طبيبتي العزيزة ...
حينما جئت أول مرة إلى عيادتك لم أكن قد ولدت بعد، فأنا لم أولد في اليوم الذي ولدتني فيه أمي، كنت قطعة لحم تتحرك فحسب، ولم تكن حركتي بإرادتي أو رغبتي، كنت أتحرك بإرادة أخرى ورغبة أخرى.
وكان الزمن يمضي دون أن أعرف أنه الزمن، فاليوم كالأمس كالغد، كأن الماضي والمستقبل التقيا عند الحاضر في لحظة واحدة طويلة ممتدة إلى الأبد، كنت أظن أن الزمن غير موجود.
وربما حدثت ولادتي في تلك الساعة من ليلة الشتاء الباردة، لم تكن ساعة كاملة تلك التي ولدت فيها، كانت أقل من ساعة بكثير، ولعلها كانت سبع دقائق إذا أردت الدقة، فقد نظرت إلى الساعة في تلك اللحظة، كانت الحادية عشرة إلا سبع دقائق، وكنت أجلس في ضوء مصباحي بجوار سريري أكتب كعادتي قبل أن أنام، حينما سمعت صوتا غريبا، أو لعله لم يكن صوتا، لكنه لم يكن من تلك الأصوات التي تسمع بالأذن أو الأذن وحدها، فقد اخترق الصوت جسدي، ورأيت لحمي يرتعش في ذبذبات ضئيلة سريعة كالقشعريرة، وأحسست جدار بطني يرتفع وينخفض في ارتعاشات، لا أكاد أراها بعيني، وإن كنت أحسها فوق جلدي حركة تمشي كأرجل النمل الدقيقة.
في قفزة واحدة أصبحت في حجرة أبي، ورأيت كل شيء كما عهدته منذ سنين، وأبي في سريره، عيناه نصف مفتوحتين أو نصف مغلقتين، والملاءة البيضاء تغطي نصف جسده الأسفل، وذراعاه فضفاضتان مرتخيتان إلى جواره كذراعي المعطف الخالي، لا شيء فيه كان يتحرك إلا جفنيه وشفتيه يفتحهما ويغلقهما في تتابع وانتظام، هو نفسه التتابع والانتظام الذي يعلو به صدره ويهبط، ومع حركة التنفس كان عرق في رقبته الرفيعة ينبض نبضا بطيئا، لا يكاد يرى بالعين لكنه يحس بطرف الإصبع.
ووضعت إصبعي على العرق حينما انبعث الصوت مرة أخرى ولم أستطع أن أتحرك، حتى إصبعي ظل فوق العرق كأنما تجمد، لكني كنت ألمح أبي من الجانب، كانت جبهته العريضة بارزة، وعليها قطرات من عرق، وعظام وجهه مدببة عند الخدين، وأنفه طويل حاد ينتهي بشارب سقط شعره، ولم يبق منه إلا لون أسود فوق شفتيه الجافتين الصفراوين تنفرجان وتنغلقان.
هذه الحركة المتتابعة المنتظمة لا تزال عالقة بعيني، وصوت الأنين لا يزال في أذني يتتابع بانتظام كالشهيق والزفير، كدقات الساعة في الليل، لا أعرف بدايته، فهو لم يبدأ فجأة في ليلة معينة أو في ساعة أو دقيقة محددة، ولكنه بدأ بالتدريج فكأنه لم يبدأ وإنما كان موجودا دائما، كأنما لم أر أبي إلا راقدا على هذا النحو في السرير، ولم أسمع له صوتا إلا ذلك الأنين، بل كأنما الآباء كلهم يولدون على هذا النحو ويعيشون على هذا النحو، وعلي أن أقبل هذه الحقيقة كما أقبل حلول الظلام بحلول الليل، ومجيء النور بمجيء النهار، والهواء يدخل الأنف ويخرج بلا إرادة من أحد.
لكني كنت أعلم أن هذه ليست هي الحقيقة، فقد مرت بي فترة من حياتي أرى أبي فيها طويلا ممشوقا، يدب بحذائه على الأرض، ما زال صوت وقع كعبه على الأسفلت في أذني، خطوة وراء الخطوة في بطء وثبات وانتظام.
وكنت أسمع صوت أبي حين يتكلم، كان صوته خشنا كصوت الرجال، لكنها خشونة ناعمة، أحس بها في أذني، وبالذات حين يناديني باسمي، كان لاسمي في أذني وقع غريب: دولت، لحرف الدال وقع خاص، كنت أذهب إلى المدرسة، وكانت المدرسة بعيدة، أركب إليها كل يوم قطارا طويلا له صفارة رفيعة ودخان أسود كثيف، أحببت هذه الفترة من حياتي بغير سبب واضح، ربما كنت أحب هزة القطار كهزة المرجيحة والنافذة العريضة وأعمدة السواري وهي تتراجع بسرعة إلى الخلف، أو أنني كنت أحب يد أبي الكبيرة في يدي وانقباضة أصابعه الكبيرة فوق أصابعي لحظة تلامس قدمي الدرجة لأصعد سلم القطار، أو لعلي كنت أحبه أكثر حين يمشي إلى جواري في شارع المدرسة وفي يده حقيبة كتبي الثقيلة، كنت قصيرة، قريبة من الأرض، أستطيع أن أرى قدميه الكبيرتين وهما تمشيان، القدم تنتقل وراء القدم ببطء منتظم ثابت، كأنما عرفت قدمه المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها بكل حجمها، وتثبت فيه بكل ثقلها.
كان كل شيء يبدو ساحرا، أو بدا لي ساحرا من بعد، فلم تكن طفولتي كلها ساحرة، كان هناك إحساس غريب يفسد علي حياتي، لم أكن أشعر به كل يوم لكنه كان كامنا في نفسي، يتحرك لأقل هفوة تحدث، زلة بسيطة لقدم أبي وهو يهبط السلم، أو صوت فرملة شديدة وأبي يخترق الشارع، أو انقطاع شخير أبي لحظة وهو نائم، ربما كان يحرك رأسه، أو ينقلب فوق جنبه الآخر، لكن جسدي كان ينتفض فجأة بخوف غريب، كنت أخاف على أبي، أخاف أن يموت، لم أسمع كلمة الموت من أحد، ولم أر ميتا من قبل لكني كنت أعرفها، كأنما الكلمة ولدت مع جسمي كذراعي وساقي، كالعضو تماما أكاد أحسها وألمسها، وكان ملمسها يبعث في نفسي قشعريرة كتلك القشعريرة التي كانت تصيبني إذا ما لامست يدي خطأ بطني أو ثديي.
Bog aan la aqoon