فاتحة1
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
صفحة من الغيب
صفحة من الحكمة
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
غرض الكتاب
1 - الشيخ علي1
2 - في وحي الروح1
3 - الفقر والفقير
Bog aan la aqoon
4 - مسكينة! مسكينة!
5 - لؤم المال ووهم التعاسة
6 - وهم الحياة والسعادة
7 - سحق اللؤلؤة
8 - الحظ
9 - الحرب1
10 - الجمال والحب1
11 - الدين ولادة ثانية1
فاتحة1
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
Bog aan la aqoon
صفحة من الغيب
صفحة من الحكمة
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
غرض الكتاب
1 - الشيخ علي1
2 - في وحي الروح1
3 - الفقر والفقير
4 - مسكينة! مسكينة!
5 - لؤم المال ووهم التعاسة
Bog aan la aqoon
6 - وهم الحياة والسعادة
7 - سحق اللؤلؤة
8 - الحظ
9 - الحرب1
10 - الجمال والحب1
11 - الدين ولادة ثانية1
كتاب المساكين
كتاب المساكين
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
Bog aan la aqoon
فاتحة1
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة، يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه، وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيرا من المآسي الفاجعة، يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فيما يقرؤها إذ يقرؤها كلاما مكتوبا، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها، فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب العالمية الأولى واستعرت نارها في الميادين البعيدة، لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديدا من ضحاياها هناك في الميادين.
كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعي النجار لعمل عندنا، فوجدته جالسا في أهله ياكلون؛ كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز إدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم، كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود، مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتا ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رمادا في الهواء!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيرا مما يرى ويسمع، فاحتبس الدمع في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه.
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحتشد آثاره، والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه الكبير، حتى امتلأ الإناء يوما ففاض. •••
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له في نظام الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: رب، لم كتبت علي هذا ...؟ لماذا حكمت بذلك ...؟ لماذا قدرت وقضيت ...؟ ما حكمتك فيما كان ...؟ ألم يكن خيرا لو كان ما لم يكن ...؟ ثم يتوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذرا يقول: رب، لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك، فمغفرة وعفوا ...!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبدا في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات، أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض، ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: رب، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك! وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء.
Bog aan la aqoon
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: «حكيم أنت يا رب! ليتهم وليلتي ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس! كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدر منك وتدبير حكيم!»
ثم شرع يؤلف كتابه «المساكين». •••
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألف في المنثور، وثاني ما ألف في أدب الإنشاء، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب «أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس ...» وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها: «هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة ... فقد والله بليت أثواب هذا الفقر، وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها بخيوط من الدمع، ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسيا، أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية، أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين ...»
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه إلا أنه صور من آلام الإنسانية كثيرة الألوان، متعددة الظلال، تلتقي عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة «الشيخ علي» الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس؛ لأنه يعيش في نعمة الرضا، وإلى جانبه قصة الغني الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع، فوهب لها المال ولكنه سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذا ... وهذه ... من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع!
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين أنه كان في زيارة أصهاره في «منية جناج»، فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي رجل يعيش وحده، ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تئويه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق. رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي واستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول: ... هو حليم لنفسه، غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به.
وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع، ومن فوته على خوف ...
فهو من أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا ... وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج، حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع ...
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين، ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح.
وقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917، وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى آخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة. والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لا طاقة له به، إيمانا كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسما أبدا، أو ضاحكا ضحكة السخرية والاستسلام. •••
Bog aan la aqoon
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي باشا:
لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته.
هو كتاب اجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء، والشيخ علي الجناجي.
محمد سعيد العريان
إلى صاحب «المساكين»
لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وغوته كما للألمان غوته.
أحمد ذكي باشا
صفحة من كمال النبوةوأخلاق سيد الخلق
كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
يقول في بعض دعائه: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين.» فقال له أنس بن مالك رضي الله عنه: يا رسول الله، إنك لتكثر من هذا الدعاء! قال: «يا أنس، إن رحمة الله لا تفارقهم طرفة عين.»
1
وخير - عليه الصلاة والسلام - أن يكون له مثل أحد
2
ذهبا، فقال: «لا يا رب، أجوع يوما فأدعوك، وأشبع يوما فأحمدك.»
