أنصتت جهان لحظة استرسلت فيها إلى التأمل، ثم قالت وفي صوتها حدة مشفوعة بقطع الأمل: لا أستطيع أن أطرق باب هذا الرجل بعد الآن، فليس لي حق يخولني سؤاله حاجة ما، ويلوح لي أنه أساء تفسير سكوتي في الماضي، ولكنه لن يستطيع أن يسيء تفسيره اليوم. وقالت متبعة كلامها كأنها تخاطب نفسها: وإن لم أقابله غدا فينفر مني مغتاظا، ونصبح كلنا تحت رحمته؛ أنت، ووالدي، وأنا تحت رحمة الألمان ... كذا كنت أقول لك دائما.
ولكني لست بهذا المقدار قليلة الإدراك والتمييز حتى أحسب أن مصلحتي الذاتية، ومصالح أمتي سيان. - ستقابلينه إذن لأجلي، لأجلنا كلنا. - يلوح لي أنك شديد الحيرة، وأنك تخاف الذهاب إلى ساحة الحرب؟ - أنا؟ ما شاء الله! كنت أخال جهان تحسن الظن بي، ألم تقولي أنت نفسك: إن شغلي في دائرة الحربية؟ أولم تبوحي لي مرة أنك لا تحتملين فراقي؟ - بلى قلت ذلك مرة. - أوتغيرت الآن؟ - يا عزيزي شكري، كل شيء يتغير في هذه الأيام، ولا يستطيع أي كان في زمن الحرب هذه أن يثبت على رأي من يوم إلى آخر، بل كلنا ضحايا تلك القوة الضاغطة الشريرة، تلك القوة العلوية أو السفلية التي تجسم فيها الشر والخير، والتي أدعوها «إلهة التلون». - أهذا ما يعلمك إياه فيلسوفك الألماني؟
فنظرت إليه جهان نظرة الأنوف الغضوب قائلة: إياك والتهكم على آرائي. - أما أنا فلم أتغير، أنا لا أزال أحبك، أنا مغرم بك، وأقسم بالله أن لا امرأة سواك تقاسمني قلبي، وتشاركك في الحريم. - ذكرتني بالأمير سيف الدين. - ولكني لن أحنث بوعدي أقسم بالله وبنبيه. - التقلب إله الزمان! - بربك يا جهان لا تعذبيني. - أنت تعذب نفسك. - إذن عديني، إذا ذهبت إلى ساحة الوغى ...
فقاطعته قائلة: لا أستطيع أن أعدك شيئا. - أتقترني بي قبل مغادرتي غدا؟ - لا وقت عندي للاقتران هذه الأيام. - والله إن هذا الألماني ... - هو لسوء الحظ أرفع منك مكانة، وعليك أن تصدع لأوامره.
كان شكري بك يتمشى في الغرفة مطرقا وجهان محتبية على الديوان.
وبعد فترة دنا منها جالسا حيالها، وقال: حكمي عقلك، لا أخالك تكسرين قلب والدك، ولا أخالك تعذبين عبد هواك، أنا ذاهب إلى ساحة الحرب إذا كان هذا يرضيك، والحق أني كنت قد عزمت على المسير قبل أن استلمت مذكرتك، فلماذا الآن تطلبين إلي أن أؤجل رحيلي، حكمي عقلك، أمكث معك في الأستانة إذا كنت لا تشائين الذهاب إلى قونية، قابلي الجنرال فون والنستين غدا من أجلي، فإني أرغب بتأخير يومين فقط، وأرضى إذا كان سعادته يعد ... - نعم ولئن كان سعادته ألمانيا فقد تلقن علم السياسة في مدرستنا؛ ولذا أنا نفسي لا أومن بما يعد به بعد الآن. - إذن علينا أن نعامله بمثل ما يعاملنا، فنسود على مراوغته.
قال هذا مطمئنا وقد وضع يديه في جيبيه، ووقف في وسط القاعة كمن أفحم غريمه. - أرى يا عزيزي شكري أن تصدع بالأمر الصادر إليك، والآن أرجو لك مساء سعيدا.
قالت هذا وخطت نحو الباب فناداها شكري: قفي قفي، لا تسيئي فهمي، فأنت تعلمين شدة حبي لك، وما أود أن أضحيه لأجلك إلا أن المرء إذا وقع بين الواجب والحب ... - على المرء أن يكون في الأزمات الأهلية في طليعة الوطنيين. - ما كنت أسمع منك مثل هذا الكلام قبلا، ماذا جرى؟ وبماذا أسأت إليك؟ أوتظنين أني خال من الوطنية حتى تعيريني وتوبخيني؟ لا أستطيع احتمال هذا، كلا والله، أنت متقلبة قاسية القلب، ولا تراعين شعوري.
فأشارت إليه جهان بيدها أن يسكت، ثم قالت: أرى يا عزيزي شكري أنك أكثر أهلية في ساحة الحرب منك في إدارة الحربية، فلست بذي دهاء لتكون سياسيا فضلا عن أن وجودك في ساحة الحرب في هذه الأحوال أسلم لك عاقبة، فاذهب وتأهب، وإذا عدت بطلا أقترن بك. - أعلم أنك تستبدين بي؛ لأني أذعن لك محترما كل أمر من أوامرك حتى أدنى رغبة من رغباتك. - أخطأت القصد مرة أخرى، وقد لا تهتدي لأغراضي، ولو وضحت على أنني لا أدري كيف أوضح لك حقيقة أمري، ناهيك الآن بقصر الوقت لدي، فنحن في الساعة العاشرة، وعلي تكملة موضوع لجريدة طنين، وكل ما أستطيع أن أقوله هو أني أشعر بوجوب ذهابك إلى ساحة القتال لتذود عن بلادك، أرجو لك ليلة سعيدة، ودعني أقبلك مودعة!
الكلمة الأخيرة منها استثارت في شكري بك حرمة الرجال إذا امتهنتها امرأة، تلك الحرمة التي تظهر في أحقر الشرقيين، وأضعفهم كما تظهر في أشدهم وأعظمهم، فوقف بعيدا عنها سامد الرأس جاحظ العينين.
Bog aan la aqoon