولم ينم ليلته بالرغم من الأقراص المنومة الشديدة، ظل مؤرقا حتى الصباح؛ أيمكن له بعد هذا العمر الطويل، وتلك الصولات والجولات في عالم النساء، وذلك الانتصار الساحق مع امرأة وأخرى؛ أيمكن له بعد كل هذا أن يشك في رجولته؟ أن يشك في سحره؟ أن يشك في قوته؟
وانتشر نور الصباح في حجرته وهو يبحلق في السقف، يحاول أن يرد على علامات الاستفهام الكثيرة التي بدأت تمزق خلايا مخه، وتحفر لنفسها مكانا عميقا في ذهنه.
ونهض من فراشه يجر جسده الثقيل جرا، ولمح التليفون، وشعر برغبة قوية في أن يطلبها، إنه يريد أن يسمع صوتها مرة أخرى، أن يحس فيه شيئا من اللهفة، شيئا من الاهتمام يسري عنه ويخفف من تلك اللوعة التي في نفسه، وأدار قرص التليفون عدة مرات، وجاءه صوتها الكسول الناعس ليس فيه ذرة اهتمام؛ لكنه كذب أذنيه وحسه وذكرها بليلة الأمس، فتمتمت بكلمات لم يسمعها، وسألها في لهفة: هل تحبينني؟ فقالت وهي تتثاءب: لا، ليس بعد. وغاص قلبه في قدميه، وأحس أن الجرح الذي في قلبه يتسع، يتسع ويزيد، وأن اللوعة التي في نفسه تشتد وتستفحل، وأن علامات الاستفهام في مخه تغوص وتفور.
وارتدى ملابسه في إعياء وذهب إلى مكتبه، وبدا له كل شيء كئيبا مفرطا في الكآبة، ولم يعد يتحمس لشيء، وجلس إلى مكتبه لا يستطيع أن ينظر في ورقة من الأوراق، وأخذ يختلس إلى التليفون نظرات متلهفة حزينة، وشعر برغبة عارمة في أن يطلبها مرة أخرى، لا بد أنها استيقظت تماما الآن وسوف يعود إلى صوتها اللهفة والاهتمام. لقد أصبح لا يريد منها شيئا على الإطلاق سوى أن ترد إليه ثقته بنفسه؛ ثقته برجولته.
وأدار قرص التليفون، وجاء صوتها هذه المرة نشطا مليئا بالنشاط، لكنه أحس أن هذا النشاط لا يمت إليه بصلة، فقال لها في استجداء: أريد أن أراك الليلة. لكنها اعتذرت في أدب لانشغالها ببعض الأعمال، ووضع السماعة وقلبه يختنق من الألم؛ ما هذا الذي يحدث له؟ إنه هو الذي يستجديها ويستعطفها وهي التي تهرب منه، لقد التف خيط العذاب الحريري حول عنقه هو وليس عنقها.
ولم يعرف لماذا حدث ذلك، لم يتصور أبدا أن تكون هناك امرأة مثله، فقد كانت هي الأخرى لا تريده هو بالذات، ولكنها كانت تريد أن تخضع رجولته المغرورة، أن تشعر به وهو ذليل جريح يتعثر في استسلامه لها، ويبكي ضعفه وهزيمته، أن تلف حول عنقه خيطها الحريري وتشده وراءها، كانت مثله تنشد الانتصار بأي شكل وبأي ثمن.
Bog aan la aqoon
من أجل المعرفة
العربة البيضاء الصغيرة تنطلق بسرعة على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة، ونسمة الليل الدافئة تتخلل شعرها وملابسها، وتسري إلى جسدها فتبعث في روحها خدرا جديدا ترتخي معه نظراتها المتكسرة على صفحة النيل؛ لتلتقط من حين إلى حين صورة جانبية للأصابع العريضة التي تلتف حول عجلة القيادة في قوة وحماس، والعينان شبه الزرقاوين تتطلعان إلى الأمام في حدة تنم عن شوق عارم إلى بلوغ نهاية الطريق.
وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول وهو يخطف إليها نظرة متلهفة: سنصل بعد قليل.
قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجل حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها، وحملت نسمة الليل الرقيقة عن شفتيها ابتسامة ماكرة وطوحت بها بعيدا عن عينيه، وقالت: الليل في حلوان جميل.
ورمقها بنظرة مشحونة بالشوق وقال: أنت أجمل من الليل.
