Khulasa Yawmiyya Wa Shudhur
خلاصة اليومية والشذور
Noocyada
فإذا سقط الجنيه في ذلك الصندوق، لا، بل في تلك الحفرة، كانت تلك السقطة آخر عهده بالهواء والنور، وآخر عهده بالهبات والبيوع، وآخر عهده بالأنامل والكفوف، وهوى من ذلك الصندوق في منجم كالمنجم الذي كان فيه، وشتان المهد واللحد، ومات موتة لا تنشره منها إلا يد الوارث إن شاء الله، وقد فعل.
ولو أتيح لتلك الجنيهات أن تتحادث في ذلك السجن المطبق عن ماضيها كما يفعل السجناء؛ إذن لسمعت من أحاديثها العجب العجاب بين جنيه رحالة جواب، يتنقل بك من السويد إلى الكاب، وينبئك عن الأعاجم تارة وتارة عن الأعراب، وجنيه فرار غدار، ما سلم بالليل إلا ودع بالنهار، وجنيه نشأ في الحانات والمواخير، فاسترق رنته من رنات الكئوس والقوارير، وجنيه عاشر الأبرياء والجناة، ورافق النساك والغواة، وجاور المعوزين والسراة، ومر بالمساكين والعتاة، وطفر من الأصدقاء إلى الأصدقاء، ومن العداة إلى العداة، وكلها تشهد شهادة لا بهتان فيها أن مالكها الأخير أقدر من قنص الدينار، من الأبرار والفجار، وأخبر من صاد النضار، من الشطار والأحبار، وأول من راض هذا المعدن السيار على السكينة والقرار.
ولو أتيح لك أن تشهد ذلك البخيل وقد مثل عند صندوقه وألجأته الضرورة إلى الاستمداد منه - وناهيك بها من ضرورة - إذن لحسبت أنك تشهد في جنح الليل الأعكر سارقا ينبش القبور عن أكفانها، وقد تملكه الهلع من حراسها وسكانها، أو لحسبت أنك تشهد كاهنا متحنثا يقوم عند صندوق النذور يهم بأن يمد يده إليه فيتحرج من أن يستحل ودائعه لئلا يحل عليه قصاص الله ويحيق به غضبه، فإن ألحت عليه الحاجة أقسم أن لن ينام ولن يهدأ أو يرد إلى الصندوق ما استعاره منه، وقد لا تجد بين ألف كاهن كاهنا واحدا يقسم هذا القسم ويبر به، ولكنك لا تجد بين ألف بخيل بخيلا واحدا يحنث في هذه اليمين.
ففي وقفة من تلكم الوقفات اقترض البخيل من صندوقه جنيها، وآلى بالطلاق من عرسه ألا يدخل البيت إلا والجنيه معه، وذهب إلى السوق فكدح فيها ما كدح واحتال حتى استرجع الجنيه نصفا ذهبا والنصف الباقي قطعا فضية، وكانت تلك عادته إذا أبدل الفضة بالذهب؛ كي تكون كل قطعة صحيحة صماما حديديا يحبس فيها ما تحتويه من القطع الصغيرة أن تتناثر وتتسرب إلى إحداها نزغات الجود ووساوس النفس الأمارة بالجميل، والخبيث يسيء الظن بنفسه ويتهمها بالسخاء عن القليل الطفيف مداعبة لها وإدلالا عليها، وإلا فقد وثق وثوق المؤمن بإيمانه أنه لو انثالت عليه نقود المشرقين والمغربين دراهم ودوانق وسحاتيت لما سولت له نفسه أن ينفق سحتوتا منها في غير ما يدفع التلف جوعا والهلاك عريا، فما تمهل حين صار الجنيه في يده إلا ريث أن أهرع إلى الصيرفي فناوله إياه مفرقا وقال: أعطني به جنيها ذهبا.
قال له الصيري: هات خمسة ملليمات.
