خان الخليلي
خان الخليلي
خان الخليلي
خان الخليلي
تأليف
نجيب محفوظ
خان الخليلي
1
انتصفت الساعة الثانية من مساء يوم من سبتمبر سنة 1941 موعد انصراف الدواوين، حين تنطلق جماعات الموظفين من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وقد نهكها الجوع والملل ثم تنتشر في الأرض تطاردها أشعة الشمس الموقدة. انطلق أحمد عاكف - الموظف بالأشغال - مع المنطلقين، وكان من عادته أن يتخذ سبيله في مثل تلك الساعة كل يوم إلى السكاكيني، أما اليوم فوجهته تتغير فتصير الأزهر لأول مرة، حدث هذا التغير بعد إقامة في السكاكيني طويلة، امتدت أعواما مديدة، واستغرقت عقودا من العمر كاملة، وادخرت ما شاءت من ذكريات الصبا والشباب والكهولة، وأعجب شيء أنه لم يفصل بين التفكير في الانتقال وحدوثه إلا أيام معدودات؛ كانوا مطمئنين إلى مسكنهم القديم، يخال إليهم أنهم لن يفارقوه مد العمر، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى صرخت الحناجر: «تبا لهذا الحي المخيف» وغلب الخوف والجزع، ولم تعد ثمة فائدة ترجى من مراجعة الأنفس المذعورة، وإذا بالبيت القديم يضحى ذكرى الأمس الدابر، وإذا بالبيت الجديد في خان الخليلي حقيقة اليوم والغد، فحق لأحمد عاكف أن يقول متعجبا: «سبحان الذي يغير ولا يتغير!» كان الرجل من أمر هذا الانتقال المفاجئ في حيرة، كان قلبه ينازعه إلى المقام القديم الحبيب؛ ويمتلئ حسرة كلما ذكر أنه قذف به إلى حي بلدي عتيق، إلا أنه لم ينس ما خامره من شعور الارتياح حين علم أنه ابتعد عن جحيم ينذر بالهلاك المبين، ولعله أن ينعم الليلة بأول رقاد آمن بعد تلك الليلة الشيطانية التي زلزلت أفئدة القاهرة زلزالا شديدا، وبين الحزن والتعزي، والأسى والتأسي، مضى يذرع الطوار في انتظار ترام يوصله إلى ميدان الملكة فريدة، وقد ابتل جبينه عرقا، وكانت الحال لا تخلو من لذة طريفة، ذلك أنه مقبل على استجلاء جديد، واستقبال تغيير: مرقد جديد ومنظر جديد وجو جديد وجيران جدد، فلعل الطالع أن يتبدل، ولعل الحظ أن يتجدد، ولعل مشاعر خامدة أن تنفض عن صفحتها غبار الجمود وتبعث فيها الحياة واليقظة من جديد، هذه لذة الاستطلاع ولذة المقامرة ولذة الجري وراء الأمل، بل هذه لذة استعلاء خفية ناشئة من انتقاله إلى حي دون حيه القديم منزلة وعلما، ولم يكن رأى المسكن الجديد بعد، إذ بوشر نقل الأثاث منذ الصباح الباكر وهو في وزارته، وها هو ذا يقصد إليه كما وصف له، وجعل يقول لنفسه: إنه مسكن مؤقت وأنه ينبغي أن يحتملوه مدة الحرب وبعدها يأتي الفرج، وهل كان في الإمكان خير مما كان؟ وهل كان من الحكمة أن يلبثوا في الحي القديم على مرأى ومسمع من الموت المخيف؟ مضى يذرع الطوار لأنه لم يكن يحتمل الجمود طويلا، وكأنما سويت أعصابه من قلق، وكان يدخن سيجارة بعجلة دلت على انشغاله، فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره وشذوذ هندامه كهلا متعبا ضيق الصدر تلوح في عينيه نظرة شاردة تغيب بصاحبها عما حوله، كان يدنو من ختام الأربعين، عسيا أن يسترعي الانتباه بنحافة قامته وطولها واضطراب ملابسه اضطرابا يستدر الرثاء، والواقع أن تكسر بنطلونه وانحسار ذراعي الجاكتة عن رسغيه، وتلبد العرق والغبار على حرف طربوشه، وتقبض القميص ورثاثة رباط الرقبة، وصلعته البيضاوية، وسعي المشيب إلى قذاله وفوديه، كل أولئك أوهم بتكبير سنه، وفيما عدا ذلك فوجهه نحيل مستطيل، شاحب اللون، ذو رأس صغير مستطيل ينحدر خفيفا إلى جبهة تميل إلى الضيق، يحدها حاجبان مستقيمان خفيفان متباعدان، يظلان عينين بالغتين في امتدادهما وضيقهما، فهما تكادان أن تملآ صفحة الوجه الضيقة، فإذا ضيقهما ليحد بصره أو ليتقي شعاع الشمس بدتا مغمضتين واختفى لونهما العسلي العميق، وقد تساقطت أهدابهما واحمرت أشفارهما احمرارا خفيفا؛ يتوسطهما أنف دقيق وفم رقيق الشفتين وذقن صغير مدبب، ومن عجب أنه عد يوما ممن يعنون بحسن هندامهم وأناقتهم، وبدا إذ ذاك في صورة مقبولة، ولكن اليأس والحرص وما اعتراه بعد ذلك داء التشبه بالمفكرين نزع به عن أية عناية بنفسه أو بلباسه.
استقل الترام رقم «15» وقد افترت شفتاه عن ابتسامة ساخرة كشفت عن أسنان مصفرة من فعل التدخين، ومن ميدان الملكة فريدة أخذ الترام رقم «19»، وقد ارتكب خطأ سهوا، فرمى بحكم العادة بالتذكرة التي قطعها في الترام الأول وكانت توصله إلى الأزهر، واضطر أن يقطع تذكرة جديدة ضاحكا من نفسه في غيظ، وآلمه حرصه على تفاهة الغرم، والحق أنه تعود منذ زمن بعيد أن يكون رب أسرة، وإن بقي لحد الآن أعزب، بيد أنه لا ينفق مليما بغير تململ، فحرصه ليس من العنف بحيث يغله عن الإنفاق، ولكنه لا يعفيه أبدا من التألم كلما وجب الإنفاق.
Bog aan la aqoon
وانتهى إلى ميدان الأزهر، واتجه إلى خان الخليلي يتسمت هدفه الجديد، فعبر عطفة ضيقة إلى الحي المنشود؛ حيث رأى عن كثب العمارات الجديدة تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينها طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة يضل فيها البصر، وشاهد فيما حوله مقاهي عامرة ودكاكين متباينة - ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر - ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين معمم ومطربش ومقبع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابا قلقة كأعصابه، فتولاه الارتباك واضطربت حواسه، ولم يدر أيان يسير، فدنا من بواب نوبي اقتعد كرسيا على كثب من أحد الأبواب وحياه ثم سأله قائلا: من أين الطريق إلى العمارة رقم «7» من فضلك؟
فنهض البواب بأدب وقال مستعينا بالإشارة: لعلك تسأل عن الشقة رقم 12 التي سكنت اليوم؟ انظر إلى هذا الممر، سر به إلى ثاني عطفة إلى يمينك فتصير في شارع إبراهيم باشا، ثم إلى ثالث باب إلى يسارك فتجد العمارة رقم «7».
فشكره وانطلق إلى الممر مغمغما «ثاني عطفة إلى اليمين» .. حسنا ها هي ذي .. وها هو ذا ثالث باب إلى اليسار، العمارة رقم «7»، وتريث قليلا ليلقي نظرة على ما حوله. كان الشارع طويلا في ضيق، تقوم على جانبيه عمارات مربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصلي، وتزحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت؛ فحانوت ساعاتي وخطاط وآخر للشاي ورابع للسجاد وخامس رفاء وسادس للتحف وسابع وثامن ... إلخ إلخ، وتقع هنا وهناك مقاه لا يزيد حجم الواحدة على حجم حانوت ، وقد لزم البوابون أبواب العمارات بوجوه كالقطران وعمائم كالحليب وأعين حالمة كأنما خدرتها الروائح العطرية وذرات البخور الهائمة في الفضاء، والجو متلفع بغلالة سمراء كأن الحي في مكان لا تشرق عليه الشمس، وذلك أن سماءه في نواح كثيرة منها محجوبة بشرفات توصل ما بين العمارات، وقد جلس الصناع أمام الحوانيت يكبون على فنونهم في صبر وأناة ويبدعون آيات بينات من أفانين الصناعة، فالحي العتيق ما يزال يحتفظ لليد البشرية بقديم سمعتها في المهارة والإبداع، وقد صمد للحضارة الحديثة يلقى سرعتها الجنونية بحكمته الهادئة، وآليتها المعقدة بفنه البسيط، وواقعيتها الصارمة بخياله الحالم، ونورها الوهاج بسمرته الناعسة. قلب فيما حوله طرفا حائرا وتساءل ترى هل يستطيع أن يحفظ هذا الحي الجديد كما كان يحفظ حيه القديم؟! وهل يمكن أن يشق سبيله يوما وسط هذا التيه تقوده قدماه وقد انشغل فكره بما ينشغل به من أمور دنياه؟ ثم اقتحم الباب مغمغما: «بسم الله الرحمن الرحيم» وارتقى درجات سلم حلزوني إلى الطابق الثاني حيث عثر بالشقة رقم «12»، وابتسمت أساريره لرؤية الرقم كأنه قديم عهد به وآنس إليه في وحشته، ودق الجرس، فانفتح الباب، وظهرت أمه على عتبته تلوح في ثغرها ابتسامة ترحيب، وأوسعت له مستضحكة وهي تقول: «أرأيت إلى هذه الدنيا العجيبة!» فجاز الباب وهو يقول مبتسما: «مبارك عليك البيت الجديد!» فضحكت عن أسنان مصفرة لأنها كانت مولعة بالتدخين كابنها وقالت بلهجة المعتذر: قصارى ما وسعنا اليوم أن نفرش حجرتك وحجرتنا ... وكان يوما متعبا حقا، ولقد كسرت قائمة أحد الكراسي على ما بذلنا من حرص، وتقشر مسند سريرك في بعض المواضع.
ووجد أحمد نفسه في صالة صغيرة مزدحمة بأحزمة المتاع والمقاعد وقطع الأثاث، وضعت السفرة في وسطها وحملت بالآنية ولفات الأبسطة، وكان بها بابان على يمين الداخل وفي مواجهته، فنظر فيما حوله في صمت، أما الأم فراحت تقول: الله يعلم أني لم أذق للراحة طعما في يومي هذا، فيا لشقاء الأم التي لم تنجب أنثى تستعين بها عند الحاجة، ولقد هربت أنت إلى وزارتك وقبع أبوك في حجرته كعادته، ولم يتورع - غفر الله له - أن سألني منذ هنيهة عما هيأت لكم من طعام؟ كأنما يسأل ساحرة تقدر على كل شيء! ولكن من حسن الحظ أن حينا الجديد غني بمأكولاته السوقية، ولقد أرسلت الخادم لتبتاع لنا طعمية وسلطة وباذنجانا ...
فتحلب ريق أحمد لسماع اسم الطعمية ولاح الرضا في بريق عينيه، ثم سأل أمه: وهل ارتاح أبي واطمأن؟
فابتسمت المرأة ابتسامة لطيفة دلت على أن بلوغها الخامسة والخمسين لم يفقدها كل ما كان لها من دلال أنثوي، وقالت: ارتاح واطمأن والحمد الله، وعسى أن يصدق رأيه، ولكن الشقة صغيرة والحجرات ضيقات، فحشرنا الأثاث فيها حشرا، و«اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين»!