وهزها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف.
وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: أحبك.
وأغلقت شفتيها في صمت.
لكنه سألها: هل تحبينني؟
فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: ألا ترى هذه الأنوار؟
Bog aan la aqoon
ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا حلوان. •••
أمسكت حقيبتها الصغيرة وسارت إلى جواره يتقدمها صبي صغير ظل يسير في طرقة طويلة متعرجة، ثم وقف أمام باب عليه رقم، وفتح الباب وانحنى في دأب ينتظر دخولهما.
واصطدمت عيناها بالسرير الواحد الذي يتوسط الحجرة، لكنها تجاهلته وسارت إلى النافذة وفتحتها وأطلت منها على الليل الساكن الرهيب تبرق فيه النجوم، وتنهدت وهي تستنشق هواء الليل الدافئ وقالت: المنظر من هنا رائع!
وشعرت به يقف إلى جوارها ويتطلع معها إلى الأفق البعيد، لكنها استطاعت أن تضبط عينيه وهما تختلسان رغما عنه نظرات خاطفة وجلة إلى السرير.
وأسندت مرفقها إلى النافذة وشردت نظراتها بعيدا وعادت بها إلى القاهرة، إلى حجرة مستطيلة، ومكتب صغير، وهو يجلس أمامها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تسحق قوتها وغرورها وتجعلها تنكمش عند ركبتيه وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة عنيفة حبيسة لا تجد سبيلا إلى الخلاص، حتى حينما يشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظن أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى مع كيانها وتفرح بالخلاص، ولكن حين يبعد عنها ذراعيه تسترد كيانها وتسترد معه عاطفتها عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها.
ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ويعود إليها التساؤل الحائر بلا جواب:
لماذا هو بالذات؟
لماذا لم يكن رجلا آخر؟
وهل يمكن أن يكون رجلا آخر؟
هل يمكن أن تعرف؟! •••
Bog aan la aqoon
ورن صوت الرجل في أذنيها فشدت نظراتها من الأفق البعيد إليه، ورأته واقفا إلى جوارها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار، ولكنها لا تسحق شيئا فيها، وحاولت أن تنكمش عند ركبتيه، وحاولت أن تلهث بأية عاطفة فلم تلهث بشيء.
وشدها إليه.
ورأت ذراعيه القويتين تحيطان بها، أكثر قوة من الذراعين الحبيبتين، أقوى عضلات وأغزر شعرا، ولكنهما لا تذيبان أي شيء فيها. •••
العربة البيضاء الصغيرة تنطلق على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة ونسمة النهار الدافئة تتخلل شعرها وملابسها وتسري إلى جسدها، فتبعث في روحها حماسا جديدا تستيقظ معه نظراتها الناعسة على صفحة النيل، وتسبقها إلى القاهرة إلى الحجرة المستطيلة والمكتب الصغير.
وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول: أحبك.
قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجال حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها.
وحملت نسمة النهار الرقيقة عن شفتيها ابتسامة ساخرة، وطوحت بها بعيدا عن عينيه. ورمقها بنظرة مشحونة بالعاطفة، عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت؛ كأنه لم يفرج عن شيء منها.
وهزها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف، وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: هل تحبينني؟
فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: ألا ترى هذه البيوت؟
ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا القاهرة. •••
Bog aan la aqoon
في الحجرة المستطيلة، وعلى المكتب الصغير، وهو يجلس أمامها، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تسحق قوتها وغرورها فتنكمش عند ركبته وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة حبيسة لا تجد سبيلا إلى الخلاص.
ويشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظن أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى، وتفرح بالخلاص، ولكن حين يبعد عنها ذراعيه تسترد كيانها وتسترد معه عاطفتها؛ عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها، ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ولكن لا يعود إليها التساؤل الحائر: لماذا هو بالذات؟
شرارة من الداخل
لم تكن المسافة التي تفصل بينه وبينها تزيد على طول ذراعه، ولم يكن بالبيت أحد سواهما، وعلى المنضدة الصغيرة زجاجة الخمر المعتقة ودورق الثلج الصغير، وتأملها وهي تمسك كأسها في يدها وتحوطه بأصابعها، ثم تقربه إلى شفتيها في هدوء.
