وشدتني الابتسامة إلى الدنيا فجأة كما تشد سنارة الغواص اللؤلؤة من قاع البحر إلى سطح الأرض، كأنما كنت في قاع عميق مظلم بعيد، ثم جذبوني بحبل إلى النور والهواء، وكأنما نسيت شفتاي الابتسام!
فنظرت مشدوهة إلى الوجه لا أدري كيف أرد على هذه الابتسامة العجيبة التي بدت لي لغة جديدة لم أتعلمها، وهززت رأسي بلا إرادة وبلا معنى لأرد على ابتسامته، وعيناي ثابتتان على وجهه، متعلقتان بشفتيه كغريق يتشبث بحبل النجاة.
وأحسست أن ثقل قدمي قد خف بعض الشيء، وأن جسدي الحديدي قد لان بعض الليونة، وفتحت فمي بلا وعي ووجدتني أنطق بلا إرادة: أشكرك.
ورنت الكلمة في أذني رنينا عجيبا؛ لم يكن لها نفس الرنين الذي تعودته أذناي، ولم يكن نفس المعنى الذي فهمه عقلي!
ولم أسمع رده على كلمتي كأنه لا يفهم تلك الكلمات العادية التي يقولها الناس أو لا يؤمن بها، لكني سمعت عينيه وهما تبتسمان لي، كيف سمعتهما؟ لا أدري، ولكني شعرت أن حواسي الميتة التي كانت ترى الناس جميعا كتلة واحدة سوداء قد عادت إليها الحياة فأبصرت، ورأيت نافذة إلى جواري فنظرت منها، ورأيت أشعة الشمس المشرقة تسقط على سطح مياه النيل الجارية كأنما هي أسلاك ذهبية من نور سحري عجيب، ورأيت الناس في الشارع يتدفقون في حيوية ونشاط كأنما الحياة قد بلغت ذروتها.
وتركت النافذة ونظرت إلى الوجه، فرأيته ينحني لي في تحية وداع والابتسامة العجيبة حية على شفتيه، ثابتة على ملامحه كأنما هي جزء منها، ونزل الوجه من الأتوبيس واختفى في زحام الشارع، لكن الابتسامة ظلت أمام عيني لا تغيب. وأدركني إحساس يشبه الإيمان بأن هذه الابتسامة لن تتلاشى أبدا من خلايا ذاكرتي، حتى الموت نفسه لن يستطيع أن يفعل، لو مات هذا الوجه يوما، وسيموت حتما، فلن تموت هذه الابتسامة أبدا، ستبقى في ذاكرتي وأنا أعيش. ولو مت أنا، ولسوف أموت، فإن هذه الابتسامة ستعيش في ذاكرة من رآها غيري. ولو مات غيري، ولسوف يموت، فستعيش في ذاكرة من رآها غيره؛ كأنما هي إله خالد جبار يوزع الحياة هنا وهناك بغير حساب.
وجاءني هواء منعش من النافذة فجذبت نفسا عميقا؛ جعل عضلات قلبي ونفسي ترتمي في راحة واطمئنان، وقلت لنفسي: إن الدنيا حلوة ... حلوة.
وجاءت المحطة ونزلت من الأتوبيس، ومشيت في خطوات خفيفة، أحسست أن جسدي مصنوع من الريش، ومشيت في الشارع كأنما أرقص، وسمعت صوتا في أعماقي يغني، ورأيت الوجوه كلها أمامي تبتسم لي فأرد على ابتساماتها بابتسامة سهلة طبيعية، كأنما ... كأنما لم تنس شفتاي الابتسام أبدا.
ثمن الدم
لم يكن يشعر وهو جالس على بلاط الحجرة أن زوجته تركت ابنها الرضيع على الأرض بجوار فوطة الخبز الفارغة، وزحفت إلى جواره وهزته في كتفه هزات رقيقة حزينة وهي تقول بصوتها الضعيف الممزق: أبو محمود، أبو محمود، أنت نمت؟
Bog aan la aqoon