Khulasa Yawmiyya Wa Shudhur
خلاصة اليومية والشذور
Noocyada
قلت: لعلي أجيبك عما يزين له ذلك، يزينه لك الغرور الذي تمتلئ منه كل جانحة وتنبض به كل جارحة، ولولاه لمات أكثر الناس غما بقصورهم وحزنا وأسفا على عجزهم وتخلفهم، وإذا كان لا بد لكل إنسان من أن يحب نفسه، فلا بد له من أن يغتبط بها وإلا فقد عجز الإنسان حتى عن حب نفسه لغير سبب، كما قدر الغرور على أن يخلق لكل إنسان سببا يرضيه عن نفسه، وأنت لو أمكنك أن توقف إنسانا ثم أمررت أمامه الثقلين جميعا يقولون له إنه أجهل الناس وأحقر الناس وشر الناس وأضعف الناس، ثم خلا ذلك الإنسان بنفسه، لأمكنه أن يوهمها أنه أعلم الناس وأجل الناس وخير الناس وأقوى الناس، يكذب الناس كلهم ويصدق الغرور؛ لأن الغرور يقدر على أن يواسيه فيما يسلبه منه الناس، ولا يقدر على أن يعوضوه عما يسلبه منه الغرور، فإن كان فقيرا علل نفسه بأنه سليم الجسد موفور العرض أو بأنه لو أحصيت ديون الغني وأمواله لكان هو أثرى منه مع الراحة من عنت الغرماء، أو أنه يدبر ماله القليل بما يجعله أغنى من صاحب المال الكثير، أو أن الله أخلف له في ذريته ما أنقص من رزقه، وأنه يكسب قوته بعرق جبينه وكد يمينه، وذاك يكسبه من السحت والحرام، ويبدده في البذخ والآثام.
وإن كان جاهلا زعم أنه ليس بالغبي، ولو كان تعلم ما تعلمه العلماء لبزهم في العقل، وتقدمهم في الفضل، وأنه على جهله يفهم بالبداهة ما لا يفهمه العلماء إلا بالدرس واللجاجة.
وإن كان مهينا ذليلا قال: ما لي وللرفعة والثناء، والعزة القعساء، أضيم الأبرياء وأعتو على الضعفاء، وأروي بهم الحقد والبغضاء، وما يتبعهما من سوء الثناء، وأنصب لما ليس يعنيني من الأشياء، وأخدم المرءوسين وأنا أحسبني من الرؤساء، ألست أنا في هذه الدعة والرخاء أولى بالغبطة والخيلاء، وأعز في ذلتي وضرعي من الأعزاء؟!
وإن كان ناشئا حدثا ومنافسوه من الكهول والشيوخ قال: أجل، ولكنني أعلق في اليوم ما لا يعلقونه في الشهر، وأفيد في الشباب ما لا يفيدون في الهرم، وأعي وأنا في الدار ما لا يعيه غيري بغير الرحلات والأسفار والتجوال في شواسع الأقطار.
وإن كان دميما اتهم المرآة، أو مجرما سب القضاة، أو بذيئا قال: ما هذا بذاء، هذا مضاء ... أو بخيلا أو جبانا أو منافقا قال: هذا عين الحكمة والدهاء، ولب الفطنة والذكاء.
وهكذا يعين الغرور كل امرئ على ألا يسلم لمن هو أعلى منه بالسبق والأفضلية، ويدخل عليه أن ما عنده خير مما عند غيره، ومن حسن حظ المغرورين أن النعم والنقم والمناقب والمثالب توائم، تتشابه في السمات، وتتباين في الصفات، ولكل نعمة توأم من النقمة، ولكل فضيلة صنو من الرذيلة؛ فالسعادة أخت البلادة والدعة أخت التواني، والإرادة أخت العناد، والزمانة أخت الحياء والأنفة أخت العجرفة، والقحة أخت الجرأة، والاحتيال أخو الذكاء، والجود أخو السرف، والبخل أخو القصد، والمجد أخو الجبروت، والحلم أخو الجبن، والفصاحة أخت الثرثرة، والكآبة أخت الوقار، والحدة أخت الضجر، وهلم جرا، فيسهل على المغرور أن يمسخ كل فضيلة رذيلة، ويمثل كل نقمة في زي النعمة، ويكون هو أسعد الناس بمثالبه ونقمه، ويكون غيره أشقى الناس بمناقبه ونعمه.
ومما يحكى ويناسب ما نحن بصدده أن عجوزا شوهاء قرعاء عوراء بخراء وقفت أمام المرآة مرة وجعلت تقول: عجوز! نعم ولكنني شبت على صلاح ... شوهاء! بلى ولكنني لم أتحال ولم أزور على الناس بالطلاء كما تصنع سمجات النساء.
قرعاء! أجل ولكنني لم أدنس رأسي بوساد الخنا والفجور. عوراء! إي ولكنني لم أنظر لريبة قط ... بخراء! صدقوا ولكنني طهرت فمي أن ألوثه برائحة الهجر والمهاترة ونتن السفه والمشاتمة، فوفرت بعلي وأمن جلسائي من لساني ... قالوا: وكان إبليس واقفا يسمعها، فقال: يا فاجرة! لقد عرضتك على الزناة والفسقة في مشارق الأرض ومغاربها، فكلهم عافوك وصدوا عنك، وأقسم لو كان فيك مطمع لغير القبر لما أبيت أن تضمي إلى عيوبك التي فيك هذه المخازي التي تعيرينها النساء، وتدلين عليهن بالطهارة منها.
وإلى هنا لا نعد الغرور شرا محضا، فكم أرضى ساخطا، وكم خفض من جأش محروب، وكم طلبة ذابت عليها أنفس الناس حسرات فأعطاهم منها في الوهم ما لم ينالوه ولن ينالوه في الحقيقة، والغرور قد يقعد المرء عن طلاب الكمالات بما يخيل إليه من حصولها عنده واستحواذه عليها، ولكنه طالما استفز نفوس الطامحين إلى العلى بما أكبر من أخطارهم في أنظارهم فالتزموا حقوق المنزلة التي فرضوها لأنفسهم، ثم أفضى الأمر إلى أن تبوءوها فاستحقوها بالتطبع بها والمواظبة عليها، فهو خير وشر، وحق وبهتان، وما أخطأ كارليل حين قال: «هو حاسة سادسة لا تشبع.» وكما أننا لا نصم الأذن إذا أسمعتنا ما نحب وما نكره، ولا نفقأ العين إذا أرتنا ما يسر وما يسوء، ولا نجدع الأنف إذا أنشقنا ما ينعش وما يؤذي، ولا نقطع اللسان إذا أذاقنا ما يحلو وما يمر، كذلك لا نستأصل الغرور إذا كان فيه مع الصدق الآجل كذب راهن، وكان الكنز لديه لا يخلو من المارد.
نادي العجول
Bog aan la aqoon