Khulasa Yawmiyya Wa Shudhur
خلاصة اليومية والشذور
Noocyada
بيد أنني في صحبتي له كنت لا أستطيع ساعة أن أفكر بأنني أصاحب إنسانا له علي مثل الذي لي عليه، وكنت أحمل نفسي على أن تصدق أنه من البشر كما تراه عيني فلا تذعن، وكيف وهي لا تحس بأدنى اختلاف بين ملاطفتي إياه وملاطفتي الكلب أو القرد الأليف ليأنس بي ولا ينفر مني، ولقد ضل - والله - من يتألف الكلاب والقردة ويلهو برؤية الحيوانات العجيبة وعنده البخلاء يضمهم وإياه جنس واحد ومدينة واحدة فلا يتألفهم ولا يخف إلى رؤيتهم، أليس لو جاءك رجل فأخبرك بأن في مدينة كذا دابة تموت من الطوى وبين يديها الطعام الفاخر، ويفرش لها المهاد الوثير فتجفوه إلى الأرض الخشنة، وتطلق في الفضاء الفسيح فتزمجر وتئن، وتسجن في قفص الضيق فتطرب وتطمئن، وقيل لك: إن هذه الدابة منفردة بهذه الأطوار بين بنات جنسها، أما كنت تبادر إلى تلك المدينة أو تتمنى أن تساق إليك تلك الدابة؟ فالبخيل هو تلك الدابة الغريبة في تكوينها، الشاذة في أطوارها، التي تعد من الناس وليست منهم، وتجانسهم في الصورة والقوام ولا تشاكلهم.
إن الناس يعرفون البخل بأنه الحب المفرط للمال، وهذا تعريف ناقص من جميع أطرافه، وهل العلاقة بين البخل والمال إلا كالعلاقة السطحية بين العلم والأوراق، وبين الشجاعة والسيف، وبين الزمن والساعات؟ وقد وجد البخل قبل أن تحتجن الأموال وتسك النقود كما سلف العلم قبل أن تصنع الأوراق وتقدمت الشجاعة قبل أن تطبع السيوف، ودار الفلك قبل أن تخترع الساعات، ولو أصبحت الدنيا قد انقرضت منها الأموال وفني من أيدي الناس الذهب والفضة لما قضى ذلك بفناء البخل من قلوب البخلاء؛ لما قدمنا من أن البخل شيء بمعزل عن المال.
وإنما البخل عاهة تحجب الفكر وتفسد الطبع وتفرد المرء عن الفطرة العامة بين بني جنسه بفطرة منكوسة عوجاء وتذره خلقا عجيبا، كل حظه من الحياة أن يحرم نفسه حظوظ الحياة، يستغرق الوسع في طلب الوسيلة، ثم لا هو يقنع بالوسيلة ولا هو يطلب بها الغاية، وليس البخل عاهة واحدة بل هو جملة عاهات ممثلة في هذه العاهة؛ فهو مزيج من الجبن الدنيء الذي يصور للمرء الخطر المستحيل كأنه قضاء حتم لا مرد له، ومن الخسة التي يتساوى عند صاحبها الفخر والعيب، وتلحق عنده مراغة الهوان بمقام السؤدد، ومن البلادة التي تميت فيه كل أريحية فلا تهتز في نفسه أمنية أو عاطفة تقوى على كسر قيود شحه وجبنه، وقد ظهرت هذه الخلال للناس قبل أن يتمدينوا بآلاف السنين ومقتوها فمقتوا البخل متفرقا قبل أن يمقتوه مجتمعا، وغاية الفرق بيننا وبينهم أنهم كانوا يستضعفون من تكون فيه خلة من هذه الخلال فينبذونه عنهم ويهضمون حقه ويدوسون حرمته، ولربما طلوا دمه وتبرأ منه ولاة ثأره، وأما في مدنيتنا هذه التي وضعت سنة المال موضع سنة الحياة، فقد صار البخيل فيها يحل ويبرم، ويؤخر ويقدم، ويحلل ويحرم، ويستشفع إليها بيد فيها المال ويد فيها جبنه وخسته وبلادته فتقبل منه هذه لتلك، وإنها لعمري لمن الخصال التي انحطت بها المدنية عن الهمجية - وما هي بالقليلة، فكم خصلة في المدنية يستحب المدني الهمجية لأجلها ويأنف الهمجي بحق أن يتصف بها!
