وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض، فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع؛ فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ولقد تكون المصيبة جنونا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تر ملجأ من الله إلا إليه، فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة، ومسحت من وعيها فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جنت؟ «مسكينة مسكينة»! «مسكينة مسكينة»!
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم، فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب «مسكينة مسكينة»! ثم مرت أيام وبنتها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية تتخايل الموت فيها لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: آه يا ابنتي! «مسكينة مسكينة»! •••
قال «الشيخ علي»: وضرب الدهر من ضرباته، وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملا، فتردم جانب من حالها؛ وبينا هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته؛ فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها!
فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزنا، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! «مسكينة مسكينة »! ...
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذبه بمعانيها، ويا رب كلمة ملفوظة وفيها لله كلمة غير ملفوظة! •••
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
هوامش
الفصل الخامس
لؤم المال ووهم التعاسة
قال «الشيخ علي»: وأنت يا بني، ما إن تزال تصف الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر، ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود، ولا من صدور أهل الدم
Bog aan la aqoon