كانت صامتة، لكن عينيها كانتا تعبران لحظة عن الفرح ولحظة عن الألم، لحظة تتوهج بالعاطفة المجنونة، ولحظة تنطفئ بالعقل البارد، لحظة تغرق في حنان متدفق، ولحظة تجف في تحد قاس.
وظل يتأملها وهي تشرب الكأس وراء الكأس حتى التهب خدها بسخونة الخمر، واتقدت عيناها ببريق ينم عن فوران الأحاسيس، وشعر برغبة عنيفة في أن يمسك أصابعها الرفيعة ويضغط عليها بقوة حتى تتكسر بين أصابعه، ويصيح بها قائلا: التحدي في عينيك يرغمني على القسوة. أو أن ينتزع الكأس من بين أصابعها ويلقي بها من النافذة ويصرخ في وجهها: ألا يمكن أن تبادليني الحب بدون أن تفقدي الوعي؟ أو أن يجلس عند ركبتيها ويدفن رأسه في صدرها ويبكي ويقول لها: حنان عينيك يبكيني.
لكنه لم يفعل شيئا، ظل يتأملها ساكنا، وسعادة خفية تدغدغ خلايا جسده وقلبه وعقله، وكل شيء خارج هذه الحجرة الصغيرة تافه، حتى فنه؛ فنه الكبير الذي انتصر على كل اهتمام في حياته. ولماذا لا يكون الفن تافها؟ ألم يكن يكتب من أجل تحقيق شيء ... مثل هذه اللحظة التي يعيشها الآن؟ ألم يكتب سنين طويلة من أجل لحظة مثل هذه اللحظة، ولم تستطع الكتابة أن تعطيها له مطلقا؟ كل إنسان خارج حدود هذه الإنسانية لا وجود له الآن، حتى ابنته؛ ابنته الوحيدة الصغيرة التي انتصر حبها على كل حب في حياته. ولماذا لا يتلاشى وجود ابنته؟ ألم يكن يحبها لأنها نتاج حب قديم، وقد جاء الحب الجديد الذي يمحو القديم، والذي يمكن أن يعطيه نتاجا جديدا؟
ونظر في عينيها الجسورتين، لم تفعل الخمر بجسارتها شيئا؛ كأنما لم تشرب قطرة خمر واحدة، لولا تلك الحمرة الخفيفة التي شابت بياض عينيها، وتلك الومضات المجنونة التي تبرق فيهما من حين إلى حين.
وتأمل شفتيها وهما تنفرجان في محاولة للكلام، وابتسم لها مشجعا، إنه يريد أن يسمع منها شيئا وهي نصف واعية، وعقلها الصارم نصف نائم، ولكنها لم تقل شيئا، ابتسمت في صمت وعادت لتملأ كأسها من جديد.
ولم يتحمل، رأى يده ترتفع على الرغم منه وتمسك كأسها وتنتزعه من بين أصابعها، وقال وهو يحتوي أصابعها الساخنة بين أصابعه الباردة: كفى! ونظرت إليه في دهشة، وقالت وهي واجمة: أنت الذي أحضرت زجاجة الخمر. تذكر فورا اللحظة التي وقف فيها أمام بائع الخمر مترددا أيأخذ معه زجاجة الخمر؟ لم يسبق له أن تردد في شراء زجاجة قبل ذهابه للقاء امرأة؛ ولكنه لا يريد أن يذهب إليها حاملا خمرا، لماذا؟ لعله شعر أنه لن يكون بحاجة إلى فقدان وعيه، أو أنه سيفقد وعيه بلا خمر، أو أنه حين يجلس معها يصبح كل شيء تافها، حتى الخمر، حتى الخمر تفقد طعمها ومعناها وتأثيرها؛ ألم يشرب، ولا يزال عقله متقدا متنبها لكل حركة من شفتيها، ولكل ومضة في عينيها، ألا يزال واعيا؟ لم يخرج منه تلك الأحاسيس الدفينة التي يكتبها العقل وتحررها الخمر فينطلق يفعل ما يريد بلا تفكير؟ وسمعها تضحك ضحكة قصيرة وهي تقول: صدقتك حين قلت إنها علبة بسكويت، تصور غبائي! وابتسم في شيء من الحرج؛ لماذا ألبس زجاجة الخمر ثوبا تنكريا ووضعها في علبة بريئة من علب البسكويت؟ لعله كان يريد شراء علبة بسكويت بدلا منها، ولكن ماذا تقول المرأة حين يشتري لها الرجل علبة بسكويت؟ أتفرح ببراءتها وسذاجتها؟ أم تحزن لبراءتها وسذاجتها أيضا؟!
