ودعني أحدثك عن الحياة بما أفهمه - أنا الرجل الطبيعي - من فلق الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره؛ وبما أعرفه من هذه اللغة التي تنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدر حين يجيب؛ وبما أستوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها جوارح الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرضي الذي يريد أن ينتهي، ولغة الخلود السماوي الذي يريد أن لا يفنى؛ فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو الذي جعلها كما يقول الناس سوداء.
ولا يكفي أن يعلم الرجل كيف يسوق المقدمات، وكيف يحسن القياس، وكيف يخرج معنى من معنى؛ حتى تكون النتيجة على ما توهم، والحقيقة على ما يقيس، والصواب كما يستخرج. وفي علم الحياة خاصة - وهو العلم الذي لا مادة له إلا من الحوادث - أن بناء من المنطق لا يتخذه بيتا إلا ساكن من الخيالات!
لست أعرف الناس قد غالوا بشيء قط مغالاتهم في قيمة هذه الحياة، فقد والله استجمعوا لها كل ما في الرغبة من الحرص، وكل ما في الخوف من الحذر، وكل ما في الأمل من الترقب، وكل ما في الحب من الخيال؛ واستجمعوا فوق ذلك تلك المعاني التي لا قرار لها في الأرض ولا في السماء، معاني النظرات الوهمية التي يرسلها المخلوق من أرضه إلى عرش الله، كأنه لا يجرؤ على أن يشك في نهاية الحياة إذ هي تنتهي على أعين الناس، ولا أن يجزم بهذه النهاية إذ هو لا يريد الموت، وكأن الحياة لا تكفيه.
وما دام للحياة غد يرتقب وهو الذي يسمونه المستقبل، فكل وهم يسهل على الحقيقة أن تهلكه أو تمرضه أو تضعف منه، إلا تلك المغالاة الممقوتة، فإنها أبدا في خصب وعافية ما بقي لها غذاء من ذلك المستقبل المحجوب.
قال «الشيخ علي»: وأنت إذا سألت رجلا عن مسألة، فسدد الجواب وأحكم الصواب، قلت: هذا جواب يحسن السكوت عليه. ولكنك إذا سألتني أنا ما هي الحياة كما يفهم الناس؟ قلت لك: هذا سؤال يحسن السكوت عليه! لأن اللغة هي هي التي أسمتها «الحياة» واستخرجت لهذا الاسم العذب معانيه من أوهام الأحياء، وكم فيما وراء السماء من معاني تملأ الأبد، ولعلها لا تملأ سطرا أو سطرين في معاجم اللغة!
ولكن دع هذا وسلني ما هو الزمن الذي يقضيه الإنسان من يوم يولد، فلا يقدر أن يرفض هذه الدنيا إلى يوم يموت، فلا تستطيع هذه الدنيا إلا أن ترفضه؟ وما هو هذا المهد الذي يكبر شيئا فشيئا حتى يصير في الآخر قبرا؟ وما هو هذا العمر الذي يمتلئ قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفراغ فيغيب فيه؟ وما هي هذه الحوادث التي تزلزل الناس
2
في طريق القدر حتى يخروا على وجوههم فتتحول أجسامهم في الأرض إلى تراب في طريق المنفعة، ويتحول تاريخهم ترابا على طريق الموعظة؟
سلني كذلك يا بني أجبك: هذا الفناء المحتوم، وهذا الشقاء المقضي، وهذا الأمل الباطل، وهذا النصب الضائع، وهذا العمل الذي لا يراد لنفسه ولكن لما بعده؛ كل ذلك هو الحياة، أفلا ترانا نخادع أنفسنا إذا سألنا عن الحقيقة التي يسوءنا أن نعرفها، فنحرف السؤال إلى جهة بعيدة لكيلا نرى الجواب الصحيح مقبلا علينا، ولكن مدبرا عنا؟
فما عسى أن تكون هذه الآمال، وهذه المنافسات، وهذا النزاع، وهذا الصراع، وهذه الأفراح، وهذه الأتراح، وكل ما إلى ذلك مما هو من مدلول الحياة؛ إلا باطلا نستمتع به قليلا، ثم يظهر أنه متاع الغرور؟
Bog aan la aqoon