اللغات والتعبير
لولا أن الناس من أصل واحد في الخلق، ومن لحمة قريبة في النسب، بحيث إن ما يعرو أحدهم يعروهم جميعا وما يصدق على جميعهم يصدق على كل واحد منهم، لما أجدت عنهم اللغات في كتابة أو كلام، وعقلت ألسنتهم عن كل فهم وإفهام.
ولو كان التقارب بينهم تاما، والشبه في السن والميل والسليقة محكما لما افتقروا إلى اللغة، ولكان يستشعر أحدهم في روعه ما يقوم في روع الآخر من غير حاجة إلى الشرح والبيان.
ولا ريب أن الناس يتفاهمون ببواطنهم أكثر مما يتفاهمون بظواهرهم، وإن لاح لنا أن الأمر خلاف ذلك لطول عهدنا باستخدام اللغة في الإعراب عن مرادنا، فما اللسان إلا موضح ومفسر لما عساه أن ينبهم على السامع من مجمل سر المتكلم ومما قد تحتويه أفكاره، ولا يمكن أن تعبر عنه تمام التعبير وجداناته، أما حالته النفسية فهي أفصح من أن يفصح عنها اللسان، بل أفصح من أن يخفيها إذا حاول إخفاءها.
وما كان الإنسان قبل آلاف الحقب هو بعد بهيم سارح في مراتع العجمة، يعول فيما يراه من رضى صاحبه أو غضبه، ومن صدقه أو مكره، ومن أمانته أو خيانته، إلا على ما يتفرس في أسارير وجهه وغمزات طرفه وحركات أعضائه، وكان إذا كلمه لم يكد يثق بكلامه ويأمن اغتياله أو يطابق مدلول أقواله ما وقر في قلبه من مغزى إشاراته ومعنى ملامحه، فهو يأتمن السليقة ويرتاب في اللسان، وهذا سبب إعجاب الناس بالأشعار والخطب والكتب التي مصدرها السليقة وامترائهم فيما تعبث به يد الصنعة؛ لأنهم يقرءون نتاج السليقة فينفذ إلى سلائقهم، ويصيب مواقعه منها ويحرك من القارئ مثلما حرك من نفس الشاعر أو الكاتب، فيعلمون أنه صدقهم وحسر لهم عن سريرته فيركنون إليه.
ويقرءون نتاج الصنعة فلا يجاوز ألسنتهم وكأنهم يقرءونه وهم ينظرون الشاعر أو الكاتب وهو يتعمد للظهور لهم بغير مظهره، ويتنقب لهم بنقاب يخفي وجهه أو يبديه في غير صورته، أو يرائيهم بتجميل هيئته وتدميم طلعته، فيخالجهم الشك فيه ويعرضون عنه، إلا إذا كان القارئ من الغرارة بحيث يصدق كل ما يقال أو من الجهل بحيث لا يميز بين السليقة والصنعة، فإنه يقبل حينئذ كل قول على علاته، فلا تمنعه المماذقة عن المصادقة، وتنكسر خزانة نفسه بمبرد اللص أسهل مما تنفتح لصاحب المال.
ولقد - والله - أحسن جولد سمث إذ يقول في إحدى رواياته: «لسنا نستعمل الكلام للإفصاح عن حاجاتنا بقدر ما نستعمله لمداراتها.» فقد طمس الكلام إلى اليوم من الحقائق أضعاف ما فند من الأكاذيب، وضلل من المهتدين أكثر مما هدى من الضالين، وإنك ربما تقترب من الرجل فتطلع من سيماه على ما يريبك فتتوجس منه، فإذا سألته وكان من ذوي اللباقة والبراعة في المراء والمخادعة لبس عليك الحقيقة وأزال الريب من نفسك، فينصحك لسان حاله، ويغشك لسان مقاله، وكان آمن لك لو أنك صدقته ساكتا ولم تصدقه ناطقا.
Bog aan la aqoon