Bog aan la aqoon
واقترب منها قليلا، وحاول أن ينطق بشيء، لكنه لم يقل شيئا. أيمكن أن تعبر كلمة الحب عن ذلك الزلزال الذي يرج عقله وقلبه وجسده؟ وأطبق شفتيه في صمت وأطبق أصابعه على أصابعها في قوة. آه لو تلاشى عقله أمام لحظة الجنون واحتواها بين ذراعيه، وظل يضغط عليها حتى تذوب؛ ولكنه ظل مترددا، لماذا هو متردد؟ ألا يجد في عينيها إجابة واضحة على السؤال الذي يصرخ في أعماقه: هل هي تحبني؟
ولكن تيارات التعبير المتباينة تمر بعينيها دون أن يلتقط جوابا، نظرة الحنان تحرك قلبه، ونظرة التحدي تثير رجولته، الأنوثة العارمة فيها إلى جانب تلك القوة التي تكاد تشبه قوة الرجولة؟ الأنوثة التي تشعره برغبة عنيفة في الالتصاق بها، والرجولة التي تشعره برغبة مثلها في الفرار منها، التناقض العجيب فيها، التناقض الساحر، سحر الحياة وسرها، وهذا الشعور العجيب، الشعور المتناقض، رغبته في الالتصاق بها ورغبته في الفرار منها، يربطه بها ربطا. هل هو ساحر مثلها؟ هل يحتوي كيانه على التناقض؟ هل يجمع مثلها بين رجولة قوية وأنوثة رقيقة؟ لم يقابل من قبل امرأة واحدة تجمع بين هذا التناقض، كانت المرأة إما أنوثة يرغب في الاتصال بها وإما رجولة يرغب في الفرار منها، ولكن أن يرغب في الالتصاق والفرار في نفس اللحظة وبنفس القوة؟ هذا هو الصراع الرهيب الذي يولد في أعماقه شرارة التردد، شرارة العقل الذي لا يغيب، شرارة العاطفة التي لا تهدأ.
وابتسم في إشفاق على نفسه وهو يحترق من الداخل بشرارة غريبة تضيع عليه فرصة الاستمتاع باللحظة التي يعيشها، لم يحترق من قبل بشرارة داخلية، كان يحس الشرارة خارجه وكان يطفئها بيديه أو شفتيه أو ذراعيه؛ ولكن كيف تصل أصابعه إلى تلك الشرارة المشتعلة في داخله؟
لا شيء سوى أن يعيش معها إلى الأبد؛ أن يتزوجها، أن يقترن كيانه بكيانها، وسمع نفسه يقول لها: لنتزوج!
ورآها تعتدل في جلستها ودموع كالندى تبلل عينيها، وقالت وهي حزينة: وزوجتك؟
آه! تذكر زوجته، وابنته، ولكن ليس لأحد وجود الآن في عقله وقلبه.
وقال في إصرار: أطلقها.
واعتدلت أكثر في جلستها، وبدأت تتكلم، وتكلمت كلاما نبيلا عاقلا، ولكن ما أقبح النبل في لحظة الحب! وما أقبح العقل في لحظة الجنون! وسمعها تقول: لا تطلق زوجتك من أجلي، ولا تفرق بين أم ابنتك وأبيها.
وشعر برغبة في أن يرد على نبلها بصفعة عنيفة على وجهها تخلع عن رأسها ذلك العقل القبيح، ذلك الكذب، ذلك النفاق، أيمكن لها أن تكون صادقة إذا كانت تحبني؟ أليست العاطفة طوفانا هائلا من الصدق والأنانية والجنون، يجرف في تياره كل ادعاء وكل نبل وكل عقل؟!
وكبح جماح غضبه واغتصب ابتسامة امتنان وتقدير وقال: أنت إنسانة نبيلة عظيمة.
Bog aan la aqoon
ونهض في هدوء وارتدى سترته وقال في أدب ورقة: سأذهب.