هوامش
صفحة من الغيب
لما أجمعت النية على طبع هذا الكتاب طبعته الأولى، رأيت فيما يرى النائم أني في دار الطبع التي اخترتها له، وقد سألني جامع الحروف أن أكتب المقدمة ليبدأ منها، فكتبتها ثمة ودفعتها إليه، ثم استيقظت وما برحت تدور على لساني، وتالله إن خرمت
1
منها حرفا؛ وهذه هي بنصها وكأنها فاتحة الكتاب من قلم الغيب:
Bog aan la aqoon
هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكينا لا يقرؤه؛ لأنه لا يفهمه،
2
ومن كان مسكينا فحسبي به قارئا والسلام.
الرافعي
هوامش
صفحة من الحكمة
قال الفيلسوف ديوجينيس الكلبي - وهو ذاك الذي رآه الإسكندر الأكبر فقال فيه: «لو لم أكن الإسكندر، لوددت أن أكون ديوجينيس.»:
ينبغي أن تقدر ثروة الإنسان لا بأمواله ومستغلاته؛ بل بعدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش غير محتاج إليها.
1
هوامش
Bog aan la aqoon
مقدمة الطبعة الثانية
وضعت هذا الكتاب من إحدى عشرة سنة،
1
ولو استوى له أحد عشر قرنا، ثم كتبت له يومئذ مقدمة، لكان هو هو كما أصفه اليوم، كتاب ليس له قبل وليس له بعد؛ فهو دائر مع النهار والليل على معنى آخره في الإنسانية أوله، معنى إذا قلت فيه إنه يجيء مع كل مولود، فقد قلت إنه لا يموت مع أحد من الموتى.
ستقرأ في الكتاب وصف «الشيخ علي» الذي أسندت إليه الكلام، وجعلته فيما أستوحيه كالخيط من شعاع السماء تهبط عليه تلك المعاني التي خلد عليها جمال الخلد؛ «فالشيخ علي» هذا هو رمز في كل دهر لثبات الجوهر الإنساني على تحول الأزمنة في أشكالها المختلفة؛ ومن ثم تعيش مع الإنسانية معاني هذا الكتاب، فهو من روحها صورة وحلية وجاذبية. ومن عجيب الحكمة أنه ما من نبي أو حكيم أو شاعر يترجم إلى لسان الحياة ما هو أسمى من الحياة، إلا استمد ذلك من مساكين الحياة خاصة؛ هم أبدا السحابة المستوية المخيلة لمطر العواطف
2
على جدب الروح الإنسانية في الأرض، ولعلهم لذلك يتراكمون في الحياة من سواد كالغمائم، ويتشققون من نار كالبروق، ويجلجلون برعود يئنون فيها، ويتبجسون بمطر يبكون به.
3
وأعجب من ذلك أنك لا تجد من شيء يحدث من ذي نفسه مثل هذا الأثر،
4
Bog aan la aqoon
إلا أجمل الجمال في أقوى الحب، فكأن أعظم البؤس وأعظم الجمال صورتان لحكمة إلهية واحدة وإن اختلف منظر ومنظر، والسماء تغبر بلون التراب في رأي العين حين لا تحمل إلا ماء المزن الصافي. •••
يزعمون أننا في عصر العلم وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية، مع أنه لا حل لمشكلتها إلا به. إن مسألة الغنى والفقر وما كان من بابهما لا يحلها العلم ولا القانون؛ إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما دام فوق الإنسانية من السماء قوة لا تحد، وتحت الإنسانية من القبر هوة لا تسد، فلا نظام إلا على تصريف النفس أمرا ونهيا، وتأويل الحياة معنى وغاية، فإن لم يكن الشأن في ذلك مقررا في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورة بما في باطنها، ولن يبرح الناس على ذلك بعضهم من بعض كالهارب منه وهو مضطر إليه، أو كالمضطر إليه وهو هارب منه، وكل من كل في معنى من معاني النفس لا إنسانية فيه.
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدي الحياة هذه العضلة البخارية، وذلك العصب الكهربائي، فمن لم يستطع أن يتوقى ضربة الحياة المدنية بعدة من قوة وعتاد من المال، طاحت به فدكته دك الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبة من الرحى الدائرة، فما بينه وبين أن ينهار موضع يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن؛ إذ يعطف على الضعفاء، أو يسعد أو يبر بما كتب عليه أن يرق لهم من ذات نفسه ويتحنى ويتوجع.
