الإنسان حيوان لولا العقل، فلما أخضع لشهواته العقل صار إنسانا لا حد له في الحيوانية، فهو من هذه الجهة لا إنسان ولا حيوان، وإن كان الشيطان مطرودا من رحمة الله، فخير ما يقال في هذا الإنسان أنه شيطان فيه موضع للرحمة!
ولقد خلق الله هذه الحواس ولا ضابط لها إلا العقل يحكم تحديدها، ويتولى تسديدها، ويستعين في أمرها بكل على كل، ومن ثم يستقيم من هذا الإنسان شيء معقول، ويصبح قد ضربت عليه الحدود لا يتعداها، ورسمت له دائرة في الإنسانية لا يجاوزها، فيقر كل امرئ في حيزه وقد صار عنده من الناس وعند الناس منه وثائق من العقل وبينات من الحق، إذا هو حاكم إليهم ضلالة منهم، أو حاكموا إليه ضلالة منه ،
6
وهنالك يرى كل عمل طيب ثواب نفسه؛ لأنه هو من فضائله كأنه شريعة لنفسه، ومتى كان العمل الطيب مما يجزئ في ثوابه عند الرجل من الناس أنه عمل طيب، فقد أصبح ولا غرو من سعادته؛ إذ لو لم يجد به سعادة لما لقي منه ثوابا، وبذلك - بذلك وحده من دون كل الوسائل الأخرى - تصبح السعادة عملا من الأعمال يمكن أن يمارسه الإنسان فيسعد ما شاء الله أن يسعد، ثم تكون الحياة على ذلك واجبات يقضيها، فإن تحققت أو لم تتحقق فإما دخلت على نفسه بسرورها، وإما خرج منها بعذره وقد أبلى عذرا.
ومتى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجبات يتنجزها ويستقضيها من نفسه، فما ثم لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يدي المصطلي؛ لا يراد منها إلا حرها، ولا يطلب من حرها إلا قدر معلوم، ولا يبتغى هذا القدر إلا مدة بعينها، ولا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يصلح أو يدفع الأذى، لا سرف في كل ذلك ولا هوان ولا مضيعة.
قال «الشيخ علي»: ولكن كل شر العالم يا بني في لفظ واحد هو طغيان الحواس، وبمعنى واحد هو إذلال العقل، ولغرض واحد هو هذا الموت الأدبي الذي يسميه المغفلون سعادة الحياة.
منذ طغت الحواس أصبحت الحدود بين مطالب الإنسان من فضائله إلى رذائله ولا أثر لها؛ لأن الشاطئ لا يعرف تحت السيل إذ طم عليه،
7
فما أنت ولا أنا ولا أحد يدري ما هو حد الكفاية في رغبات هذا الإنسان وأهوائه، بل صارت هذه الكفاية وما ينطوي تحتها من ألفاظ القصد والقناعة والرضا وما إليها؛ ألفاظا خيالية يساير ظلها ظل الإنسان، فلا حد لها ما دام هو لا يثبت لنفسه حدا، ولا تتأخر ما دام هو يتقدم، وأصبح أكثر الناس في رغباتهم الخيالية وما يعملون لها مدة الحياة كرجل ائتلى
8
Bog aan la aqoon