نظرت إليه في دهشة؛ سيذهب؟ إلى أين؟ وبدا لها خروجه من بيتها شيئا عجيبا، لم يكن ضيفا وانتهت مدة زيارته، كان ... كان رجلها، رجل حياتها؛ زوجها، ابنها، وأباها، وبيتها هو بيته، أيخرج من بيته؟ وإلى من يذهب؟ وشعرت برغبة عنيفة في أن تحول بينه وبين الخروج، أن يتلاشى عقلها أمام لحظة الجنون، أن تطفئ شرارة التردد التي تشتغل داخلها شرارة الحب، ولكن الشرارة كانت داخلها، وأصابعها لا يمكن أن تصل إليها.
وأخفت دهشتها تحت ابتسامة نبيلة مهذبة، وصافحها في أدب شديد وخرج.
قلبي الذي عصيته
عيناي مفتوحتان لا تريان، والظلام كثيف ومخيف، والطريق ضيق حار، وأنفاسي بطيئة مخنوقة، وجسدي ثقيل مشلول.
أيمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه التعاسة؟
أيمكن أن تبدو الحياة كئيبة كهذه الكآبة؟
حين يفقد المرء بصره مع أن له عينين، حين يشتد الظلام في وسط النهار؟!
كان أحد الملايين الذين تمر وجوههم أمامي فلا أكاد أذكر منها شيئا سوى أنها آدمية.
لكنه أراد أن يشد عيني الشاردتين إليه، أراد ... ولم يكن يملك شيئا من الإنسان إلا إرادته.
Bog aan la aqoon
واستقرت عيناي عليه لحظة.
أنفه منخفض قصير يوحي إلي بأنه شرير، وشفتاه رفيعتان مقوستان إلى أعلى كحاجب امرأة شريرة، وعيناه قاسيتان يرتج صفارهما الباهت الصغير في البياض الكبير كما يرتج الصفار داخل البيضة العفنة.
وأشحت بوجهي عنه لكنه استدار وواجهني.
تركت له المكان فتبعني كالظل، وركع على ركبتيه وبللت دموعه أرضي واعترف لي بالحب العملاق.
لم يصدقه قلبي ونفر منه؛ لكن عقلي صدقه، هو رجل، غني ناجح، مرموق.
كان قلبي يحتقر عقلي؛ يحتقر مفاهيمه وأساليبه، يحتقر أرقامه وموازينه وكشوف حساباته، ولم يكن لعقلي حول ولا قوة أمام جبروت قلبي؛ فيتكور كالطفل اليتيم في جمجمته الضيقة المظلمة، يجتر هزيمته في صمت منتظرا المأساة.
كنت أتبع قلبي دائما، وكنت أحزن، وأشقى، وأفلس، وأجوع، ولكني لم أفكر مرة واحدة في الخروج على قلبي.
لماذا؟ لا أدري.
ولكني صممت على أن أخرج عليه مع هذا الرجل، ولأجرب عقلي هذه المرة. •••
جلست أمامه أحاول أن أنظر إلى صفحة النيل العميقة بدلا من عينيه الباهتتين الضحلتين، وأحاول أن أجد في كلماته اللزجة المتكلفة الخالية من الفن والذكاء شيئا ذا معنى.
Bog aan la aqoon
كان يتحدث عن التجارة، وعن العرض والطلب، وكيف يصطاد الزبون ليعطيه أبخس شيء بأغلى ثمن، ويسمي ذلك فنا وذكاء. •••
أحسست بقلبي يغلي بين ضلوعي اشمئزازا منه؛ لكن عقلي كان يبادر فيذكرني بجاهه وماله ونجاحه .
فلأروض قلبي على احترام فن التجارة.
جلست إلى جواره في عربته الوثيرة الناعمة، وأغمضت عيني لأغيب مع أحلام عقلي.
ما أجمل الثراء! ما أمتع أن أركب عربة فاخرة فارهة كالطائرة تسبح بي في شوارع القاهرة! ... بل ما أمتع أن أمتلك هذه العربة وأمتلك صاحبها أيضا!
وتقزز قلبي من أحلام عقلي.
أنا؟ أنا أفكر في الامتلاك؟ في الأخذ؟ أنا التي كنت أعطي وأعطي، وكانت سعادتي هي أن أعطي وأعطي؟
ولكن ماذا فعل لي العطاء؟
كنت أحزن، وأشقى، وأفلس، وأجوع، فلأجرب الأخذ هذه المرة، ولأعلم نفسي أن تأخذ وتأخذ. •••
رأيته يقترب مني وينظر إلي بعينيه المرجوجتين المائعتين، وأمسك يدي في يديه، فانتفض قلبي حانقا غاضبا؛ لكن عقلي تصدى له زاجرا ناهرا، فسكت.