وجعل يصغى إلى أمه ويتفحص ما حوله، فرأى ردهة تمتد على يسار القادم، وعلى يمينها تقع حجرتان، وفي الناحية المقابلة المطبخ والحمام، وقد أشارت أمه إلى الحجرة التي تواجه باب الشقة الخارجي وقالت له: «حجرتك». أما حجرتا الردهة فقد أعدت أولاهما لنوم والديه، وقالت أمه عن الأخرى: «سنحتفظ فيها بأثاث أخيك ونتركها خالية على ذمته».
ومضى الرجل إلى حجرة والده فرأى الشيخ مقتعدا سريره تلوح في عينيه نظرة هدوء واستسلام، وكان عاكف أفندي كابنه طويلا نحيفا، ذا لحية كثة بيضاء، وقد وضع على عينيه عوينات غليظة بعثت في نظرته الذابلة بريقا خداعا، وقد حدج ابنه بحذر وريبة وتوثب لرد العدوان إذا حدثت الرجل نفسه بالتهكم به بسبب النقل إلى البيت الجديد، وحياه أحمد وقال له: مبارك يا أبتي!
فقال الشيخ بهدوء: الله يبارك فيك. كل شيء بأمره!
فهز أحمد رأسه وقال: ولكننا بالغنا في خوفنا مبالغة تنكبت بنا عن جادة الصواب، ألا ترى يا أبتي أن ما بين السكاكيني وخان الخليلي أدق من أن يدركه الطيار المحلق في السماء؟!
Bog aan la aqoon
فقال الأب بحزم: هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين!
فابتسم أحمد وقال: وإذا ضرب خطأ كما ضرب السكاكيني خطأ من قبل؟!
فقال الرجل وقد ضاق صدره: لا تجادل في الحق، إني متفائل بهذا المكان خيرا، وأمك به راضية، وإن كانت ثرثارة لا تعرف الحمد والشكر، وأنت نفسك مطمئن راض، ولكنك تدعي حكمة زائفة، وتتظاهر بشجاعة كاذبة، هلم فاخلع ثيابك ودعنا نتناول غداءنا!
فابتسم أحمد، وتراجع إلى حجرته وهو يقول لنفسه: «صدق أبي.» وألقى على حجرته نظرة فاحصة، فوجدها قد وسعت أثاثه تحت ضغط محا ما كان لها من تناسق؛ فعلى الشمال الفراش، وعلى اليمين صوان الملابس، تليه المكتبة كدست على كثب منها الكتب، وكان بها نافذتان فرغب أن يلقي نظرة عجلى من كل منهما، فدلف من اليمنى وفتحها، وكانت تطل على الطريق الذي جاء منه، ومنها استطاع أن يتبين معالم الحي من عل، فرأى أن العمارات شيدت على أضلاع مربع كبير المساحة، وأقيمت في مساحة المربع التي تحيط بها العمارات مربعات صغيرة من الحوانيت تلتف بها الممرات الضيقة، فكانت نوافذ العمارات وشرفاتها الأمامية تطل على أسطح الحوانيت، وتأخذ نصيبها من الهواء والشمس، ولا يحجب عنها بقية العمارات حجاب، فكان الناظر من إحدى النوافذ الأمامية يرى مربعا كبيرا من العمارات ينظر هو من نقطة في أحد أضلاعه، ويرى في أسفله مربعات كثيرة من أسطح الحوانيت، تخترقها شبكة معقدة من الممرات والطرقات، ورأى فيما وراء ذلك مئذنة الحسين في علوها السامق تبارك ما حولها، فارتاح الرجل لانطلاق الفضاء أمامه لأن أخوف ما كان يخافه أن ينظر فلا يرى إلا جدرانا صماء، ثم تحول إلى النافذة الأخرى التي تواجه باب الحجرة وفتحها فرأى منظرا مختلفا، ففي أسفل طريق ضيق يوصل إلى خان الخليلي القديم مغلقة حوانيته فبدا مهجورا، وعلى الجانب الآخر من الطريق جانب من عمارة تواجهه نوافذها وشرفاتها عن قرب، ثم تبين له أن سطحي العمارتين متصلان في أكثر من نقطة، وأن أطباقهما المتقابلة متصلة كذلك بالشرفة مما جعله يحسب أنهما عمارة واحدة ذات جناحين، وفي الطرف الأيسر من الطريق يبدأ خان الخليلي القديم، وقد رآه الرجل من نافذته أسطحا بالية، ونوافذ متداعية، وأسقفا من القماش والأخشاب تظل الطريق المتشابكة، وفيما وراء ذلك تملأ الفضاء المآذن والقباب وقمم الجوامع وأسوارها، تعرض جميعا صورة من الجو للقاهرة المعزية، وكان يرى ذاك المنظر لأول مرة، فأكبره على نفوره من الحي الجديد، ومضى يسرح الطرف في مشاهده الغريبة المترامية، وهي مشاهد حقيقة بأن تدهش عينين لم تألفا غير الورق، ولا عهد لهما بآيات الطبيعة أو الآثار، على أنه لم يجد من الوقت متسعا، فما لبث أن سمع نقرا على الباب وصوت أمه يدعوه قائلا: الطعمية جاهزة يا سعادة البيك.
فأغلق النافذتين وخلع بذلته، ثم ارتدى جلبابه وطاقيته، وهو يدعو ربه قائلا: «اللهم اجعله سكنا مباركا.» إلا أنه - في نفس اللحظة - وقبل أن يفارق الحجرة جاءه صوت أجش من الطريق يصيح غاضبا: «الله يخرب بيتك ويحرق قلبك يابن ...» فرد صوت آخر بأقبح مما قذف به، مما دل على أن اثنين يتقاذفان بالسباب كعادة أهل البلد، فامتعض الكهل ولعنهما ساخطا وغمغم قائلا: «أعوذ بالله من الشؤم والتشاؤم!» ثم غادر الحجرة.
2
وأكل ألذ طعمية ذاقها في حياته، وأطراها بغير تحفظ، فسر أبوه وعد ذاك الإطراء إطراء للحي الجديد، فقال بحماس كبير: أنت لا تدري عن حي الحسين شيئا، فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة رأس، هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلا ونهارا ... هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جارا ومجيرا.
ورجع بعد الغداء إلى حجرته، واستلقى على الفراش ينشد قسطا من الراحة، وقد أقر فيما بينه وبين نفسه بأن دواعي سروره بالحي الجديد لا تقل عن بواعث ضيقه به، وقلب عينيه في أنحاء الحجرة حتى استقرتا على أكداس الكتب المتراصة على كثب من المكتبة لم يهيأ لها التنظيم بعد، فثبت عليها بصره في ارتياح وسخرية، هذه كتبه المحبوبة، وجميعها باللغة العربية؛ لأنه - على عهد الدراسة - لم يصب تفوقا في الإنجليزية فأهملها مضطرا بعد ذلك وأنسيها أو كاد، وأكثر من ثلثها كتب مدرسية في الجغرافيا والتاريخ والرياضة والعلوم، وبها عدد لا بأس به من مراجع القانون ومثله من كتب المنفلوطي والمويلحي وشوقي وحافظ ومطران، ومجموعة الكتب الأزهرية الصفراء في الدين والمنطق تاه بصفرتها عجبا واعتبرها آية العلم العسير الذي لا ينفذ إلى حقائقه إلا الأقلون، وهي لا تخلو كذلك من بعض مؤلفات المعاصرين التي يعد اقتناءها تفضلا منه، هذه هي مكتبته المحبوبة أو هي جل حياته جميعا، كان قارئا نهما لا تروى له غلة، وقد أدمن على القراءة إدمانا قاتلا، وأكب عليها عشرين عاما كاملة من عام 1921 - تاريخ حصوله على البكالوريا إلى - عام 1941، فاستغرقت حياته الباطنة والظاهرة، وتركزت فيها مشاعره ونوازعه وآماله جميعا، بيد أنها امتازت منذ البدء بخصائص لم تفارقها مدى العشرين عاما، وهي أنها قراءة عامة لا تعرف التخصص ولا العمق، نزاعة إلى المعارف القديمة، سريعة مضطربة، ولعل السبب في عدم تركيزها ما كان من اضطراره إلى الانقطاع عن الدراسة بعد البكالوريا، مما لم يهيئ له فرصة منظمة للتخصص.
وكان لذلك الانقطاع آثار بالغة في حياته الاجتماعية والنفسية، لم ينج من شرها مدى الحياة، أما سببه؛ فهو أن أباه أحيل على المعاش في ذاك الوقت - وكان يشارف الأربعين - لإضاعته عهدة مصلحية بإهماله، وتطاوله على المحققين الإداريين. فأجبر أحمد عاكف على قطع حياته الدراسية والالتحاق بوظيفة صغيرة لينفق على أسرته المحطمة ويربي أخويه الصغيرين اللذين مات أحدهما، وصار الثاني موظفا ببنك مصر وكان أحمد طالبا مجدا طموحا واسع الآمال، رغب من أول الأمر في دراسة القانون، وطمع في أن تنتهي به دراسته إلى مثل ما انتهت بسعد زغلول نفسه؛ وطوحت به الأحلام والأماني، فلما أجبر على الانقطاع عن الدراسة أصابت آماله طعنة قتالة دامية، ترنح من هولها، واجتاحته ثورة عنيفة جنونية حطمت كيانه، فامتلأت نفسه مرارة وكمدا، ووقر في أعماقه أنه شهيد مضطهد، وعبقرية مقبورة، وضحية مظلومة للحظ العاثر وما انفك من بعد ذلك يرثي عبقريته الشهيدة ويحتفل بذكرها لمناسبة وغير مناسبة، ويشكو حظه العاثر ويعدد آثامه، انقلبت شكواه فصارت هوسا مرضيا، واعتاد زملاؤه أن يسمعوه وهو يقول بصوته المتهدج: «لو أتممت دراستي - وكان نجاحي مضمونا - لكنت الآن كيتا وكيتا!» أو يقول متحسرا: «إني أدنو من الأربعين، فتصور يا صاح لو أن الحياة سارت كما ينبغي، فلم يعترض مجراها الحظ العاثر، أما كنت أكون محاميا قديما يعتز بخدمة في القضاء تناهز العشرين عاما؟! وماذا كان ينتظر من رجل في مثل جدي في غضون عشرين عاما؟!» وربما قال متأسفا: «فاتتنا ظلما أخصب فترة في تاريخ مصر، تلك الفترة التي تستهين باعتبارات السن والجاه الموروث، ويقفز فيها الشبان إلى كراسي الوزارة.» ولم يكن يفوته تتبع خطى المتفوقين من أقران المدرسة الذين واصلوا دراستهم، وليس نادرا أن يرفع رأسه عن جريدة بين يديه، ويقول بإنكار: «أتعرفون فلانا الذي يقولون عنه ويعيدون؟ .. زاملني عهد الدراسة فصلا فصلا، وكان تلميذا خاملا لا يطمع أن يدركني يوما ما!» أو يهتف متهكما «يا ألطاف الله! .. وكيل وزارة! .. ذاك الغلام القذر الذي لم يكن يعي مما يلقى عليه شيئا؟! هي الدنيا!» ثم يروح محدثا إخوانه بأي نبوغه المدرسي، وما تنبأ له به المدرسون، هكذا تلوثت عواطفه بتمرد ثائر وسخط خبيث وكبرياء حنق، واعتداد كاذب بمواهبه، مما جعل حياته عذابا متصلا وشقاء مقيما، ثم وجدت هذه العبقرية المزعومة نفسها مهملة في الدرجة الثامنة بمحفوظات وزارة الأشغال، ولكنها لم تسكن، ولم تستسلم، ولم تيأس، ومضت تلتمس السبيل إلى تحطيم الأغلال، وشق الطريق إلى الحرية، والمجد والسلطان، وكابدت التجارب، وتوثبت للمحاولة تلو المحاولة، وقد فكر أول ما فكر في التحضير - من بيته - لشهادة القانون، فهو العلم الذي انجذبت إليه آماله من بادئ الأمر، ولم يكن عن الشهادة من محيد، لأن المحاماة لم تعد اجتهادا كما كانت على عهد سعد والهلباوي، فراح يقتنى الكتب القانونية، ويستعير المذكرات، وأكب على الدارسة عاما مدرسيا كاملا تقدم في نهايته إلى الامتحان، ولكنه سقط في مادتين! وطعن كبرياؤه طعنة نجلاء، وأخرج أمام الذين تتبعوا أنباء عبقريته باهتمام، وجعل يعتذر عن إخفاقه بوظيفته، وبادعاء مرض وهمي أقعده عن مواصلة الدرس، ولم ينثن عن ادعاء المرض بعد ذلك على سبيل الاحتياط والحذر، وخاف أن يجرب الامتحان مرة أخرى، وأشفق من تعريض عبقريته للتجارب الظاهرة التي يطلع الناس على نتائجها فمال إلى العمل الحر، وبادر بإعلان احتقاره للامتحانات والشهادات، ثم أقنع نفسه بأن إخفاقه في امتحان القانون جاء نتيجة لعدم استعداده له - لا لتقصير أو قلة كفاية - وعدل عند ذاك عن دراسته ليجد المجال الطبيعي الذي خلقت له عبقريته الشهيدة، وهكذا خسر عاما وربحت مكتبته عددا لا يستهان به من كتب القانون، ثم فكر في تكريس حياته للعلم، وتحير بين الأبحاث النظرية والاختراعات العلمية أيها يختار! ثم أقلع عن فكرة الاختراع بحجة أن البلد خال من المصانع والمعامل، وهي ميادين التجارب، ومهبط الوحي الإبداعي، وركز آماله في العلم النظري، وطمع في أن يكتشف نظرية يوما ما يغير بها آفاق العلم الحديث، ويقفز إلى سماء الخلود بين نيوتن وأينشتين، وتوثبت به الهمة، فراح يبتاع ما وقعت عليه يداه من ملخصات الطبيعة والكيمياء، ويطالعها باهتمام وشغف، وبعد دراسة عام طويل وجد نفسه حيث بدأ لم يتقدم خطوة نحو هدفه البعيد، ثم اقتنع بأن التعمق في العلم يتطلب دراسة تحضيرية لم تتح له.