ومتى كان العلم والدين يقومان جميعا على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها، لم تجر الإنسانية إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلى بها العلم وحده، فلن تجري أبدا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
لن يفلح الإنسان للحياة الطيبة - ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير - إلا إذا وازن بين بيئته التي هو يوجهها وبين طباعه التي هي توجهه؛ فقيد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من قيودها، وجمع في متبوأ نفسه حدا بحرية ودينا بعلم. بيد أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مرد على طباع
5
الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين، فإذا هو يزين الشهوات، وإذا الشهوات تطوع المغامرة، وإذا المغامرة تجلب المنازعة، وإذا المنازعة تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرف بالحيلة، وإذا الحيلة تهلك التقوى؛ وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثير الإنساني الذي تعيش فيه الروح؛ وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدر إلى السقوط، مقبل على المحق، راجع إلى الحيوانية بأكثر مما يحتمل تركيبه منها؛ أولا يرى الناس أن تفوق أمة على أمة لم يعد في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكلها!
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسان آلة من آلاته التي غمر بها الدنيا، فأصبح من لا إيمان له يتعسف خسائسه
6
لا يدري أين يؤم منها؟ وأين يقف؟ فلا يتسفل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكن بقوة آلة من الآلات الكبرى ودقتها وسرعتها وإتقانها ... حتى لا رذيلة من رذائل هذه المدنية إلا هي مفننة في تركيب على نسق الأمور المخترعة، وكأن الآلات العمياء ما زادت إنسانها شيئا إلا أن قالت له كن أعمى! وكأن المدنية الملحدة ما عدت أن جعلت الوحشية تعمل أعمالها الفظيعة بتأنق وتمدن!
Bog aan la aqoon
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تموج بأسباب الفضائل
7
لا تحكمها ولا تضبطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى،
8
ولا كانت هذه التقوى إلا عملا من أعمال الإرادة، غايته إيجاد الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزة العملية في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه.
أظهر آثار الإيمان
9
تحديد الغايات الإنسانية وتنسيقها والملاءمة بينها، فإن إطلاق الغاية لكل إنسان على شأنه وسبيله كيف درت معيشته
10
وكيف دارت أهواؤه؛ يجعل طرق الناس متداخلة متعادية فيقطع بعضها على بعض، ويقوم سبيل في وجه سبيل، فلا تحل عقدة إلا من حيث تقرض أختها، ولا يتخلص خيط من خيوط اللذات الملتبسة المتشابكة إلا قاطعا متقطعا معا، وأنت إذا بحثت عن الوحدة التي تحاول ضم الإنسانية المتنافرة وردها إلى مرجع واحد، لم تجدها في غير إيمان المؤمنين؛ فهو أبدا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارة بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائل في كل مجتمع بين أن تنقلب أسباب السمو العقلي فتعود من أسباب الدناءة والخسة.
Bog aan la aqoon
وإنما محل الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممن تحكمهم! فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات، كأمن الناس ونظامهم وحريتهم وسعادتهم، هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع؛ رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغني كبير غناء في الخير والشر؛ إذ يحتاج الخير أبدا إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبدا على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتياله عليها شر مثله؛ فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الرأسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه؛ لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيدا أشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائما في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائما عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضا معنى بلا معنى؛ وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبني بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جدارا يعطف نفسا على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة؛ ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه.
فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة سلبية من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخا فيه، كما تقول للص : إنك لتسرق وستصبح غنيا تمر يدك في الذهب، تنفق وتستمتع على ما تشتهي ... فما يراك قلت له: لا تكن لصا وتعفف. بل قلت له: كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما نرى لعهدنا في الأمم التي فشا الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه، والله لكأن المسكين في هذه المدنية هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له: ما أنا إلا لؤمك أنت!
إن من الشجر شجرة تنبت في القفر تعتصر ماءها من بين رمل وحجر، وتمتص غذاءها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره
11
إلا شوك شوك؛ فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء
12
وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض
13
فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحد، وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن!
Bog aan la aqoon
ترى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدر من عصر عقله إلى عصر معدته، ثم إلى
14 ...؟
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شبه الفقر، ومساكين مؤمنون لهم من كرم الصبر شبه الغنى، فهل تنقلب المدنية من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحم الحي، وأخرى لا تخلق له إلا الظفر الحي ...؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة؛ أفتراه يجيء يوم على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يعيد إلى الأرض إنسانها الأول الكريم؟
مصطفى صادق الرافعي
هوامش
مقدمة الطبعة الأولى
هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة؛ فقد والله بليت أثواب هذا الفقر، وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة
1
يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها
Bog aan la aqoon
2
بخيوط من الدمع ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم، وأقبح من الفقر أن لا يظهر الفقر كاسيا أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى
3
الأولين.
