Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Noocyada
الألحان المشجية الفتانة التي جادت بها قرائح عظماء الموسيقيين ليست إلا إطالة في أحسن مظاهرها وتحقيقا لخيال عمل شخصي مرتبط بأقوى العواطف وأرقها في الهيئة الاجتماعية، فيفنى الإنسان وتحيا بعده عواطفه ممثلة على صفحات الأوراق، وبهذه الصفة تفسر أسرار الموسيقى وعواملها المؤثرة، فهي أسرار؛ لأنها مجردة اليوم من وظيفتها الأصلية، وأنها تمس أشياء اختارتها الزخارف ولغة خصصت من منشئها من قديم الأزل للحب، وأنها تؤثر في أعماق النفوس؛ لأنها تمس منا الإلهام الحيوي إلهام التكاثر والترقي، وتجدد فينا دون أن نشعر وبطريقة مبهمة خفية ارتباط الفكر بوراثة طويلة لا تحددها الأجيال.
إننا نستحسن من «داروين» فكرة اتحاد الحب والترقي وأنهما أمر واحد، فالفردان اللذان يبحثان عن بعضهما لا يكتفيان بالتكاثر واستمرار الحياة، بل يريدان أن يرقيا إلى ذروة الأماني والآمال، إذن لو وجد الترقي في الحقيقة وأنه سنة وناموس لوجب أن يرتبط بأصل الخليقة ومبدأ أولي يرتب تطورات الكائنات، فنرجع إذن بالتعبير الموسيقي إلى دور عظيم فخم! (1-4) ملاحظات على فكرة «داروين»
إن كان يزعم «داروين» أنه أتانا بنظرية عامة تامة للموسيقى فإننا نعارضه بجملة اعتراضات، إذ يستحق أن يؤاخذ بأنه أفرط في تسهيل مسألة هي في الحقيقة عقدة العقد حتى عدها في غاية البساطة.
إننا نرد عليه بأن غناء الطير ليس في الحقيقة موسيقيا ودليله أن كتابة غنائه من أصعب الصعوبات، ولا ننكر أنه إذا اجتمعت طيور مختلفة وغنت مع بعضها في آن واحد فإن أصواتها لا تمجها الآذان، ولكن الأصوات الإنسانية الصادرة في وقت واحد ولم ترتب باتفاق سابق تنبو عنها الآذان وتنفر منها، ويلزم الإنسان إذا كان يريد أن يميز لحنا في مظاهر أصوات بعض الحيوانات أن يكون موسيقيا ماهرا.
فلو سلمنا بالغرض الذي ينسب للغناء هذا التأثير، فلم انحرف الانتقال الوراثي وغير خطة سيره حتى أصبحنا نرى أن النساء أكثر استعدادا للغناء من الرجال، وهن اللاتي تحل أصواتهن محل الإعجاب لدى الرجال.
ولكن «داروين» لشدة تبصره وحكمته نسي حقيقة طبائع الأشياء التي تكلم عنها إذ أراد أن يضم الموسيقى إلى التاريخ الطبيعي، فتكلم عنها بإهمال وإجمال في فقرة من بعض كتبه، إذ أراد أن يفسر تأثير التخاطب بالأصوات، فلذلك يظهر أن جميع أفكاره اتجهت إلى البحث في الموسيقى من الوجهة الاجتماعية.
إننا لا ننكر على الطير صناعة الغناء بعدما ذكرها الشعراء القدماء، وقد قال الشاعر اللاتيني القديم «لوكريس»: «إن الإنسان كان يقلد الطيور قبل أن يتعلم الكلام.»
إن لأهل «كامتشاتكا» - وهي شبه جزيرة في سيبريا الشرقية على نهر يهرنج - لحنا يسمى «أناجيتش»، ومصدر اسمه وأصله راجع إلى اسم طير يسمى «أناس جلاسيالس» يظهر أسرابا أسرابا في بلدهم في زمن معلوم.
وقد كتب الموسيقي الفرنسي أو البلجيكي «كليمان جانوكان» من القرن السادس عشر قطعة موسيقية وصفية سماها «صوت الطير»، وقلد «هايدن» قوقأة الدجاج في الرباعية العشرين من قطعه الموسيقية، كما عمل مثله «موزار» و«روسيني»، ولم يستنكف «بيتهوفن» أن يقلد صوت الطير المسمى «كوكو» في قطعته المسماة «السانفوني الخلوية».
إننا أثبتنا أمرا أوليا اجتماعيا وهو التقليد المستعمل من نشأة الموسيقى، فهل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هذا التقليد سببه وأساسه عاطفة لا تغلب ولا تقاوم ألا وهي حب الغير؟ نعم، ولكنه بتغيير قليل ندخله في فكرة «داروين». (1)
Bog aan la aqoon