قال البخيل: وعلام هذه الملليمات الخمسة؟ إنك تأخذ هذا الجعل من الناس على أن تنقدهم الفضة بدل الذهب، وأنا أعطيك فضة وأطلب ذهبا، أفلا تحمد الله على أنني صفحت لك عن حقي وجئتك ساعيا إلى مكانك؟!
فما زاد الصيرفي على وكزه في صدره وكزة قذفت به إلى الجانب الآخر من الطريق، فما تململ الرجل ولا تأفف، بل وقف حيث قذفت به الوكزة صامتا، والصيرفي لا يشك في أنه ينتظر أن يمر الشرطي فيستعديه عليه، فمر شرطي وثان وثالث لا يدعوهم ولا يبرح مكانه، والناس يظنون أنه يحدث نفسه بالانقضاض على الصيرفي، فيوسعه ضربا ولكما فيخطئونه ويلومونه وينصحون له بأن يعتذر إليه ويسترضيه، وبينا هو كذلك أقبل على الصيرفي شيخ ريفي، فكذب البخيل كل ظن وعاجل الشيخ، فكان أسبق من يده إلى جيبه وصاح به: رويدك يا هذا، إنك تريد أن تبدل جنيها، وهذا اليهودي يتقاضاك خمسة ملليمات، وأنا أقنع منك بملليمين، فهاك الفضة وهات الذهب، والتفت إلى الصيرفي، فقال: بارك الله فيك، فقد قيضت لنا رزقا كنا في غفلة عنه، ولا يزال هذا دأبنا كلما اجتمع جنيه عندنا، ثم ولى والصيرفي يكاد ينشق عن جلده من الغيظ والناس يضحكون.
وكأني بك أيها القارئ تظن أن الرجل آلى بالطلاق وحرص على أن لا يمين فيه وفاء لزوجه وضنا بذات فراشه واحتفاظا بأم بنيه، فإياك أن تظلم الرجل بهذا الظن، فإن الاحتفاظ والضن بشيء غير المال ضعف يربأ بنفسه عنه، ولكنه تحرى أفدح الأيمان كفارة وأصعبها كلفة، فرأى أن كفارة الحلف بالله سهلة وربما كان في الصيام من الاقتصاد ما يغريه بالحنث كلما أقسم بالله، فاختار يمين الطلاق يهدد نفسه به ويخوفها من مؤخر الصداق ومئونة الأولاد ومصاريف القضايا ، ثم لا بد له من زوجة تكفيه نفقة الخادم وشراء الطعام من السوق، وهذه الزوجة لا بد لها من مهر قل أو كثر، دع عنك الأعراس وما تستدعيه من الخروج عن العادة في الإنفاق ليلة أو ليلتين، فإذا آلى بالطلاق ذكر كل ذلك وأكثر منه فكان قيدا لا يستطيع منه فكاكا، ولا يفوته مع هذا أن يصانع نفسه بأنه من القابضين على دينهم الذين يجتنبون حدود الله، ولا يلعبون بيمين كيمين الطلاق، والحقيقة أنه لا يجتنب حدود الله إلا لأن اجتنابها يوافق هواه، ولو كلفه خوف الطلاق معشار ما يصون من ماله لجار عن كل حد لله وللخلق، وعلى أنه لم يضطر يوما إلى امتحان دينه ولم يقف بين ارتضاء الطلاق وجرائره وانتهاك حدود الله وأوامره؛ لأنه لم يكذب على صندوقه قط، فإذا استعار منه في الصباح سدد له الحساب في المساء.