وغلبه الجزع وكثيرا ما يغلبه، فيئس من الدراسة العلمية النظرية، وسوغ يأسه نفسه بأن البحث النظري ليس دون الاختراع حاجة إلى المعامل ومعاهد الأبحاث، وأن جو مصر بصفة عامة لم يتهيأ بعد للعلم، ولم يجد ضرورة للاعتذار هذه المرة عن إخفاقه للغير، لأنه كان تعلم أن يخفى أهدافه عن الناس جميعا، بيد أن ذلك لم يمنعه من أن يذيع بين الزملاء والصحاب أنه يكرس وقت فراغه للمعرفة والاطلاع ... المعرفة الحرة التي تسمو على الدراسة المدرسية والشهادات الحكومية، والاطلاع العميق الذي يجعل من صاحبه عالما بعيد الغور، وضاع عام ثان زادت فيه المكتبة صنفا جديدا من كتب العلم، ثم تساءل متعبا متحيرا: ترى لأي شيء خلقت مواهبه على وجه التحقيق ..؟ لا شك أنه لم يعرف نفسه بعد. ولو عرف نفسه لحفظ وقتا - أحق به أن يحفظ - من الضياع هدرا بغير ثمرة، فما حقيقة ميوله؟! لقد انتهى من القانون والعلم ولكن ليس القانون والعلم بكل شيء، هنالك ما يضارعهما جلالا وجمالا فما سر ولعه بشوقي والمنفلوطي؟ ما طربه للبيان الساحر؟ ألا يجوز أن يكون استعداده الحق للأدب؟ وأجمل به من فن لا يستوجب التمرس به شهادة ولا دراسة مدرسية، فما عليه إلا أن يقرأ كما قرأ شوقي وحافظ ومطران من قبل. وما عتم أن استقبلت مكتبته ضيوفا جددا من أزاهر الشعر والنثر أكب عليها بشغف وحماس بلغ حد الغضب، ووقع في رحلاته على قول ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها.» فتنهد ارتياحا كأنما وقع على كنز واقتنى الأركان الأربعة، وقرأها جميعا بما طبع عليه من حماس وسرعة، فلما أن فرغ منها تساءل مسرورا: «هل صرت الآن أديبا؟» وأمسك بالقلم وصدقت عزيمته على أن يكتب، وكتب موضوعا سماه: «على شاطئ النيل» أفرغ فيه فنه وإلهامه، وأرسله بالبريد إلى إحدى المجلات، ومضى يتخيل ما عسى أن يستقبله به القراء من الإكبار والإعجاب، وكيف أنه قد يكون أول درجات الشهرة والمجد، وحسبه هذا فما يطمع في أجر غير المجد الأدبي، وظهرت المجلة وفتش عن مقاله فما وجد له أثرا، ففتر حماسه وتعثرت أمانيه في الخجل، ولكنه لم ييأس فناجى نفسه يستنظرها أسبوعا آخر، ومضت أسابيع دون أن تتاح للمقال فرصة الظهور، لقد قرأ أركان الأدب الأربعة التي يعد ما سواها تبعا لها وفروعا منها، فهو أديب بحكم ابن خلدون، وما أدراك ما ابن خلدون! فكيف لم ينشر مقاله! هل أهمل القوم نشره لأن كاتبه غير معروف؟ أو لأنه لم يستشفع إليهم بشفيع؟ أو تراهم عجزوا عن فهمه؟! وفكر في أن يذهب إلى المجلة بنفسه ليقف على حقيقة الأمر، ولكنه لم يستطع لأن خجله كان يقف له بالمرصاد دائما، ثم تناسى آثار الصدمة الأولى وكتب مقالا ثانيا عن العدالة، فلم يكن حظه أحسن من الأول، فكتب ثالثا عن «جناية الفقر على النبوغ» فلم يكن خيرا من سابقيه. وتوثب للكتابة بعناد وإصرار من ناط بها أمله الأخير فحطمت محاولاته جميعا على صخرة الإهمال الباردة، وأعاد كتابة أكثرها وأرسلها إلى مجلات مختلفة، فلم يجد بينها من ترحم أمله المعذب، وتنقذه من هاوية القنوط، وكان آخر مقال كتبه عن «تفاهة الأدب» فضاع كما ضاع إخوته، وانكسر عن محاولاته محطم النفس مطعون الفؤاد، لقد تآمر عليه سوء الحظ - عدوه القديم - وخبث طوايا النفوس ولؤم الطباع، فلم يساوره شك في قيمة مقالاته الأدبية، بل ظنها خيرا مما بدأ به المنفلوطي نفسه وما يتيه به كثير من المعاصرين، ولكنه سوء النية وفساد الطوية! .. وتبددت الأحلام جميعا، ألا ما أضيق العيش وما أظلمه! ورمى بالقلم، وتضاعف ما به من حقد وتمرد وألم، ويئس أخيرا من المجد والسلطان، وامتلأت نفسه سخطا وغضبا على الدنيا والناس، والعظمة والعظماء خاصة! وما العظمة؟ .. أو ما العظمة كما تعرفها مصر؟ .. أجاب على ذلك بكلمة واحدة: «الظروف المواتية»، بل قال عن سعد نفسه على حبه: «لقد مهد له صهره سبل النجاح، ولولا صهره ما كان سعدا الذي نعرفه.» وكان يردد كثيرا: «إن الوظائف الكبرى في مصر وراثية.» أو يقول: «إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالقحة والكذب والرياء، ولا تنس نصيبك من الغباء والجهل.» أو يقول ساخرا: «ما هؤلاء الأدباء الذين يمثلون الصحف والمجلات؟ أمن الأدب الحق أن تستعين على البروز فيه بالسياسة والحزبية؟ وهل يعجز عن بلوغ ما بلغوا من مجد كاذب إلا كريم؟» أو يقول محتدا غاضبا: «والله لو أردت أن أكون عظيما في مصر ما عجزت .. ولكن قاتل الله الكرامة!» وحرق الغضب نفسه حتى تركها شعلة من لهب غير مقدس وحطاما من رماد، ولكن الحياة لا تحتمل الغضب في كل حين، فما من معدى عن سويعات راحة وإن تكن راحة القنوط، فكان يستريح إلى اليأس كلما لج به الغضب أو الحقد. وفي تلك السويعات كان يقول لنفسه: ألا ما جدوى العناد في هذه الدنيا؟ .. إذا كنا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكر كالملائكة؟ هبني ملأت الدنيا مؤلفات ومخترعات فهل تحترمني ديدان القبر أو تلتهمني كما التهمت جثتي ريا وسكينة؟ .. الدنيا أكاذيب وأباطيل وما المجد إلا رأس الأكاذيب والأباطيل، وسلم نفسه إلى عزلة عقلية وقلبية مريرة، يئس من الحياة فهرب منها، ولكنه خال وهو يدبر عنها يائسا عاجزا، أنه يزهد فيها متعاليا متكبرا، ولذلك لم يهجر عادة القراءة، لأن الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها، فتعالى بحياة الكتب على حياة الدنيا، وظفر منها ببلسم لآلام كبريائه، واستعار ما بها من قوة، فخالها قوة ذاتية، وكأن أفكارها أفكاره وسيطرتها سيطرته وخلودها خلوده، وقد عدل - بعد إخفاقه المتواصل - عن القراءة المنظمة المحددة الهدف، واندفع يقرأ ما تقع عليه يداه، وعني عناية خاصة بالكتب الصفراء لأنها في نظره عسيرة وعزيزة المنال، وانكب على القراءة بسرعة وشراهة وأعصاب متوترة فلم يتمتع بقراءة مجدية ولا نافعة، وأصابه سوء هضم عقلي، فكان يعرف أشياء وأشياء، ولكنه لم يتقن شيئا أبدا، ولم يتعود عقله التفكير مطلقا ولكن كانت الكتب تفكر له وتتأمل بدلا منه، ولم يكن يعنيه التفكير ولا التأمل وإنما كان همه الحقيقي أن يحدث الغد بما قرأ بالأمس، وأن يحاضر الزملاء من الموظفين والصحاب - بلهجة الفيلسوف المعلم - فيما وعته الذاكرة وحفظته، ولذلك سماه موظفو المحفوظات بالأشغال «الفيلسوف» فسر بالتسمية وإن كان ما بها من التوقير يعادل ما بها من التحقير، ولم يكن للفيلسوف رأي يثبت عليه لأنه كان يقرأ ولا يفكر، وعسى أن ينسى اليوم ما قال بالأمس القريب، وعسى أن يقول غدا ما يناقض قوليه جميعا، وهو سباق إلى أي رأي ما دام فيه رضاء لكبريائه وغروره وولعه بالظهور، فلهج بالمعارضة واللجاج، فإذا قال محدثه يمين قال شمال، وإن قال أبيض قال أسود، ثم يندفع في النقاش بعنف واحتداد وضيق صدر حتى ليوشك أن يأخذ بتلابيب مناظره! وليس يعني هذا حتما أنه غبي، والحقيقة أنه كان عادي الذكاء.
