وإن مات ابنه أليس في إنعام الإمبراطور ما يعزيه، إنعام هو شرف لبيته، ومجد سلالته، يعززه ويفتخر به على مرور الأحقاب؟ وقد أعمل الفكرة الجنرال بهذا الشعور، واستمر يحدث نفسه: «حتى بمثل هذه الساعة كان أولى به أن يقتبل التهاني.»
سارت العربة وهو فيها يستعر حنقا وغضبا، أتحقير وامتهان من تركي إلى قائد ألماني؟ إنها لفظاعة، أويستخف تركي بإنعام الإمبراطور؟ إنه لجرم لا يغتفر، إلا أن الجنرال فون والنستين قد جاء لزيارة الباشا بشرف أعظم لو أدرك ذلك ووعى، فإنه جاء ليزف اسمه إلى اسم ابنته جهان؛ ولهذا إكراما لخاطرها سيحاول أن يطفئ نار غضبه، وإكراما لها سيهضم هذه الإهانة، وسيحتملها إلى حين.
وهكذا كان، فإنه لما عاد إلى بيته كتب إلى جهان رسالة تعزية، وقد أنبأها أنه قادم لمشاهدتها في الغد.
الفصل الخامس
إن موت مجيد بك في ساحة القتال على تلك الصورة الفظيعة لمما زعزع في جهان إعجابها بالألمان، ولكنها تنسمت في الجنرال فون والنستين سرا، لم تستطع أن تدرك كنهه، فإذا كان هو مصدرا ذلك الأمر المسبب تلك الفاجعة، فما معنى رسائله الودية إليها، وإلى أبيها، وما معنى تردده إلى منزلهم بهذه الجسارة والجرأة كأنه لم يأت أمرا فريا، ومما تيقنته أن الجنرال لم يكاشف وزير الحربية بشأن شكري بك كما وعدها بذلك الصباح، وليست هذه بالمرة الأولى التي أخلف بوعد وعدها إياه.
ولما كان المساء جلست وأباها يتناولان العشاء، فقرأت أمامه الكتاب الذي تلقته من الجنرال فون والنستين، ثم سألته قائلة: بدرم، أعطني رأيك في هذا. - يجب أن لا تستقبليه إذا جاءنا زائرا.
فلم تنبس جهان ببنت شفة، ولكن شكري بك الجالس قبالتها أقدم على الاعتراض فقال: ولكن الجنرال لا سواه يستطيع أن يؤجل الأمر العسكري أو يلغيه.
وشكري بك شاب جميل المحيا، رضي الطلعة، رقيق الجانب، مهذب تهذيبا عصريا، ولكنه في فمه وناظريه سيماء طبع يجمع بين القسوة والتزلف، وهو إذا كلم أحدا قلما ينظر إليه وجها لوجه.
التفت إليه رضا باشا، وخاطبه قائلا: أنت تعلم يا بني أننا معشر الترك مشهورون لدى الأوروبيين بالاحتيال والتزلف والجور، وقد جر علينا هذه المعايب أولئك الذين يديرون دفة أمورنا، فهم المسئولون عن هذا العار اللاحق بالأمة جمعاء، أويستطيع الفرد أن يدرأ عارا لحق بالمجموع؟ أما أنا فلم تكن المراوغة أبدا من شأني، ولم أكن خاضعا خضوعا أعمى حتى لسيدي ومولاي السلطان، فهل تريد أن أقف اليوم في باب ألماني أسأله صدقة، وأنا في آخر عمري، لا وتربة أجدادي، لا أفعل ذلك، إذا كان هذا الرجل مثل أولياء الأمر فينا مراوغة واحتيالا، فإني أدعه وشأنه، ولا أتدخل بأمر من أموره، أما أنت فلا تذهب إلى ساحة الوغى، اللهم إذا كانت كلمة رضا باشا مسموعة في يلديز، أنا ذاهب غدا لأقابل جلالة السلطان، وبعد أن يلغي الأمر نسافر كلنا إلى قونية، ولقد أمرت الخدم أن يتأهبوا للرحيل، نعم سأرحل من جهنم الأستانة، وسنقيم في قونية بعيدين عن الألمان ومطاياهم، قوادنا الملاعين، هناك أريد أن أقضي بقية أيام حياتي بسلام، حتى إذا حل القضاء بي تغمض أنت وجهان عيني، وتكونان حولي في مأتمي، وأتأمل أن لا أرى من أيكما مقاومة لرغبتي هذه.
إلا أن جهان قالت لشكري بك، وقد اختلت به في الدارخانة: ولكني لا أقدر أن أذهب إلى قونية؛ لأن أمامي أعمالا عديدة في الأستانة، نحن الآن في أشد وأعظم أزمة في تاريخنا؛ ولذا أرغب بالبقاء في وسط العاصفة حتى النهاية، لن أفارق أخواتي الطامحات إلى الحرية، لا والله ولا أترك إخواني الجرحى في المستشفى، إن للأمة وللحكومة علي حقوقا، وعليك أيضا يا شكري، فإننا لم نزل أحدث سنا من أن نعتزل في آسيا الصغرى، وندفن أنفسنا في مجاهل الأناضول. - ولكني موقن أن الأمر لن يلغى، وأرى أني مسير غدا لا محالة، وقد لا أعود أراك؛ فإنك لتعلمين أن ليس لجلالة السلطان إلا القليل من السلطة في هذه الأيام، وهذا الألماني هو سالبه تلك القوة، وليس بين وزرائنا حتى مشايخنا أو شيخ الإسلام من يقاوم كلمته، ألم تتأملي بهذا؟ أولا تظنين بأن الحكمة تقضي بأن نلاينه ونداريه؟ قد يمكن أن أكون تسرعت بتصرفي معه، ولكن لا أحتمل أن أرى أيا كان من الناس يضمر في نفسه السوء لنساء عنصري، ناهيك بأن الرجل ألماني، بل مسيحي.
Bog aan la aqoon