وأنت فربما رأيت الرجل من الناس وبه من جمال الدنيا مسحة الدينار، وعليه من نضرة هذه الحياة ألوان الجنة والنار،
4
وما تشك في أنه واسع البسطة، عريض النعمة، طيب المكسبة، وهو على ذلك رقعة خلق
5
في أذيال الفقر يجررها على أقذار الحياة وأدناسها، ولو نطق له الغنى لقال: دعني، فما كل ذي متربة فقير، ولا كل ذي مثراة غني.
6
Bog aan la aqoon
والفضائل قائمة في الدنيا بالصغار والفقراء، ولكن من نكد الدنيا أن عنوانها هم الكبراء وحدهم؛ على أن أكثر هؤلاء لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقة المنحطة انحطاطا عاليا. فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر؛ إذ حاصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت، وضيقوا من حدوده السماوية وقد تراحبت،
7
وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون، ولا سبيل إلى التنقيح والتحرير في أساليب الله نصرفها عن معانيها، أو نتكذب في تأويلها، أو نرد عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نحسن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار ما نستبين فيها من الحكمة؛ فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة إلا من أفهامنا، حتى إن الأدمغة لتعد من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت العلة الكبرى في طائفة من الطوائف صورة أثرية لأكبر رأس فيها.
فإن نحن أسأنا الفهم، أو ذهبنا به المذاهب، أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيرنا أو بدلنا؛ فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطراب، ولا تلحق به آفة في وضع من أوضاعه، وإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وما دام في هذه الدنيا شيء من المادة أو المعاني يحتاج إليه، أو يتوهم أحد أنه محتاج إليه؛ ففي الدنيا الفقر.
وما دام للناس رغبة يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة؛ فثم الحسد.
وما دام في الغيب أيام وآمال، وفي الدنيا فقر وحسد؛ فهناك الطمع.
وما دام لهؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الضن به، أو يكون سبيله من الطبيعة أن يضن به؛ وفيهم الفقر والحسد والطمع؛ فثم خبء السوء والرذيلة الماحقة، وثم البخل، وإن البخل وحده لفي حاجة إلى نبي يصلحه!
هذه أخلاق أعرقت فيها الإنسانية، ولا بد منها ومن فروعها حتى يظل الناس ناسا لا ملائكة ولا شياطين؛ فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاح للعالم إلا بالفساد الذي فيه.
بيد أن في كل شر جهة من الخير أو جهة تتصل بالخير، فإذا صلح فهمه صلح هو أيضا، أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حد الشر الطبيعي، وهو الشر الذي لا بد منه.
Bog aan la aqoon
فليكن الفقر والحسد والطمع والبخل، ولكن برضا يمنع السخط، وسكون يكسر شرة النفس، ورفق لا يعنف على الحق، واعتدال يقر كل شيء على حده؛
8
يومئذ يجد الإنسان في كل نزوة من نزوات جنونه شيئا من الحكمة، أو على الأقل شيئا يمكن من بعض الوجوه أن يسمى في باب المنفعة الإنسانية حكمة. •••
ولقد كان الفقر عريانا يوم كان آدم في الأرض وليس عليه إلا ما خصف من ورق الجنة،
9
وعاش دهرا تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب، ويمرح في ثياب بيضاء من أشعة القمرين؛ إذ لم يكن يعرفه أحد بعد، ولا استطار به سماع السوء
10
في الأحياء، بل كان عنصرا مجهولا في غيث الطبيعة، ولم يكن لهذا الإنسان يومئذ من المعاني الفقرية ... غير شعور طبيعي لا زيغ في تأويله عن الطبيعة، وهو شعور المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعر والخيال وفنون الكذب العقلي، ولا تشعر إلا لتطلب، ولا تطلب إلا ما تجد، ومتى وجدت وانطفأ نهمها
11
فليس إلا قوة الجسم وانبساط النفس وحمد الله في كل ضرب من ضروب الجمال في الخليقة.
Bog aan la aqoon
ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض؛ فكان البغض أول سطورها، وجاء من بعده الفقر، وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين؛ يومئذ عرف هذا الفقر، وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه؛ إذ لم تعد الحياة هي الحياة، بل الوسائل التي يدفع بها الموت، ومنها الموت نفسه؛ فصار البغض وسيلة، والحسد وسيلة، والطمع وسيلة، والقتل وسيلة، وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر، وما البغض إلا فقر من المحبة، ولا الحسد إلا فقر من الثقة، ولا الطمع إلا فقر من العقل.
وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطباع الإنسانية؛ إذ يحاول كل امرئ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة، حتى لا يكون هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته، وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها؛ فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيا الناس وعليها يموتون، ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال، ثم وجد المال فما منع أن يلقى أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأساء الحياة ما لو استطاعوا لافتدوا من عذابه بكل ما في أيديهم، ولو أن لهم طلاع الأرض
12
ذهبا، ووجد المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها.
13
دخل بعض الفقراء
14
على الرشيد العباسي وتاجه يومئذ سبيكة العصر الذهبي في تاريخ الإسلام، والإسلام يومئذ ترتجف به دفتا الشرق والغرب، وكأن الشمس والقمر يتلألآن على أرجاء ملكه ذهبا وفضة،
15
وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه، فلما أبصر ذلك الملك الذي لا يملكه شيء، أمسك ثم قال له: عظني. قال: أرأيت يا أمير المؤمنين، لو منعت عنك هذه الشربة التي في يدك، أفكنت تطلبها بكل ملكك؟ قال: نعم. قال : أفرأيت لو شربتها ثم امتنع خروجها منك، أكنت تفتدي من عاقبة ذلك بكل ملكك؟ قال: نعم. قال الرجل الصالح: فانظر يا أمير المؤمنين، ما قيمة ملك لا يساوي عند قدر الله شربة ولا ... ولا بولة ...!
Bog aan la aqoon
كذلك يحاول الناس أن لا يخطئوا الرأي فيما يستحبونه أو يطمئنون به، وكأنهم لذلك يحاولون أن لا يصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه؛ فكلهم سواء في ابتغاء السعادة المتوهمة التي لا يستحيل أن تتفق، ولكنها مع ذلك لا تتفق؛ إذ يريدها كل امرئ على غير ما يناسب تكوينه الإنساني ... وهم بعد على سواء من خشية الفقر، كأن فقرهم بين أعينهم، فلا تبرح أوهامهم تنتجي
16
بمعانيه وهمومه، ثم لا تبرح تنمى بها حتى صار الفقر في أنفسهم غير الفقر في نفسه، وقد علم الله أنه ما من إنسان إلا وفي تكوينه معان كثيرة منه. على أن السعادة الممكنة أو التي يمكن أن تسمى سعادة، إنما يكون زمامها الحس؛ إذ هو الوسيلة لإدراك الجمال وتعرف المواضع المعنوية في المادة، والاهتداء في صنع الله إلى أسرار الحكمة، وليس من لذة يصيبها الإنسان فيسميها لذة ألا وهي شيء معنوي يجيء من طريق الحس، فيشعر هذا الإنسان أن فيه معنى لم يكن فيه، وكأن اتصال شيء من سر النفس أو قدرتها، بشيء من سر الطبيعة أو قدرتها، هو السعادة.
غير أن العجيب الذي ما يقضى منه عجبا أن ذلك الحس كلما نضج واستمر
17
كان أشد إدراكا للآلام منه للذات؛ حتى إن الرجل الرقيق ليتألم للناس أكثر مما يتألم لنفسه؛ فهل ذلك ألا أن حكمة الله قد أقرت في تركيب الإنسان من عناصر الفقر أكثر مما وضعت فيه من عناصر الغنى؟
وما أشبه نفوس الناس في هذه الحياة بالزجاج سلط عليه نور الشمس؛ فما كان من طبعه رديئا غير مصقول، أو مهملا قد شاع فيه الصدأ، فذلك متى ألحت عليه وقدة الجو حمي وتضرم في ذات نفسه ؛ وما كان من طبعه صافي الماء بادي الرونق نقي الصفحة، رأيته في توقده واضطرامه كأنما يمج من شعاع الشمس لهبا يتطاير؛ فإن كانت الزجاجة قد أخلصت في سبكها، وصنعت على الوجه الذي يجمع الضوء ويعكس منه، وأحكمت من هذه الناحية؛ فهناك تبلغ من دقة الحس مبلغ الأنفس الرقيقة المهذبة، فلا تكاد ترسل عليها الشمس من نورها حتى يرجع فيها نارا تلظى.
ومتي اعتبرنا الشقاء الإنساني وما يعترض الإنسان في طريق الحياة، رأينا الحق الذي لا مرية فيه أن هذا الإنسان حين تمشي راحلته إلى القبر
18
لا يكون قد انتهى من الحياة كما يقال، ولكنه ينتهى حينئذ من الموت.