Bog aan la aqoon
فلم يهبط عقله إلى البلادة والغباء ولم يعل للنبوغ فضلا عن العبقرية، ولكن خدعه عن حقيقة نفسه طموحه للمجد وهيامه بالعبقرية، فضل ضلالا بعيدا، وزاد من أسباب تعاسته ما فطر عليه من حساسية مرهفة مضطربة، فقتلت فيه روح الصبر والمثابرة، والتأمل والتفكير، فصار دماغه وعاء لخليط من معارف شتى بدل من أن يكون رأسا مفكرا، ولا شك أن الأرق الذي مرض به نصف عام من حياته كان من جملة الأسباب التي عقم به عقله، وقد أشفى به على الجنون والموت، وسهر الليالي ذاهلا أو هاذيا، ثم أدركته رحمة الله فتعافى بعد يأس، ويرجع السبب المباشر لمرضه إلى تجربة خطيرة خاض غمارها غير حافل بعواقبها، ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يوما بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتب قديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي. وطار بها الشاب سرورا وعدها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان! أوشك أن يجن لهفة وأن يذوب هياما، متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويحيي ويميت؟ ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلا ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليا بأرواح الشياطين، فاضطرب حبل أمنه وأرهقت أعصابه وصرعه الخوف والوهم، فتلقفه المرض وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت! ولم ير بدا من العدول عن سعيه والنزول عن أطماعه، فأعاد الكتب إلى صاحبها، ويئس من المجد للمرة الأخيرة بعد أن جرب جميع السبل والمسالك المفضية إليه، وجعل يتساءل في حزن بالغ: ماذا بي؟ هل حل في روح نجس ؟ لماذا أصرع دائما إذ لا يفصل بيني وبين ما أريد سوى ذراع؟! وسقط تحت أنقاض المحاولات الفاشلة والآمال الخائبة والأوهام الضائعة! واطرد مجرى الأيام وتقدم به العمر وشعوره العميق بالظلم لا يسكن ولا يهدأ، بل جعل يجد لألمه لذة غامضة، وكان يتوهم حدوث الظلم بداع وبغير داع ويتلقى ما يقضي به عليه من ألم ممتزج بتلك اللذة الخفية، وعسى أن يتساءل متحديا ساخرا: أليس جليلا أن ينهض العالم جميعه لمقاتلة إنسان فرد؟! .. أليس مما يطيب به الغرور أن يتوفر له ذلك التوفر الذي إن دل على شيء فعلى الحسد والخوف؟! بلى فقد قضى لحكمة سلفت أن يكون الشقاء نصيب العقول الفذة في هذه الدنيا!
وقد كان لالتذاذه بالألم هذا أثر في توجيه ميوله السياسية المتقلبة، فمال دائما إلى الحزب المغلوب على أمره بصرف النظر عن مبادئه السياسية، وسرعان ما يتمثل نفسه في موقف زعيمه يتلقى ما يتلقى من ضروب الاضطهاد والاعتداء وينوء بما ينوء به من ألوان التبعات والواجبات، يجد في هذا وذاك ألما لا حصر له ولذة لا شبهة فيها.
والواقع أن خلقه هذا لم يكن اتفاقا ولا تحت تأثير الإخفاق فحسب، ولكن له أصول بعيدة ترجع إلى عهد نشأته الأولى، حين كان الطفل الأول لوالديه، فدرج على الرعاية والحب والتدليل، ولكنه كان - كذلك - الطفل الذي ادخره حظه لكي ينهض بأعباء أسرة محطمة وهو دون العشرين، فلم تتلطف معه الدنيا فضلا عن أن تدلله .. ساعة واحدة! •••
لبث مستلقيا في الفراش دون أن يغمض له جفن، وجعل يقلب عينيه في سقف الحجرة وجدرانها وأرضها، وتساءل قلقا ترى هل تطيب له الحياة في هذا الحي العجيب؟! ونازعه الحنين إلى شارع قمر وحي السكاكيني والبيت القديم، وعلى أنه لم يفارقه كذلك، ذاك الشعور المشرق بالأمل الوضاء بالتطلع، ثم ملأت البيت حركة متصلة وأتاه صوتا أمه والخادم فأدرك أنهما يستأنفان نشاطهما لفرش الشقة وإعداد الحجرات، وتصاعدت إليه من الطريق ضجة مزعجة وضوضاء فظيعة، فأنكرها وأصغى إليها بانتباه فتبين له أنها أصوات أطفال يلعبون ويغنون، وكأنه ضاق برقاده ذرعا فنهض إلى النافذة المطلة على العمارات وفتحها وراح ينظر منها إلى الطريق، فرأى جماعات من الصبيان والبنات يملئون الطريق متصايحين متضاحكين وقد انقسموا فرقا، أكب كل فريق على رياضة، فبدا الطريق وكأنه ناد رياضي ساذج فهذه جماعة تلعب بالجديد وتلهب الأكف بالطرة، وهذه جماعة تلعب بالبلي، وتلك عصبة تحجل وتلك أخرى تتصارع، واقتعد الصغار الطوار يرقصون ويغنون ويصفقون. اضطربت الأرض وضج الجو وثار الغبار فأيقن أن لا قيلولة منذ اليوم! وسمع أناشيد عجيبة «يا عم يا جمال ...» و«يا أولاد حارتنا توت توت» و«الجبل ده عالي يا عمي» ... إلخ إلخ، فحار بين الدهشة والحنق والسرور! ثم تصاعد صوت جهوري أجش غليظ السرات يصيح كالرعد القاصف «ملعون أبو الدنيا!» وكرر صياحه بصوت منغوم على إيقاع كفين شديدتين! .. وكان الصوت صاعدا على الأرجح من دكان تحت النافذة مباشرة ولكن من داخلها فلم يستطع رؤية ذلك الذي يتغنى بسب الدنيا، ولكنه لم يتمالك نفسه فأغرق في الضحك حتى تورد وجهه الشاحب، واشرأب بعنقه النافذة فاستطاع أن يرى لافتة الدكان وقد نقش عليها بخط جميل «نونو الخطاط» .. ترى هل يكتب الرجل لوحات في سب الدنيا ويبيعها للمتذمرين والساخطين؟ .. ألا ما أجدر أن يبتاع منها ما يشفي غليله!
3
واختفى شعاع الشمس المنعكس على زجاج النافذة العليا من العمارات التي تواجه نافذته، فأدرك أن الشمس تغيب وراء قباب القاهرة المعزية بالجهة الخلفية، وصعد بصره إلى مئذنة الحسين السامقة تنطلق بجلال في غلالة من ظلال المغيب فهزت مشاعره وأيقظت قلبه، ثم ارتفق حافة النافذة يردد ناظريه ما بين أسطح الدكاكين التي تتوسط العمارات، والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني، والممرات المتقاطعة، رأى نوافذ مغلقة وأخرى شبه مفتوحة وشرفات تسعى فيها ربات البيوت يجمعن الغسيل أو يملأن القلل، وقد أوشك الطريق أن يخلو من الصبية كأنما أفزعها دنو الليل، وكان يرغب أن ينطلق إلى الخارج ليرى عن كثب مشاهد الحي الجديد، ويكتشف طرقاته ومسالكه، ولكن غلبه التعب على رغبته لما بذل من جهد في تنظيم مكتبته، هذا إلى تعوده لزوم البيت حتى ندر أن يفارقه بعد عودته من الوزارة، فأجل تنفيذ رغبته، وترك النافذة فتربع على شلتة - وهي جلسته المختارة إذا تهيأ للقراءة - واستخرج من المكتبة كتابا يقرأ فيه حتى يأزف ميعاد النوم.
وكان والده في تلك الأثناء يتربع على سجادة الصلاة والمصحف بين يديه يتلو ما تيسر منه في صوت مسموع، غير منتبه إلى أخطاء القراءة العديدة التي يتتابع عثوره بها، كان عاكف أفندي أحمد في الستين من عمره، وقد أرسل لحية بيضاء أكسبت وجهه النحيل وقارا، وفرض على نفسه عزلة قاسية عقب إحالته على المعاش وهو في أواسط العمر ومشرق الآمال وبدا كأنه كرس حياته للعبادة وتلاوة القرآن، ولم يكن يفارق البيت إلا فترات متباعدة للتريض المنفرد أو زيادة الأضرحة، وربما كان لعسره المالي - إذ لم يجاوز معاشه ستة جنيهات - الأثر الأول فيما اتخذ في حياته من نظام، ولكنه رضي أخيرا عن طيب خاطر بحياته وألفها، بل وأحبها أيضا شاكرا حامدا، وكانت أقسى أيام حياته وآلمها تلك التي أعقبت إحالته على المعاش، فقد انقطع مورد رزقه أو كاد، وتهددت الفاقة أسرته البائسة، وأجبر على اعتزال العمل والنشاط، وأقصي عن الوظيفة وجاهها، وهب كالمجنون للذود عن كيانه، فسعى واستشفع بكل شفيع، ولكن ذهبت مساعيه أدراج الرياح، قدم العريضة تلو العريضة، والالتماس وراء الالتماس دون جدوى أو رجاء، حتى علم أخيرا بالحقيقة المحزنة وهي أن باب الحكومة قد أغلق دونه إلى الأبد، وكان في الحقيقة طاهر اليد، إلا أنه ثبت إهماله وجاء تطاوله على المحققين فزاد الطين بلة، ثم لم يسكت بعد ذلك عن شكوى الظلم والظالمين، واستنزال اللعنات عليهم أجمعين، وراح تحت تأثير الغضب والحنق واليأس يتهكم بالحكومة والموظفين، ويقول إنه أحيل على المعاش لأنه أبى أن تمس كرامته، وأن الوظيفة أضيق من أن تتسع لإنسان يحترم نفسه، وبعد أن كان ينكر تطاوله على هيئة المحققين، جعل يفاخر به ويبالغ فيه، ولم يعد له حديث سواه، فصار ضحكة المتغامزين، وفقد عطف الصحاب والأقارب، وحافظ بادئ الأمر على صلته بالناس، فتردد على قهوة فيتا بغمرة يلاعب بعض الصحاب النرد، ولكن خلقه ساء بعد فاجعته، فأصبح ضيق الصدر سريع الغضب، فاحتد يوما على لاعب فانفجر الآخر هائجا وصاح به: «يا طريد الحكومة!» فلم تطأ قدمه قهوة بعد ذلك، وانزوى بعيدا عن الناس والدنيا، واختار العبادة ملاذا وسكنا، ولم يعد للماضي أثر في نفسه، وسارع بالشفاء إليه نهوض ابنه أحمد بأعباء الأسرة، وكان الابن قد ورث عن أبيه تبعته ومرضه!