Bog aan la aqoon
واقترب مني أكثر وأكثر، ورأيت شفتيه الرفيعتين المقوستين إلى أعلى كحاجب امرأة عاهر تقتربان من شفتي، وقفز قلبي نافرا مشمئزا، لكن عقلي ذكرني بمواهبه؛ إنه ثري، وسوف يصبح ثراؤه ثرائي.
إنه غبي؛ وسوف يريحني من غرور الأذكياء. لم أحاول أن أدقق النظر إلى شفتيه أو عينيه، لم أحاول أن أدقق الفهم لحديثه أو حركاته.
واتهمت قلبي بالغباء والسذاجة، هذا القلب الذي يؤمن بأشياء تافهة لا منطق فيها ولا معنى.
عيناه عميقتان! أفكار ذكية! إحساس مرهف! نفس فنانة! قيم روحية! ...
أشياء تافهة حقا، مجرد أوهام يحس بها قلبي الساذج بلا واقع لها على الأرض وبلا مبررات وبلا مقاييس إلا مقاييس إحساسي المبهم الغاشم!
أغمضت عيني، وأغلقت أذني، وأوصدت صمامات قلبي، وناولته شفتي.
وقال بصوت ضحل: أتحبينني؟
كاد قلبي يصرخ ويقول: لا لا. لكن عقلي قفز أمامه وقال: نعم!
وقال بصوت قبيح: أتتزوجينني؟
حاول قلبي أن يولول ويقول: أبدا أبدا. لكن عقلي سد عليه الطريق وقال: نعم. •••
Bog aan la aqoon
تربع عقلي على عرشه في انتصار وزهو يتأمل الجدران الشاهقة المنقوشة، ويتشمم الأطباق الشهية المتنوعة، ويتطلع إلى الملابس الفاخرة المتعددة، ويتحسس الفراش الوثير الثمين، ويطل على العربة الطويلة القابعة أمام القصر في خشوع وانتظار.
نعم، هذه هي الحياة؛ الحياة التي تستحق أن تعيشيها، أتلقين بكل هذه الأشياء الثمينة الغالية النادرة من أجل أوهام ترتع في قلبك؟!
تعلمي أن تحبي هذه الحياة، وأن تحبي هذا النعيم وهذا الترف، عودي حواسك على هذه المتع الجديدة.
ماذا كان يرضيك في ذلك الحرمان الذي كنت تعيشين فيه؟! تفضلين بضع كلمات ضائعة في الهواء على أكلة دسمة لذيذة، تفضلين رجفة القلب الوهمية على رجفة الجسد المحسوسة، تعلمي أن تعشقي جسدك وتشبعي حواسك. •••
جلست إلى المائدة الكبيرة الشهية، وأكلت وأكلت، فتحت صوان الملابس الفاخرة، ولبست ولبست، ركبت العربة الطويلة الفارهة، وسبحت وسبحت، تمددت على الفراش الناعم الوثير، ونمت ونمت، لفتني دوامة رهيبة، لها دوي كئيب شديد صم أذني، وسحب الضوء من عيني، وأوصد منافذ إحساسي وإدراكي، أحسست أنني نوع غريب من البهائم يمشي على قدمين، نظرت إلى نفسي في المرآة فرأيت وجها غريبا علي، مليئا باللحم والأصباغ، فارغا من الوعي والتعبير، وعينين مطفأتين جاحظتين كعيني الضفدع، وشفتين يابستين لا تقويان على الابتسام.
لم أعثر في وجهي على ملامح وجهي، ولم أعثر في أغوار نفسي على نفسي، رأيت نفسا أخرى متخمة مترهلة، وأحسست جسدا سميكا غليظا ليست فيه ملامح جسدي، وكأنما ضاع مني كل شيء، ضاع مني نور عيني، الابتسامة الطبيعية السهلة استعصت على شفتي.
لا شيء يواسيني، لا شيء يبعث في الأمل، لا شيء يثيرني، لا شيء يحمسني.
ذهب قلبي وذهب معه إيماني بوجودي وحياتي.
ورأيته يقبل نحوي.
من هذا الرجل الغريب الكئيب الذي يقتحم علي غرفة نومي؟
Bog aan la aqoon