1 ...؟
من هو الذي يجف ريق الأرض لو جف عرقه من ترك العمل، ويخيب أمله مع ذلك في كل غني وهو نفسه للأغنياء أكبر أسباب الأمل، يدلون عليه بالغنى ولولا أن في فضتهم عنصرا من دمعه القيم لما وجدوا لها قيمة، ولو لم يكن في ذهبهم روح من دمه الكريم لما عد أفضل المعادن الكريمة؟
قال «الشيخ علي»: ذلك يا بني هو المدرج في أكفان النسيان، الذي ليس له في الناس إلا «منكر ونكير»، ذلك هو البائس في بني الإنسان، الذي يكثر عليه القليل ويقل منه الكثير، ذلك هو المتناقض في نفسه حتى لا يصغر أن يقال فيه صغير، ولا يكبر أن يقال فيه كبير، ذلك هو الذي يشبه أن يكون عمله حركة فلكية في الأرض لآلة الغنى؛ ذلك كله هو الفقير!
ويا لله! ما تحمل الأرض إنسانا واحدا لا يخشى عادية الفقر، ولا يتعوذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير بين حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تئويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل من يمر به فلا يسمع إلا قائلا يقول: نفسي نفسي ... فينظر فإذا هو في الناس ضائع حتى لا يعرف له محلا، ومنفرد حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزلة تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزع الرعد القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا من يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير - ويا لهف أرضي وسمائي عليه! - كأنه مسألة في حساب الناس لا هم لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب، ثم الغلط في النتيجة. وتنحاز طبائع الناس كلها في جهة والفقر وحده في جهة، حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو، واستبداد الغني.
ترى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيا بحتا: لي عليك ولك علي وليس لله علينا شيء؛ وفصلنا أنفسنا من السماء، وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها، فرثت ثم رثت، فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمال البالية؟
إن هذه الحقوق متى أصبحت إنسانية محضة ليس فيها لله شيء، فكل درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيها عقلا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقر في معدته يخلق فيها ضميرا يستبد بضميره؛ فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغنى، وحسبه يومئذ في اعتباره بعيدا جدا عن الله ورحمته أن يقال: إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار ؛ ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قسمه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
والأدلة على هذه القضية - قضية الحقوق الإنسانية - كثيرة تفوت الحصر؛ لأن كل صاحب ربا قد جمع ماله من السحت ومن استئكل الناس، إنما هو في نفسه دليل عليها، ولعمري إنه ليس أحد أخيب رجاء ولا أحق بأن يخيب ممن يسأل المتهالك على الربا - الذي يستنبت دراهمه بين الأحزان والدموع - إحسانا لوجه الله؛ فإن هذا الذي لا يعرف الله فيما يأخذ، كيف يعرف الله فيما يعطي؟
2
قال «الشيخ علي»: ولماذا نرى يا بني جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط، ولا يخشون منه على الفقير؟
Bog aan la aqoon