على أنه لا ينبغي أن نهمل عاملا هاما في شفاء الأب، وهو الأم. حوت منذ البدء مزايا لا يستهان بها في حساب السعادة العائلية، فتمتعت بنصيب موفور من الحسن الذي رمقته القاهرة على أيام شبابها بعين الإكبار والإعجاب، وما زالت - وقد شارفت الخامسة والخمسين - على وسامة وقسامة، وولع بالصبغ والألوان، وذوق في الأزياء، وما زالت لحيمة جسمية، وإن اعتورها الاسترخاء، خبيرة بوصفات السمن والتجميل، مشهورة بخفة الروح والدعابة اللطيفة والنادرة الحلوة، لا تضاهيها امرأة في قدرتها على أن تألف وتؤلف، فكثرت صويحباتها، وتعددت البيوت التي تزورها وتستزيرها، واستقبلها النسوة والأوانس بالسرور والغبطة شأن أعضاء الأسرة، ولذلك لم تتأثر بالضائقة التي نزلت ببيتها، فلما انقبضت يد بعلها عنها انبسطت لها أيادي الصديقات الحبيبات بالهدايا، فحافظت على مستواها المعهود من الأناقة والتجميل، وكانت لها على زوجها دالة، فمسحت عن صدره الحزن بلطفها ودعابتها وتفاؤلها، وكانت تقول له ضاحكة: «لقد انتهيت يا عاكف أفندي من الحكومة، فافرغ لي!» أو تداعب لحيته قائلة: «من أجل الورد ينسقي العليق!» ولكن كان صدرها يضيق إذا رأت بعلها مكبا على القرآن، وبكرها عاكفا على مكتبه، فتصيح بهما: «هلا علمتماني القراءة لأجاور معكما؟!» ولشد ما أحنقها أحمد بإهماله نفسه، فكانت تروح على خديها كأنها تلطمهما وتهتف مؤنبة: «كبرت أمك وجعلت سمعتها كالطين! هاك الكواء فما لبذلتك مسترخية متقبضة؟! .. وهاك الحلاق فما لذقنك مخضرا؟! .. والدنيا بالأفراح حافلة، فما انزواؤك بين الكتب الصفراء؟! كيف تركت رأسك يصلع وقذالك يشيب؟! .. كبرتني .. كبرتني .. كبرتني! ..» فكان أحمد يبتسم إليها ساخرا ويغيظها قائلا: «الطمي كيف شئت ألست في الأربعين؟!» فيهولها التصريح بالحقيقة الفظيعة، وتنهره قائلة: «اخرس قطع لسانك الطويل .. هل رأت الدنيا قبل اليوم ابنا يدعى عمر أمه؟!»
ومع ذلك فلم تخل حياتها من الحزن، كانت مريضة، أو هكذا توهمت، ولكن لم يأس على مرضها أحد ممن حولها، وقد اقتنعت على مر السنين بأن عليها أسيادا، وبأن لا شفاء لها إلا بالزار، وطالما توسلت إلى بعلها ليسمح لها بإقامة حفلة زار، ولكن الرجل لم يصغ إلى توسلاتها، واستقبح أحمد الفكرة وإن لم يساوره شك في وجود العفاريت، وكان قريب عهد - وقتذاك - بالتجربة التي أوشكت أن تنتهي بجنونه، فيئست المرأة من استمالتهما، وقنعت بشهود حفلات الزار إذا اتفقت في بيوت الصديقات، حتى قال أحمد يوما متعجبا: «حقا إن أسرتنا ضحية الشيطان .. ألم يغر والدي بتحد لكلب حقير من الموظفين ففقد وظيفته؟! .. وألم يحضني على تعلم السحر فأشفيت على الجنون؟! وها هو ذا يركب أمي ويهيئ لها خرابنا!»
ولكن الله سلم فقد غلب مرح الست دولت - أم أحمد - على حزنها، كما غلبت الحناء على ومضات المشيب بمفرقها. •••
Bog aan la aqoon
لم يستطع أحمد أن يركز انتباهه في القراءة لما أحدثه تغير المكان في نفسه من اليقظة والقلق، فمضى في مطالعة فاترة متقطعة ومضى من الليل ساعة فسكنت ضوضاء النهار، ولكن لتحل محلها ضوضاء أشد وأفظع سرعان ما جعلت الحي جميعه كمسرح من مسارح روض الفرج الشعبية، أما مصدرها فالقهاوي العديدة المنتشرة في جوانب الحي، فالراديو يذيع أناشيده وأحاديثه بقوة وعنف فكأنه يذيع في كل شقة، والندل لا يكفون عن النداء والطلب في أصوات ممطوطة ملحنة «واحد سادة ... شاي أحضر ... تعميرة على الجوزة ... وشيشة حمي ...» ودق قطع النرد والدمينو وأصوات اللاعبين! فخال نفسه في طريق مزدحم بالمارة لا في شقة، وعجب كيف يحتمل أهل الحي ضوضاءه أو كيف يغمض لهم جفن؟!
ولم يزل ملازما الشلتة حتى بلغت الساعة التاسعة فقام لينام، وأطفأ المصباح ورقد على الفراش بعد أن أحكم غلق النافذتين، ولكن الضوضاء لم تزل تملأ حجرته وتدوي في أذنه، فذكر سكون السكاكيني في مثل هذه الساعة من اليوم وتأسف من الأعماق، ثم لعن الغارات التي أجبرتهم على هجر مسكنهم القديم الهادئ، فاستثار ذكرى تلك الليلة الجهنمية التي زلزلت القاهرة زلزالا مخيفا، وملأت الذكرى شعوره وضاعف من تأثيرها جثوم الليل حتى لم يعد يحس من ضوضاء الطريق ركزا ولا همسا.
كانت الدنيا نائمة - تلك الليلة المفزعة - يستقبل ليلها هزيعه الأخير وكما تعودت القاهرة في مثل تلك الساعة من الليل أطلقت صفارات الإنذار نعيرها المتقطع الذميم، فاستيقظت الأسرة ونهض أحمد لإطفاء المصباح الساهر في الصالة الخارجية ثم عاد إلى رقاده ليغط في النوم مرة أخرى شأنه كل ليلة، إذ لم تعرف القاهرة قبل تلك الليلة إلا الغارات الاستكشافية ولم تسمع سوى طلقات المدافع المضادة للطائرات. ولكنه لم يسكن إلى النوم وراح يرهف أذنيه رافعا رأسه عن الوسادة في دهشة وانزعاج، فقد سمع بوضوح أزيز طيارات ما في ذلك من شك، اتصل وقعه لا يغيب ولا يهن، بل جعل يزيد وضوحا ويعلو شدة، فضاق به صدرا وامتلأ منه رعبا، ولكن خاطرا طمأنه بعض الاطمئنان، فلم يفصل بين سكوت الصفارة وسماع الأزيز إلا دقيقة أو بعض دقيقة، وهي مدة غير كافية بطبيعة الحال لوصول الطيارات المعادية، حيث يسبق الإنذار وصول الطيارات بربع ساعة على الأقل، فبات مرجحا أن تكون الطيارات إنجليزية حلقت للمطاردة، وانتظر أن ينقطع الأزيز ولكنه اتصل اتصالا مرهقا للأعصاب وكأن الطيارات اختارت بيتهم مركزا تدور من حوله، ونهض ثانية وغادر الحجرة يتلمس طريقه في الظلام إلى حجرة والديه وقال عند الباب بصوت مسموع: «هل أنتما مستيقظان؟» فجاءه صوت أمه قائلا: «لم ننم بعد، أما تسمع شيئا؟» فأجاب أحمد: «بلى أزيز طيارات .. وقد سمعته عقب الإنذار مباشرة!» فقال والده: «الأغلب أن تكون إنجليزية.» فقال أحمد: «لعلها!» وطمأنه اتفاق الظن بينه وبين أبيه فعاد إلى حجرته، وقبل أن يمس جنبه الفراش أضاءت الحجرة المظلمة بنور عجيب آت من الفضاء أعقبه صفير مبحوح انتهى بانفجار شديد دوى في سماء القاهرة دويا شديدا مزعجا، فانتفض رعبا وتولاه فزع جنوني وقفز نحو الباب لا يلوي على شيء، وضاعف من رعبه أن الحجرة لم تزل مضاءة بذاك النور الوهاج الذي اخترق نوافذها من الخارج داعيا القذائف إلى أهدافها وتتابعت الانفجارات الشديدة واختلط تفجرها بذاك الصفير المبحوح الممقوت، فارتجت الأرض ارتجاجا وزلزل البيت زلزالا، ولم ينقطع الضرب لحظة واحدة وبدا كأن السماء ستظل تقذف الأرض بهاتيك الرجوم الشيطانية في ذاك العناد الشيطاني الجبار، ووجد والديه في الصالة، الأب معتمدا ذراع الأم يوشك أن يسقط صريع الفزع والإرهاق، فهرع إليهما وتأبط ذراع والده وصاح بهما «هلما إلى مخبأ العمارة» ومضوا مسرعين تتقدمهم الخادم، وتساءل بصوت متهدج مضطرب «ما هذا النور؟ هل شب حريق في الخارج؟» فقال أحمد وهو يعالج أنفاسه المضطربة ويتبين مواقع قدميه من السلم: «هي مصابيح المغنسيوم التي قرأنا عنها في الجرائد.» فقال الرجل: «ربنا يلطف بنا.» وكان السلم مكتظا بالهابطين الداعين الله من قلوبهم الواجفة، وكلما حدث انفجار ارتجت الجدران وتعالى صراخ يصم الآذان وصوت النسوة وأعول الأطفال، وانطفأ نور المغنسيوم فجأة والضرب في عنفوانه والموت في حومانه فساد الظلام، وحدث هرج ومرج، فزلت أقدام وعثر أناس وزاد الفزع والارتباك، ثم بلغوا مخبأ العمارة - البدروم - بعد جهد جهيد. وكان مضاء بمصباح خافت، مغطاة نوافذه بستائر كثيفة سوداء، واعتمد سقفه على عمد أفقية قامت على عمد حديدية رأسية، ووضعت حول جدرانه أكياس من الرمل. وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت وجوه تعلوها صفرة الموت، جاحظة عيونها مرتجفة أوصالها، هاذية ألسنتها، ووقفوا ثلاثتهم متقاربين يذوبون لهفة أن يكف الضرب لحظة واحدة فيأخذوا أنفسهم ويبلوا ريقهم، ولكن الضرب اشتد وبدا من اشتدد الانفجارات أنه أخذ يقترب منهم! وهنا حرك ساقيه في الفراش فزعا من هول الذكرى وهو يغمغم: «تبا لها من ليلة!» وتنهد من أعماق صدره وفتح جفنيه، فعادت ضوضاء الحي إلى وعيه، وذكر أنه رقد لينام لا ليستذكر آلام أفظع ليلة في حياته، ولكن هيهات ... لقد هجمت عليه الذكرى بقوة لا تقاوم ... أجل، أخذ الضرب يقترب، بل انفجرت قذيفة خال القوم الفزعون أنها انفجرت في صدورهم ورءوسهم، فرفعوا أيديهم كأنما ليتقوا بها السقف إذا انهار واشتد الصراخ والدعاء وجرى اسم الله على كل لسان، وقوي شعور مفزع بأن القذيفة الثانية ستسقط على رءوسهم! وهوت القذيفة التالية! .. رباه هل يمكن أن ينسى ذاك الصفير المبحوح - صفير الموت - وهو يهبط عليهم لا مهرب منه ولا مفر؟ .. وكيف تقلقلت العمارة وطقطقت النوافذ قبل أن تبلغ القذيفة الأرض! .. ثم كيف دوى الانفجار فصك الأسماع وصم الآذان ورج الأمخاخ ومزق الأعصاب وخنق الأنفاس! .. لقد تقوست الظهور في انتظار المقدور .. وقبض اليأس القلوب .. وتعجلت النفوس النهاية مختارة الموت على انتظاره .. أجل لم يعد بينهم وبين الموت إلا قذيفة لعلها تغادر في تلك اللحظة مكمنها من الطيارة ... ولكن القذيفة - وهنا ابتسم ابتسامة حزينة - لم تسقط! .. أو سقطت بعيدا، فقد ابتعد الضرب سريعا كما جاء سريعا، لم يجئهم الموت كما أوهمهم .. أراهم وجهه ولكن لم يذقهم طعمه .. أو أجل ذلك لليلة أخرى، فباعد الضرب، ثم خف عن ذي قبل، وبات متقطعا ثم انقطع فلم يعد يسمع إلا طلقات المدافع، ثم ساد السكوت! .. واسترد التعساء أنفاسهم، وتبادلوا نظرات الشك والرجاء، وانفكت عقد ألسنتهم فهذوا كالمجانين، ومضت ربع ساعة رهيبة ثم انطلقت صفارات الأمان! .. يا رحمة الله! .. هل ذهب الموت حقا؟ .. هل يدركهم نور الصباح؟ ودبت الحركة وأضيئت الأنوار وانطلق أناس إلى الخارج وجاء آخرون من الجهات القريبة، وانتقلت روايات، قالوا العباسية خراب .. أما مصر الجديدة فقل عليها السلام، وقصر النيل أمست أثرا بعد عين، ومخازن الترام دمرت وجثث العمال أكوام!