Bog aan la aqoon
فهذا التركيب الإنساني المعجز بقليله وكثيره وجملته على السوية، والذي استشرف منه العقل لأسرار هذا العالم كما توجه مرآة المرصد إلى السماء؛ لم يشهده عصر من عصور الدنيا قط إلا ذاهبا إلى الفناء بما كسب وما اكتسب، حتى ليمكن أن يقال: إن حياة الحي مصيبة تكبر كلما كبر. فكيف لعمري يحتمل هذا التركيب الهالك أن يسعد إلا بمقدار ما يدني إلى الفهم معنى السعادة الأبدية التي ليست من هذا العالم، كما تريد أن تفهم الطفل شيئا في نفسك فيراه معنى متمردا عاتيا، فلا تزال أنت تصغر منه وتمسخه وتحيله عن وضعه وتقلبه على وجوه مختلفة، إلى أن توافق صورة من هذه الصور فهمه الصغير الضعيف المتحامل على نفسه، فيدرك الوجه الذي أردت على الوجه الذي يريد هو، ويعلم ما ترمي اليه على الطريقة التي لا تعلمها أنت.
ولعل هذا هو السبب في أن الفطرة الإنسانية لا تزال من أول الدهر ضالة في طلب السعادة، تسترحل
19
إليها كل معنى، ثم لا تصل إليها بمعنى؛ فإن السعادة الدنيوية في التركيب الإنساني إنما هي بمقدار لغوي أو ما يشبه المقدار اللغوي لا غير.
20
وإذا نحن اعتبرنا هذا الوجود الفاني بما وراءه من عالم الغيب، رأينا كل صنف من الموجودات كأنه لغة متميزة بخصائصها، أوجدها الله في هذه الحياة لتدل عليه سبحانه بنوع من الدلالة أو ضرب من المجاز، فأينما مد الإنسان عينيه رأى لفظا كالإشارة أو إشارة كاللفظ .
ولكن قتل الإنسان ما أكفره! فإن ما لا يريد أن يفهمه ليذكره ويتذكر به أكثر مما فهمه لينساه، ولقد رأى أن ما فوق الأرض وما تحت السماء لا يدله بإشارة واحدة على أنه خالد في هذه الحياة الدنيا.
بيد أن الإنسان كما يكذب في الكلام يكذب في الفهم، فهو أبدا يحتاج - لشقوته - من هذه الطبيعة إلى أشياء تضل عواطفه، كما يحتاج إلى أشياء تهديها، ومن ههنا اقتحمت أهواؤه ونزغاته على الطبيعة وعلى الشرائع والأديان، والتبست في رأيه معاني الأشياء التي تتصل بنفسه؛ فظهر من الغنى ما يشبه الفقر، ومن الفقر ما يشبه الغنى، وصارت الحياة كلها جهادا وشقاء ونصبا؛ لأن المشكل فيها أكثر من الواضح، ولأن الطريقة التي يتبعها الإنسان الراقي في حل هذه المشكلات التي تعترض مطامعه وأغراضه، هي أن يحل مسألة بوضع مسألة مثلها؛ ذلك لأنه لا يهتدي إلى الكمال في شيء، وهو ناقص ولا يذعن أنه ناقص؛ وإلا فما باله يرى الحكمة الأزلية قد جعلت قوام صحته على القليل من الطعام دون الكثير، وعلى الخفيف دون الثقيل، وعلى الرخيص دون الغالي، وعلى الطعام كما يفيد دون الطعام كما يريد، ثم هو يأبى إلا أن يعد هذه الصفات وأشباهها في باب القلة من الفقر، ويعتبر نقائضها وما جرى مجراها في باب الكثرة من الغنى، ثم يضرب الله على بصره ويطبع على قلبه، فلا يرى لحاجته في الغنى من بلاغ وسبب إلا أن يكون المبالغة في الادخار، والإغراق في الجمع، والطماح كل مطمح، وأن يستأكل الناس فيكون عليهم أكلب
21
من الجوع، ويستصفيهم فيكون فيهم أسرع من المرض، ويستزلهم فيكون معهم أشبه بالرذيلة؛ ونحن نعرف الكد والحرص والبخل والشره والضراوة وكل الرذائل الاجتماعية، ونصفها ونحدها بآثارها وحقائقها، وكأننا لا نعرف أن كل رذيلة هي إنسان من الناس.
Bog aan la aqoon