ومرض هذا البخيل مرض الموت فجزع جزعا شديدا، وكان جزعه لأنه سيموت عن أقل من عشرة آلاف جنيه كاملة، وكان ذلك كل أربه من الحياة، فاستحضر الطبيب بعد أن نهكته العلة ودب السقم في أوصاله وعظامه، فأمره بأن يتعاطى دواء وأن يقصر طعامه على لحم الطيور، وكان صاحبنا على مذهب النباتيين اقتصادا لا فلسفة، فتملص يحايل الداء ويتملق الطبيب عسى أن يعدل عن وصفته، والداء يأبى إلا لحوم الطير، والطبيب مصر على رأيه، ولما كان أربه في العيش لم ينته وعشرة الآلاف لم تكمل، فقد رضي أهون الشرين وأصاخ لقول الطبيب وصار يأكل كما أمره وهو يتلهف ويتغصص ويتبع كل لقمة يزدردها بعملية حساب، وهل أصعب في الهضم من الحساب وأثقل على المعدة من الأرقام الصماء؟ ولم يزل يقول بعد كل أكلة: الله الله على الصحة! لو كنت الآن صحيحا أما كانت تكفيني أكلة بدرهم! فلم يسعفه الدواء ولم يمرأه الغذاء، وما ذاك إلا لأن الطبيب داواه بالطب الذي يداوي به الناس، ووصف له ما كان يصفه لكل مريض مصاب بمثل مرضه، ونسي أنه يداوي داءين لا داء واحدا، وفاته أن داءين أحدهما مزمن والآخر طارئ لا يصلحان بفرد دواء، ولو سمعه كيف كان يأسف على الصحة ولماذا كان يأسف عليها لعلم أن صحة هذه البنية غير صحة سائر البنى، وأن لها مرضا غير أمراضها، وأن الغذاء الذي ظن أنه يشفيه ويقويه قد حز من بدنه وأضاف مرضا على مرضه، وقد مات المسكين بدائه ذاك، وما أحسبه ندم على شيء وهو يفارق الدنيا ندمه على تلك الدراهم التي أطاع فيها الطبيب جزافا، وماذا عليه لو قد عصاه فلم يفقد سوى حياته؟!
ولهذا البخيل نوادر عديدة يذكرها معارفه؛ فكان لا ينقضي له يوم إلا على نادرة طريفة مع بائع أو زميل أو شريك أو مدين، وكنت أستظرفه فأتودد إليه وأشيعه على مذهبه فلا أقتصد في إطراء الاقتصاد ولا أبخل بكلمة في مدح البخل، وإذا فاوضته في الأدب أو طالعت معه في الكتب لم يكن أحقر على لساني من أسماء هرم بن سنان وحاتم طيئ وكعب بن أمامة ومعن بن زائدة وأبي دلف وغيرهم من أجواد العرب، فأشنع بهم وأسأل الله السلامة من مثل مصيبتهم في عقولهم وأموالهم، وأقول له: ما أجدر ما دار بتمثال من الذهب، فيقول: أي وأبي ولولا ما في ذلك من الإسراف، ولشد ما كان يتهلل وجهه حين أتلو عليه نكبة البرامكة، فيقول: حيا الله الرشيد، ما أحكمه وأحزمه! وقبحهم الله، ما أخرقهم وأحمقهم! بادوا وخلفوا وراءهم للناس مثلا سيئا وقدوة ذميمة، وكانت له في أسباب نكبتهم فلسفة خاصة لم يفتح الله بها على أحد قبله، يقول لك: لا تصدق ما يتشدق به كذبة المؤرخين عن أسباب نكبة البرامكة، فوالله ما نكبهم ولا قتلهم إلا الإسراف والتبذير، أسرفوا في البذخ وبذروا أموالهم في الصلات فحسدهم الموصول وسخط عليهم المحروم، فترصدت لهم العيون وتوغرت عليهم الصدور، واستعظم الرشيد عليهم ما هم فيه فمثل بهم ذلك التمثيل، وفجعهم في أرواحهم وأموالهم وآمالهم فلم يغن عنهم صنائعهم وذووهم، ولو أنهم بخلوا لنامت عنهم الأنظار وخرست عنهم الأفواه؛ لأن من نعم الله على البخلاء أنه يجمع لهم بين مزيتي الغنى والفقر، فلهم من الغنى المال الكثير ولهم من الفقر الأمان من حسد الحاسدين، ولهم من الغنى القدرة على ما يبتغون ومن الفقر القناعة بيسير ما يأكلون ويلبسون، وهما مزيتان لا يجمعهما الله إلا لمن رضي عنه من عباده.
Bog aan la aqoon