وصعدوا إلى شقتهم يغمر صدورهم سرور عصبي، سرور من نجا من الموت وعقابيل الخوف لم تزل ناشبة في صدره؛ ومضوا بقية الليل أيقاظا يتكلمون، وفي نهار اليوم الثاني بدأ الحي وكأنه قد أزمع الهجرة، وتتابعت عربات النقل تحمل المتاع الضروري إلى الأحياء التي حسب الناس أنها آمنة أو إلى القرى المتاخمة للعاصمة حتى خلت عمارات من ساكنيها، وضاعفت مناظر الهجرة من خوف الأسرة، خصوصا الأب الذي تضعضع قلبه الضعيف من عنف الغارة، فنشأت في رأسه فكرة الهجرة مع المهاجرين، وإذا كان من المتأثرين بدعاية المحور الإسلامية فقد اعتقد اعتقاد راسخا في أن حيا دينيا كحي الحسين لا يمكن أن يقصده المغيرون بسوء، فجد في البحث عن مسكن فيه، فاهتدى إلى هذه الشقة، وكان النقل .. وإن ينس لا ينس اليوم الذي أعقب ليلة الغارة، فلم يكن للقاهرة حديث إلا حديث الليلة الماضية واستفاض الناس في الكلام بأعصاب متوترة ونفوس قلقة، وضحكوا جميعا ضحكا فيه سرور النجاة وتوتر الخوف، وشعر أحمد بدنو الموت دنوا جعله يحس تردد أنفاسه على وجهه، بل هنالك ما هو أفظع من الموت نفسه، كأن يلقى به إلى قارعة الطريق مقطع الأوصال أو مشطور الرأس، وربما ألحق بعد ذلك بذوي العاهات المستديمة، أو كأن ينجو من الموت ويدك البيت بما فيه فيجد نفسه وأسرته بلا مأوى وبلا أثاث وبلا لباس! وجعل يدعو ربه ويستشفع بنبيه، فالحياة محبوبة ولو كانت خائبة بائسة، وأعجب من هذا أنه مال إلى الترفيه عن نفسه وتهيئة السرور لها ما أمكن، فغلب حرصه الطبيعي وابتاع لدى عودته إلى البيت صندوق بسكوت بالشوكولاتة وهو طالما اشتهته نفسه وحرمها إياه حرصا على القليل من النقود التي تعود أن يودعها صندوق التوفير كل شهر، ولكن عندما أتى المساء غشي القلوب هم وكآبة، وبات الكل في ذعر عظيم، ولم يغمض لإنسان جفن، وتيقظت ذكريات الليلة المفترسة، واختلت الحواس، فصار كل نفير صفارة إنذار، وكل صفقة باب انفجار قنبلة، وكل خشخشة أزيز طيارة! .. وها هم أولاء قد انتقلوا فهل تطمئن قلوبهم حقا؟! العمارات حديثة البناء متينة، ولها مخبأ يضرب بقوته المثل وهذا جوار الحسين .. ولكن ألم تدك حصون وتخرب جوامع؟! آه لكم يعذبنا حب الحياة، ولكم يقتلنا الخوف، ومع ذلك فالموت لا يرحم، وبالتفكير فيه يبدو أي جليل تافها. كم حمل نفسه ما لا طاقة لها به من الحزن والغضب .. ففيم كان ذاك؟ وسمع عند ذاك الراديو يذيع السلام الملكي ، فأدرك أن ساعتين مضتا في أرق وقلق، فجزع وراح ينشد النوم بمطاردة الأفكار، ولكنه لم يظفر بأفكاره، وبالعكس ظفرت هي به، فغمره سيل الذكريات الزاخر، فذكر كيف اقترح على والديه أن يسافرا إلى أخيه الأصغر في أسيوط - مقر عمله - فيبتعدا عن الخطر حقا، وكيف قالت له أمه: «بل نبقى إلى جوارك فإما أن نعيش معا وإما ...» ثم استضحكت مستعيذة بالله! .. ماذا كان يفعل لو وافقها على السفر؟ .. كان أسهل الحلول أن ينزل في بنسيون، والحق أنه رحب بالفكرة في أعماقه لأنه يروم التغيير وهو لا يدري، وكيف يروم التغيير أعزب قضى أربعين عاما في بيت واحد يكابد حياة رتيبة لا فرق بين يوم منها وبين عام ترهقها عزلة وحشية؟! .. فمهما ألف هذه الحياة وتعودها لا بد أن تنزع به النفس ولو في خفاء إلى التغيير .. والتغيير الكامل! .. إلا أنه لم يستسلم هذه المرة طويلا إلى أفكاره، فقد طرقت أنفه رائحة غريبة أوقفت تيار أحلامه! .. ذابت في خيشومه فجأة كأنما حملتها إليه هبة نسيم كان من قبل راكدا، ونبهه إليها أنه كان يشمها لأول مرة في حياته، وتحير كيف يصفها، فما كانت رديئة ولا كانت زكية ولكن تطيب بها النفس، وفيها هدوء، وعمق، وإلا فما نفاذها إلى قرارة الإحساس؟! وما كانت تنقطع إلا لتعود .. فهل بخور يحترق في هذه الساعة من الليل؟! أم يكون لهذا الحي الغريب أنفاس تتردد في أعماق السكون؟!
وغاب به التفكير في الرائحة الغريبة عن أفكاره فتهيأ للنوم وهو لا يدري ... وما لبث أن استرق الكرى خطاه إلى جفنيه فأخذ بمعاقدهما.
4
وعند الساعة السابعة من صباح اليوم الثاني كان جالسا إلى السفرة يتناول فطوره الذي يتكون عادة من فنجان قهوة وسيجارة ولقمات من الجبن أو قليل من الزيتون، وغادر الشقة فصار في الردهة الخارجية التي تفصل بين الشقق، وقبل أن يبلغ السلم سمع وقع قدمين خفيفتين وراءه فنظر خلفه فرأى فتاة في أولى سني الشباب مرتدية مريلة مدرسية زرقاء ومتأبطة حقيبة الكتب، وقد التقت عيناهما لحظة خاطفة ثم أعاد رأسه وقد تولاه ارتباك، والارتباك طبيعته إذا التقت عيناه بعيني أنثى! ولم يدر هل الأليق أن يسبقها إلى الطريق أو أن يتنحى لها جانبا فزاد ارتباكه وتورد وجهه الشاحب وبدا فيلسوف إدارة المحفوظات بوزارة الأشغال كالطفل الغرير يتعثر حياء وخجلا! .. وتوقفت الفتاة كالداهشة، وانتقلت إليها عدوى ارتباكه، فلم يجد بدا من أن يتنحى جانبا وهو يهمس بصوت لا يكاد يسمع: «تفضلي!» فمضت الفتاة إلى حال سبيلها وتبعها متثاقلا متسائلا أأصاب يا ترى أم أخطأ؟ .. وبم حدثت نفسها عن تردده وارتباكه؟! .. وعند باب العمارة أيقظه صوت جهوري من أفكاره يصيح: «ملعون أبو الدنيا!» فالتفت إلى يسراه فرأى نونو - كما ظن - يفتح دكانه، فسري عنه وابتسمت أساريره وغمغم: «يا فتاح يا عليم!» ثم سار في طريقه والفتاة على بعد منه غير بعيد حتى بلغت السكة الجديدة، فانعطفت إلى يسارها ومضت نحو الدراسة، وواصل هو مسيره إلى محطة الترام. ولم يكن رأى من وجهها سوى عينيها، استقرت عليهما عيناه لحظة حين التفاتته إليها. عينان نجلاوان، ذواتا مقلتين صافيتين وحدقتين عسليتين، بدتا لغزارة أهدابهما مكحلتين، تقطران خفة وجاذبية، فحركتا مشاعره، وكانت الفتاة تتخطى عتبة الشباب اليافع، فلا يمكن أن يجاوز عمرها السادسة عشرة، بينما هو في الأربعين، فأكثر من عشرين عاما تفصل بينهما! ولو أنه تزوج في الرابعة والعشرين - وهي سن زواج معقول - لكان من المحتمل أن يكون أبا لفتاة في مثل عمرها ونضارتها! وأخذ مجلسه من الترام وهو ما زال يتصور تلك الأبوة التي لم تتحقق.
وسرعان ما خمدت نشوة التأثير بالعينين، وفتر حماس الحنين إلى الأبوة، واجتاح صدره انفعال عنيف قاتم شأنه إذا اقترب من أنثى أو اقتربت أنثى منه، ذلك أنه يحب النساء حب كهل محروم، ويخافهن خوف غرير خجول، ويمقتهن مقت عاجز يائس. فأية أنثى جميلة تترك في وجدانه انفعالا شديدا، يضرب في أعماقه الحب والخوف والمقت. وقد كان لنشأته الأولى أكبر الأثر في تكييف طبيعته الشاذة، فخضعت طفولته لصرامة أبيه وتدليل أمه، صرامة ترى القهر عنوان الحنان ، وتدليل محبة ومغرم لو ترك الأمر له ما علمه المشي خوفا عليه، فنشأ على الخوف والدلال، يخاف أباه والناس والدنيا، ويأوي من خوفه إلى ظل أمه الحنون، فتنهض بما كان ينبغي أن ينهض به وحده، فبلغ الأربعين ولم يزل طفلا، يخاف الدنيا وييأس لأقل إخفاق، وينكص لدى أول صدمة، وما له من سلاح سوي سلاحه القديم البكاء أو تعذيب النفس، ولكن لم يعد يجدي هذا السلاح؛ لأن الدنيا ليست أمه الحنون فلن ترق له إذا امتنع عن الطعام، ولن ترحمه إذا بكى، بل أعرضت عنه بغير مبالاة، وتركته يمعن في العزلة ويجتر العذاب، فهل يصدق الوالدان أن ذلك الكهل الأصلع الخائب قد ذهب ضحيتهما؟!
ومع ذلك كله سجل قلبه تاريخا في حياة القلوب.
