ولقد كانت الأمم القديمة كلها تتوسل إلى الغيب المجهول بوسائل غريبة من الطلاسم والتمائم والتعاويذ ونحوها من الأعمال والعادات المأثورة في تاريخ كل أمة؛ لأن ذلك المعنى بعينه قد ارتقى مع العقل واشتد مع الإنسان، فخرج من مخافة الطبيعة إلى الرغبة في إخافتها، حتى تنزل على حكم الإنسان في اجتلاب الخير ودفع الشر. والزمن لا يأتي على الغرائز فيمحوها، ولكنه يحول منها شيئا ويهذب منها شيئا؛ ومن هنا كانت كلمة «الحظ» فاشية في المتمدنين؛ لأنها آخر صورة مهذبة من تلك الغريزة الأولى!
أما إن في حوادث القدر أشياء لا نفهم وجه الحكمة فيها، وهي الحظوظ والأقسام؛ فذلك صحيح في نفسه بمقدار ما هو خطأ في أنفسنا، والشذوذ فيما يقع من حوادث الدنيا وفيما نشهد من تصاريف القدر أمر معلوم، ولكن لماذا لا يكون قاعدة لأشياء نجهلها ما دمنا نجهل الغيب كله ولا نعرف منه شيئا؟
ما رأينا قط في تركيب هذا الكون المعجز شيئا خارجا عن موضعه، ولا شيئا زائدا في موضعه، فلم نظن مثل ذلك في الجهة التي تتصل بنا من حكمة الله، جهة السعد والنحس؟
يا بني، إنما قربت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إليه، وإنما بعدت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إلى غيره، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، فربما سعى المرء بكل سبب فلم يفلح، ثم يقع له سبب لم يمتهد له وسيلة قط فإذا هو عند بغيته، وإذا هو قد ملأ يديه مما كان قد يئس منه، فلا يكون عجبه كيف خاب في الأولى بأشد من عجبه كيف نجح في الثانية!
وهذا هو مظهر إرادة الله، فإن صادف من بعض النفوس الضعيفة حسدا أو غيظا أو سخطا أو منافسة أو نحو ذلك مما يكون مظهرا لضعف الإيمان في النفس، تحول المعنى إلى لفظ يحمل كل هذه العواطف الوحشية، فلبس الكلمة التي تسلب الإنسان قوة نفسه، وتكاد في إبهامها تسلب الأقدار قوة الحكمة أيضا، وهي كلمة «الحظ»؛ ألا ترى أن أحدا من الناس لا يتعلل بهذه الكلمة ولا يحتج بها ولا يسكن إليها إلا من غيظ أو سخط أو حسد أو عجز، أو ما هو بسبيل من هذه المعاني؟
قال «الشيخ علي»: فلم يبق من معنى «الحظ» إلا أن يقال: ولم وفق فلان، ولم خذل الآخر وما هو بدونه، وربما كان أحق منه، وربما كانت المنفعة به أكثر والنعمة عليه أظهر؟ ولم كان ذلك سعيدا، وبأي شيء صار سعيدا، وهذا شقيا؟ وبأي شيء عاد شقيا؟ إلى نسق طويل من هذه المسائل التي لا تجيب عليها السماء، ولا تكف عنها الأرض أبدا.
ولكن يا هذا لم تخفي أنت وحشيتك المهذبة وتكاتم الغيظ والسخط والحسد، ثم تحتال على أن تخرج هذه المعاني الخشنة في ألفاظ لينة، وأن تعترض على القدر في أسلوب من التسليم والرضا، وتطرح بينك وبين الله لفظة إن لم يكن معناها مخاصمة القضاء فمحاسبته، وإلا فمعتبة عليه!
وهل تعلم أنت ما هي شعوب الحوادث وفنونها، وما الذي سيفعله المجدود
10
حين تقبل عليه الدنيا، والمحروم حين تدبر عنه النعمة، وماذا يكون مما يترتب على الحرمان أو ينشأ عن الحظ، وهل تدري لم أساء بعض الأغنياء حمل الغنى دون البعض، ولم أحسن بعض الفقراء حمل الفاقة دون البعض، ولم ابتليت طائفة بالتمني وابتليت غيرها بالضجر مما تتمناه الأولى، وحبب إلى تلك ما بغض إلى هذه؛ ولم انتزعت نعمة بعد أن استمكن حبلها، وأقبلت الأخرى بعد أن استيأس أهلها؟
Bog aan la aqoon