وعاد أحمد ذات مساء إلى البيت، وكان انقضى على وفاة رشدي أربعة أسابيع فوجد أمه بانتظاره، وبادرته قائلة: زارتني نوال بعد عصر اليوم!
وخفق قلبه لذكر الاسم، وأمسكت يداه عن فك رباط الرقبة، وسألها مندهشا: ولماذا جاءت؟
فقالت الأم: قابلتني في ارتباك شديد، وما إن التقت عينانا حتى انتحبت باكية، وقالت لي بصوت متقطع ونبرات مختنقة: «أنا أعلم بسخطك علي، بل بسخطكم علي، ولكم العذر، ولكني مظلومة والله يا تيزة، منعوني من زيارته، وحالوا بيني وبين رؤيته، وفرضوا علي رقابة شديدة، وأبوا أن يصغوا إلى توسلاتي أو يرحموا دموعي، وما كنت لأفعل هذا بنفسي أبدا، ومع ذلك لم أذعن ولم آيس حتى اضطرت أمي تحت ضغطي الشديد أن تصحبني معها في غياب أبي، فجئنا معا ذاك اليوم الذي لا أنساه ولن أنساه ما امتد بي عمر، آه يا تيزة، ألقى علي يومئذ نظرة واحدة، تنطق بالاحتقار والزراية، فقطعت قلبي المكلوم البريء، أدركت أنه ناقم علي، كاره لي، لكم تألمت، ولكم أتألم .. ولكنه سيعلم الحقيقة يوما ما، ويعلم أني ما بغيت عليه ولا خنت عهده!»
أصغى أحمد إليها بفؤاد خافق وصدر هائج جياش، ثم سألها: أتقول الحق يا ترى؟
فتفكرت المرأة قليلا ثم قالت على مهل: سمعتها تتكلم بإخلاص، ولا أدري لماذا تحمل نفسها عناء الكذب بعد أن انتهى كل شيء، فيغلب على ظني أنها صادقة، بيد أن مقتي تضاعف لأهلها الدون.
وخلع الرجل ملابسه متفكرا، وقد مال إلى تصديق الفتاة كأمه؛ وارتاح لذلك، ولكن وا أسفاه قضى رشدي نحبه يائسا من حبه يأسه من الشفاء! فيا لهما من حبيبين تعيسين الميت منهما والحي! وأهاجته الذكريات فاستثارت أحزانه ومضى يقول لنفسه: «اللهم غفرانك، ألم يكن الأوفق أن تختارني وتعفو عن أخي؟ فحياتي لا تستحق الوجود، وحياته الناجحة كانت أهلا للدوام، اللهم غفرانك!» وأحس في تلك اللحظة داعيا باطنيا يدعوه إلى ارتياد حجرة الفقيد المغلقة، وكانت نفسه نازعته إلى ذلك مرات ثم يعدل إشفاقا، أما هذه المرة فلم يستطع أن يغفل عن نداء الداعي، وهزه الشوق والحزن، وما عتم أن مضى إليها والسكون شامل وقد أخلد والده إلى النوم، ولما اقترب من بابها انقبض صدره وفاض به الحزن ثم أدار الأكرة، وعبر مدخلها متثاقلا، وأضاء المصباح الكهربائي وألقى على الحجرة المهجورة نظرة شاردة، وقد ملأت رائحة التراب أنفه، فرأى كوما من الأثاث ومكتبا تراكم عليه الغبار فأحاله، وكل شيء يدل على الوداع. رباه لماذا ولج هذه الحجرة وما جفت دموعه بعد؟! وأجال عينيه بها في حزن بالغ، فجذبهما درج المكتب الأوسط، فذكر أن هذا الدرج يحوي مذكرات رشدي و«ألبوم» صوره! وأملى عليه قلبه أن يحتفظ بهما في حجرته ما دام الأثاث عرضة للبيع اليوم أو غدا، ففتح الدرج واستخرج كراسة المذكرات والألبوم، ونفخ عنهما الغبار، ثم ألقى على الحجرة نظرة وداع وغادرها كأنما ما جاء إلا ليأخذ الألبوم والمذكرات. ووضعهما على مكتبه، وطفق يديم النظر إليهما باهتمام وحزن، وفتح الألبوم عن أولى صحائفه، فرأى صورة كبيرة لرشدي تمثله واقفا ويداه في جيبي بنطلونه، ما أجمله وما أنضره! .. وسرعان ما طرقت ذاكرته صورة الكلب الميت الذي كدر جوه يومين كاملين! فتآكلت نفسه حسرات! ولم يمض في استعراض الصحائف احتراما لأسرارها، وتناول كراسة المذكرات دون أن تحدثه نفسه بالتطفل على مكنونها، بيد أنه لم يقاوم رغبة في فر صفحاتها الأخيرة، فجرى بصره على بعض رءوس النبذ التي تكون خاتمة المذكرات .. فقرأ: «حب جديد» «طريق الجبل» .. «حديث غرام» .. «آمالنا» حتى مر بصره بهذا العنوان «القبلة القاتلة!» فخفق فؤاده بعنف شديد، ما معنى هذا العنوان؟! ألم يردده في بعض هواجس حزنه يوما؟! وكان مؤرخا في 12 يناير 1942 أي أول عهده بالمرض، فلم تكن ثمة قوة تستطيع أن تعدل به عن قراءته، فقرأ وصدره يضطرب ويجيش بالعاطفة:
الاثنين 12 من يناير سنة 1942: «رباه! أنا من اليوم وحتى يشاء الله شخص غريب، في صدره أذى للناس ، أنفاسه تهدد العباد، برج متداع من الميكروبات الفتاكة، لعبت لعبة خطيرة كيلا تضيع نوال من يدي، اللقاء مبذول، ولكن حذار، نوال محرمة عليك، محال لمسها! قبلتها التي كانت شفاء للنفس حرام حرام، لشد ما تنكرني وتعجب لشأني ولعلها تساءل نفسها ما له لا ينتهز فرصة خلو الطريق كما كان يفعل؟ هل شبع من شفتي؟ أترى فتر حبه؟ .. كلا يا حبيبتي لم يشبع من شفتيك ولا فتر حبه، ولكنه يخاف عليك، ويصون فاك من الهلاك المبين، ليس الذنب ذنبي، فقلبي كعهدك به ولكن دونه صدرا عشش فيه عدو شرير أخافه عليك وأعيذك منه ...»
أغلق أحمد الكراسة، وجعل يذرع الحجرة وكأنه يترنح من شدة الصدمة، ثم ارتمى على الفراش وهو يصك جبينه براحته ويهتف: «رباه، لكم ظلمته .. ولكم اتهمته بالباطل!» وأحس كما لو أن منشارا ينشر قلبه فأن أنينا موجعا!
50
وتصرمت الأيام الباقية من يونيو، وجاء يوليو بقيظه الفائر.
Bog aan la aqoon