سطر أولى كلماته وهو في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، وما يعنينا من سرده إلا دلالته على طبعه، كان غلاما ناضرا متأنقا. ولعله ورث الأناقة من والدته، فجذب إليه يهودية صغيرة حسناء من بنات الجيران! فأحمد عاكف - كما ترى - كان يوما ما جذابا! كانت تلعب في طريقه وترقب مرجعه من المدرسة في نافذتها، ولا تضن على عينيه بملاحتها ودلال أنوثتها فأصلت وجدانه نيرانا، ولكنها لم تستطع أن تبعث في قلبه الجسارة أو الشجاعة، ألهبت قلبه وجدا ولكن قصارى ما كانت تدفعه إليه شجاعته أن يرمقها بلحاظ مغرم وجل سرعان ما يرتد أمام نظرتها وهو كليل، ولكنه على رغم خجله طارحها الغرام صراحة بفضل جسارتها هي. كانت جسورا لعوبا لا يردعها عن هواها رادع، فاستطاعت أن تعالج حياءه بجسارتها، وتبعته ذات أصيل حتى أدركته، ثم نادته فالتفت إليها بوجه كالجمان، فابتسمت إليه ابتسامة لطيفة فأجابها بابتسامة مقتضبة في حياء وخفر فقالت له: «هلم نتمشى في شارع عباس!» فأطاع دون أن ينبس بكلمة وسارا جنبا إلى جنب والشمس تتقدمهما نحو المغيب، وتعمدت أن تدنو منه وأن تلامسه في رفق، فجعل يبتعد كأنما يخاف أن تحسب أنه المتعمد وهو يذوب شوقا إلى اللمس الذي بجانبه، ثم تأبطت يمناه وهي تضحك ضحكة لم تخل من الارتباك، فطرفت عيناه ونظر فيما حوله بخوف فسألته في دعابة: «أتخاف؟!» فقال بصوت رقيق: «أخاف أن يرانا أحد من بيتك!» فهزت كتفها استهانة وقالت: «لا تبال هذا!» فلاحت في عينيه نظرة عجب فاستدركت متسائلة: «أما تزال خائفا؟!» فقال بعد تردد: «أخاف أن يرانا أحد من بيتنا!» فأغرقت في الضحك وعاجت به إلى بستان وهي تغمغم: «نحن الآن في أمن من الرقباء!» وتمشيا في سكون كالشمس تذوب في الشفق، وظلال المغيب تمتد في الأفق فتجعل منه سرادقا قائما لاستقبال الليل الزاحف، ثم قالت الفتاة الجريئة لتحتال على حيائه: «حلمت حلما يا له من حلم!» فقال وقد أخذ يأنس بها: «خيرا إن شاء الله.» فقالت: «حلمت أنك قابلتني وقلت لي أريد ... ثم ذكرت كلمة لن أعطيها لك حتى تقولها بنفسك، فحزر ما هي؟!» فاشتد عليه الارتباك وقال بلسان ملعثم: «لا أدري!» فقالت بصوت عذب: «بل تدري وتداري .. قل!» فحلف لها بسذاجة أنه لا يدري، فقالت: «لا فائدة من الكذب علي .. أولى بك أن تتذكر .. كلمة أول حروفها ق!» فصمت وقد خفق قلبه واضطربت أنفاسه فقالت: «والحرف الثاني ب!» فلزم صمته وغض بصره فاستطردت تقول: «والثالث ل ... قل ما الحرف الأخير!» فابتسم مرتبكا ولكنه لم يدر كيف يتكلم، فقرصته في ذراعه وهمست في أذنه: «إذا لم تخرج عن صمتك فلن أكلمك أبدا!» وفعل التهديد فعله فرسمه بأصبعه في الهواء تاء مربوطة! فضحكت بسرور وقالت: «الآن اعترفت بما تريد ولن أضن به عليك!» ثم أدنت منه وجهها وقد أيأسها خجله الشديد من الانتظار، فأخذ قبلة مضت عقود من العمر كاملة وهو يحترق توقا إلى مثلهاز وهكذا كان دائما: إحساسا عنيفا وخجلا موئسا، وكان يحلو لتلك اليهودية الحسناء أن تداعبه بالسخرية من قسمات وجهه، فآمن بسخريتها، واستقبح وجهه أكثر مما ينبغي، ووجد سببا جديدا يقوي به خجله الطبيعي فتضاعف، ولو أمكن رجلا أن يسدل على وجهه نقابا لكان ذاك الرجل، وكان ذلك من بواعث المبالغة في تأنقه حينا التي انقلبت فصارت إهمالا زريا حين أدركه اليأس.
Bog aan la aqoon
واختفت اليهودية الحسناء من حياته فجأة، فما هو إلا أن خطبها شاب من بني جنسها حتى هجرت لعبتها لتستقبل حياة الجد، غير عابئة بالجرح الدامي الذي أحدثته في قلب غض، بيد أن القلوب الغضة سريعا ما تندمل جروحها، وفي الفترة النهائية من المرحلة الثانوية دانت أسباب الجوار أيضا بينه وبين صبية حسناء هي صغرى بنات أرملة من صديقات والدته، فألفت بينهما المودة وتشجيع الأمين اللتين ما برحتا تدعوانهما بالعروسين، ولم يكن ذاك الحب الثاني كالأول الذي كان أول يقظة لقلب مفطور على الإحساس، ولكن حوت الصبية مزايا نادرة من رجاحة العقل ومتانة الخلق مما جعل ضياعها من بين يديه خسارة كبيرة أسف عليها أكبر الأسف. وكثيرا ما كان يحدث نفسه قائلا: إنه لو تزوج من فتاته كما أرادت أمه وأمها لتمتع بحياة زوجية سعيدة قليلة الأشباه، ولكن عقب حصوله على البكالوريا حلت الكارثة بأسرته، فأحيل أبوه إلى المعاش ودفع به هو إلى مواجهة الشدة، فانتزع من نعيم الآمال ورمي به إلى جحيم اليأس، وأصبح حتما على الفتاة إذا أرادت أن تبقي عليه أن تنتظر عشرة أعوام ريثما ينتهي من تربية أخيه. والظاهر أن أمها لم تشجع التضحية المطلوبة لما فيها من انتظار طويل، وغلبت حكمة الفتاة - نفسها - على عاطفتها فانقطعت الأسباب وتبددت الأحلام، وكفر أحمد بالحب وبالمرأة كما كفر بالدنيا جميعا، فالحب الذي ثمل به قلبه بين يدي اليهودية وهم ضال، أو مرض ملازم للمراهقة كتوعك التسنين للطفل، وقد قضت مرارة الحقيقة بالعقاب الصارم على من يركن لعهد امرأة .. سواء أكانت كخطيبته عقلا وفضلا أو كاليهودية التي علقته ما شاء لها الهوى ثم هجرته كما يهجر الإنسان حجرته في فندق بميدان المحطة!
وانقضت بعد ذلك عشرون عاما من حياته وقلبه من الحياة خواء بكايد مرارة عيشة فقيرة مترعة بالهموم مثقلة بالتبعات ضيقة بالأمل، ولو سكنت ثائرته لأمكنه أن يجد في حياته من لذات التضحية والقيام بالواجب ما يعزيه عن خيبة آماله جميعا، ولكن غضبه لم يسكت، وحدته لم تلن، فلم يزل ساخطا متبرما حاقدا، لأن إنسانا ألف أن يكون المعبود الذي يقدم على مذبحه القربان لا يحتمل أن يصير كبش التضحية، وشغل بأحزانه وتبعاته وعزلته عن الحياة فكأنما رمى بقلبه - الذي لبث طوال أربعة أعوام كقيثارة دائمة الترنيم - إلى بئر آسنة فاختنق وعاش بلا أمل، بلا حبيب، وبلا قلب، لا يأنس بالحياة ولا يدرك معنى أفراحها، فدفعه القنوط من النجاح إلى العزلة ودفعه القنوط من الحب إلى البغاء، وكأنه لم يكفه ما اعتنق من سوء ظن بالمرأة فألقى به سوء حظه بين يدي الأنوثة التعسة المشوهة ليزداد إيمانا بعقيدته المريضة، فأقنع نفسه - بسوء نية - بأن المرأة الحقيقية هي البغي! .. فهي المرأة الحقيقية وقد جلت عن وجهها قناع الرياء، فلم تعد تشعر بضرورة ادعاء الحب والوفاء والطهر. على أن البغي قد نالت من نفسه أكثر من ذلك فقد أودت بالبقية الباقية من ثقته بجدارته كرجل؛ إذ إنه اعتقد أن البغي إذا أحبت رجلا فإنما تحبه لما يجذبها فيه من فحولته وجاذبيته الطبيعية بصرف النظر عن اعتبار القيم الاجتماعية وظروف التربي والجوار، فعسى أن تكون اليهودية أحبته لأنها لم تظفر بسواه، أو أن خطيبته أحبته لدواعي الجوار وإيحاء الأمهات. أما البغي فلا تختار حبيبا من بين عشرات الرجال الذين يترددون عليها لداع من هذه الدواعي؛ فإذا كان لم يستطع أن يجذب إليه بغيا طوال هذا الدهر فما ذلك إلا لأنه عاطل من جاذبية الجنس .. وهكذا عانى، وهم نقيصة الجنس كما عانى نقيصة الدمامة من قبل.
ولما أتم أخوه رشدي دراسته وحصل على بكالوريوس كلية التجارة وتوظف ببنك مصر منذ عامين - وكان أخوه الآخر توفي منذ أمد بعيد - شعر بحق بأن مهمته قد انتهت بل وكللت بالنجاح، وساوره أمل - وهل ينعدم من الحياة الأمل؟ - أن يراود السعادة، فقد يظفر بالسعادة وإن يئس يأسا نهائيا من الجاه والسلطان، ويسعى إلى أن يخطب كريمة أحد التجار المقيمين في غمرة، ولكن والدها رده ردا جميلا، وعلم الكهل أن أمها قالت عنه : «إن مرتبه صغير وعمره كبير!» وترنح من هول الضربة التي هوت على كبريائه، وثار ثورة عنيفة، وكبر عليه - وهو العبقري الذي حشد الكون ما به من سوء حظ لمكافحة عبقريته - كبر عليه أن ترفضه أنثى من بنات حواء، بل أن ترفضه خاصة لأنه حقير! .. أيقال عنه حقير؟! فمن العظيم إذن؟! .. وكور قبضته متوعدا الدنيا بالويل والثبور والشرر يتطاير من عينيه، بالأمس هجرته حبيبته لأنه صغير لا ترجى منه فائدة، واليوم ترفضه فتاة لأنه كبير لا ترجى منه فائدة، فمتى كان ذا فائدة ترجى؟! أذهب العمر هباء؟! أضاع المجد وعزت السعادة وانتهى كل شيء؟! .. وصار دأبه بعد ذلك ذم النساء ورميهن بكل نقيصة، فهن حيوانات ماكرة ومكرهن سيئ قوامه الطمع والكذب والتفاهة، إنهن أجساد بلا روح، إنهن مصدر آلام الإنسان وويلات البشرية، وما أخذهن بظاهر العلم والفن إلا خدعة يختفين وراءها ريثما يوقعن في شباكهن الضحايا، ولولا شهوة خبيثة ألقيت في غرائزنا ما ظفرن برجاء ولا مودة .. وهن .. وهن .. وكثيرا ما يقول لزملائه: «شرعت لنفسي - والحمد الله - ألا أتزوج على كثرة ما واتتني الفرص، لأني آبى أن ينتهبني حيوان قذر لا روح له ولا عقل!» لقد جعل منه عجزه عن النجاح عدوا للدنيا، فجعل منه عجزه عن المرأة عدوا للمرأة! .. ولكن أعماقه اضطربت بالرغبة والعاطفة المنهومة المحرومة.
إن انفعاله لامرأة عابرة - كما حدث اليوم - حقيق بإهاجة أعماقه وسرعان ما يذكر تاريخه القديم الحديث مع المرأة فيثور، ويساوره ذاك الشعور العميق الطافح بالحب والخوف والمقت!
5
وعاد ظهرا إلى الحي الجديد، وغمغم مبتسما وهو يدنو منه: «ثاني عطفه على اليمين ثم ثالث باب على اليسار!» وذكر وهو يرتقي السلم الحلزوني فتاة الصباح ذات الوجه الأسمر والعينين العسليتين النجلاوين، ترى هل يراها مرة أخرى؟ وفي أية شقة وفي أي طابق من هذه العمارة تقيم؟! ولبث في البيت - وقد أكملت أمه فرشه وتنظيفه - حتى العصر، ثم بدا له أن يجول في طرقات الحي الجديد مستطلعا ومستكشفا، فارتدى ملابسه وانطلق إلى الخارج، وتريث قليلا أمام باب العمارة، وجعل ينظر فيما حوله كأنما ليختار ناحية يبدأ منها استكشافه، ولكنه قبل أن يجمع على رأي شعر بشخص يدنو منه فالتفت إليه فرأى الرجل الذي حسب صباح اليوم أنه المعلم نونو، وقد أقبل بخطوات ثقيلة مبتسما ابتسامة ترحاب وسرور، ومد له راحة غليظة كخف الجمل وقال: أهلا وسهلا بالجار الجديد! .. ويا ألف نهار أبيض!
وسلم الجار الجديد، ولم يكن يتوقع تلك المفاجأة من صاحب «ملعون أبو الدنيا!» وقال وقد ابتسمت أساريره: أهلا وسهلا بك يا معلم!
فأشار المعلم إلى كرسي موضوع أمام دكانه وقال والابتسامة لا تفارق شفتيه الغليظتين: شرفنا بالجلوس دقيقة .. دا يوم سعيد!
وتردد أحمد - لا لأن قبول دعوة المعلم يناقض الغرض الذي خرج من أجله - ولكن لأن طبعه النافر لا يستسيغ مثل هذه الدعوة الكريمة بغير تردد، وقرأ الآخر تردده في وجهه، فقال بصوته الجهوري الخشن: حلفت بالحسين - إن لم تكن قاصدا غاية تستوجب العجلة - إلا ما شرفتنا .. يا ولد يا جابر هات شايا .. وهات نارجيلة!
وقبل أحمد - بسرور يعادل تردده - الدعوة شاكرا ومضى إلى الكرسي بينا غاب المعلم لحظة ثم عاد بكرسي آخر وجلسا متقابلين. كانت دكان الخطاط مثل بقية الدكاكين حجما وأناقة، وقد غصت باللافتات الجميلة، وتوسطتها طاولة رصت عليها قنينات الألوان والأقلام والمساطر، وأسندت إلى إحدى قوائمها لافتة كبيرة كتب في أعلاها بالألوان الزاهية «محل بقالة خان جعفر» وتحت ذاك العنوان لاح اسم صاحب البقالة مرسوما بالرصاص لم يلون بعد، وكان الرجل يرتدي جلبابا ومعطفا أبيض وطاقية، في الخمسين أو نحو ذلك، ربع القامة، متين البنيان، كبير الوجه والرأس واضح القسمات، يمتاز وجهه بصدغين وفم واسع، وشفتين ممتلئتين، ولون قمحي مشرب بحمرة. وقد جلس وهو يقول: محسوبك نونو الخطاط.
Bog aan la aqoon
فرفع أحمد يده إلى رأسه وقال: تشرفنا يا معلم، محسوبك أحمد عاكف بوزارة الأشغال!
وكان لا يحب ذكر وظيفته إرضاء لكبريائه، فكانت لحظات التعارف لحظات تعذيب، بيد أنه لم يتألم هذه المرة كعادته لإيقانه بما يكنه أمثال المعلم نونو للموظفين من احترام، وقد رفع الرجل يديه إلى رأسه احتراما ثم ابتسم ابتسامة لطيفة، وقال بما طبع عليه من صراحة: أنتم شرفتم حينا يا سادة، ولكن هل جئتم حقا إلى هنا خوفا من الغارات؟!
وعجب أحمد عاكف كيف عرف سبب هجرتهم ولما يمض عليهم في الحي الجديد سوى ليلة واحدة! فحدج الرجل بنظرة إنكار وتساءل: من قال لك ذلك؟!
فقال المعلم ببساطة: الحوذي الذي نقل أثاثكم، الناس جميعا تهاجر هذه الأيام!
فقال أحمد عاكف يدافع عن «شجاعة» أسرته: الواقع أن أحياءنا المعرضة للخطر كادت تخلو، وقد حملنا مرض والدي بالقلب وخوفنا عليه على هجر بيتنا القديم آسفين!
وعند ذاك جاء غلام المعلم بالشاي والنارجيلة. فوضع النارجيلة أمام المعلم، ثم أتى بكرسي من الدكان وضعه أمام الضيف ووضع الإبريق عليه، وعزم المعلم على ضيفه أن يحسو الشاي وأقبل على النارجيلة بلذة وشهوة، وأخذ نفسا طويلا روى به غلة خيشومه ثم استدرك قائلا: حسن أن يلتمس الإنسان سبيل الطمأنينة وإن كان العمر واحدا والرب واحدا، والمكتوب حتما تشوفه العين. إني يا عاكف أفندي من المتوكلين على الله، وما عرفت حتى الآن طريق المخبأ. أي مخبأ يا سعادة البيك؟! .. هل يستطيع نونو أن يراوغ القدر أو يؤجل قضاء الله؟! .. ألم تسمع صالح عبد الحي وهو يغني: «نصيبك في الحياة لازم يصيبك»؟! بيد أني أدعو الله أن يكفينا شر الأيام، وأعود فأقول إن حظنا حلو، فلولا حكمة بعض الناس ما فزنا بهذا الجوار السعيد!
ولاحظ أحمد أن كلام الرجل حوى أوله سخرية به - وإن كانت سخرية غير مقصودة - بينما حوى آخره ما يستوجب الشكر! فابتسم قائلا: شكرا يا معلم، فلطالما قال لنا الحكماء إن حي الحسين آمن!
فأخذ الرجل نفسا عميقا ثم زفره سحابة من الدخان كثيفة وقال: صدقوا ثم صدقوا، إنه حي مبارك محبوب، مكرم من أجل صاحبه، وسوف ترى فيما يقبل من الأيام أنك لن تستطيع السلو عنه أو الزهد فيه، وسوف يدعوك شيء من الأعماق إليه .. تفضل خذ نفسا من النارجيلة.
فشكره أحمد معتذرا، وكان يحتسي الشاي بلذة مصغيا لصاحبه، وكأنما أراد أن يجاريه في التدخين، ولكن على طريقته هو، فاستخرج سيجارة من علبته وأشعلها مبتسما، وقد أحس نحو محدثه بارتياح لما وجده فيه من غرابة لم يعهدها في أحد من الناس قبله، وأعجبته بساطته وصراحته وقوته، وأهم من هذا جميعه أنه شعر نحوه باستعلاء تملق غروره المعذب فمال إليه. أما المعلم نونو فاستدرك قائلا: لماذا ترغب عن النارجيلة؟! إن هي إلا سيجارة بماء، أو دخان مكرر مطهر، وفوق ذلك فلحضرتها سلطنة، وقرقرتها موسيقى، وفي شكلها «سكس أبيل».
فلم يملك عاكف نفسه الضحك فأرسل ضحكة رفيعة ضاعت في جلجلة ضحكة المعلم التي تصاعدت كخوار عال متصل انتهى بسعال متقطع استمر حتى انقطع نفسه، ثم قال وأساريره ما تزال ضاحكة: أتحسب أن البلدي جاهل؟ ألم تعلم أن زوار هذا الحي من الإنجليز أضعاف أضعاف أمثالهم من أولاد العرب؟! .. ودين الحسين ورب الحسين لتسرن بحينا سرورا لا مزيد عليه، وليكن جوارا سعيدا وأياما سعيدة رغم هتلر وموسوليني! - بإذن الله .. إن شاء الله!
Bog aan la aqoon
وقال المعلم بلغة الإغراء: وفينا أفندية محترمون كحضرتك!
فقال أحمد بسرعة: أستغفر الله يا معلم، أستغفر الله. - والحسين وجده .. بل إن جل أصدقائي أفندية من خيرة هذا الحي، فالعمارات الجديدة جذبت أسرا طيبة كثيرة، يوجد هنا كل ما تريد .. القهوة والراديو واللطف والنارجيلة، بل هنا متسع لمرضية الله ومعصيته على السواء!
فضحك أحمد قائلا: أعوذ بالله من معصية الله!
فحملق المعلم في وجهه، ثم قال مستدركا بصراحته الغريبة كأنه يعرفه منذ سنين طويلة لا منذ دقائق: المرضية والمعصية كالنهار والليل لا ينفصلان، وفوقهما مغفرة الله ورحمته .. أحنبلي أنت؟! - كلا .. كلا! - تعجبني! - ولكن كيف يتسع هذا الحي لمعصية الله؟ - أوه .. يا ما تحت الساهي دواهي .. فصبرا حتى يأتيك اليقين، ومع ذلك فليس الذنب بذنب حينا، الذنب ذنب الأحياء الأخرى، لقد ضاقت بالفساد، فصدرت ما يزيد عن حاجتها إلينا، على حد قول الراديو عن التجارة العالمية. هنا نحن نصدر المواد الأولية والأحياء الأخرى توردها مصنوعة، فمن بعض أطراف هذا الحي تصدر الخادمات فتحولها الأحياء الأخرى إلى غانيات، في هذه الحرب قلبت الدنيا رأسا على عقب، تصور يا إنسان أني سمعت بالأمس بنت بائعة فجل تدعو أختها تقول: «تعالي يا دارلنج»!
وضحك أحمد بسرور، وانبسط وانشرح صدره، وقال وغرضه الأول أن يستدرج محدثه إلى الكلام: حيكم طاهر يا معلم رغم هذا كله، فالفساد هناك فوق ما يتصوره العقل! - اللهم احفظنا، إلا أنه من الحكمة ألا نركب الهم أنفسنا، دع الهموم واضحك واعبد الله، الدنيا دنيا الله، والفعل فعله، والأمر أمره، والنهاية له. فعلام التفكير والحزن؟! .. ملعون أبو الدنيا! - هذا شعارك المحبوب يا معلم طالما صعد إلى حجرتي ترديدك له. - أجل ملعون أبو الدنيا، هذا شعار الاستهانة لا اللعن أو السب، ولكن هل تستطيع أن تلعنها بالفعل كما تلعنها باللسان؟ هل تستطيع أن تستهين بها وتضحك منها إذا أفقرتك؟ وإذا أعرتك؟ وإذا كربتك؟ وإذا أجاعتك؟ صدقني إن الدنيا كالمرأة تدبر عمن يجثو بين يديها، وتقبل على من يضربها ويلعنها، فسياستي مع الدنيا ومع النساء واحدة، واتكالي من قبل ومن بعد على الله سبحانه، ورب يوم يستدبر ولما يفتح الله علينا بمليم، ولا يدري أحد ماذا يأكل العيال وما أملك ثمن النارجيلة، فما أزال آخذا في الغناء واللعن والتنكيت، وكأن العيال عيال جاري والفقر راكب عدوي، ثم تفرج، فيطلب منا عمل وأقبض مقدم الأتعاب، افرح يا نونو، اشكر الله يا نونو، خذي يا زينب اشترى لحمة وأنت يا حسن هات فجلا، اجري يا عائشة ابتاعي بطيخة، املأ بطنك يا نونو، كلوا يا أبناء نونو، واشكرن يا زوجات نونو.
ولفت سمع أحمد قوله «زوجات نونو» فتساءل: تري كم زوجة يضم حريم نونو؟! .. وهل يحدثه بأسراره الداخلية بمثل صراحته هذه عن فلسفته العامة؟! .. ولم يجد سبيلا إلى غرضه إلا بالحيلة، فسأله: كان الله في العون، الظاهر أن أسرتك كبيرة.
فقال الرجل ببساطة: أحد عشر كوكبا، وأربع شموس.
ثم أشار إلى نفسه وكمل قائلا: وقمر واحد!
فتردد عاكف لحظات، ثم قال: أزواج أربع! - كما شاء الله. - وإن خفتم ألا تعدلوا؟ - ومن قال عني أنى ظالم؟! - وهل تستأجر تبعا لذلك بيوتا أربعة؟ - بل شقة واحدة كشقة حضرتك، مكونة من حجرات أربع في كل حجرة أم وأبناؤها!
فلاحت الدهشة في وجه الرجل ونظر إلى محدثه بإنكار، فضحك المعلم ضحكته العظيمة بفخار، وقال: ما الداعي للدهشة يا أحمد أفندي؟
Bog aan la aqoon
فآتت أحمد جراءة ليست من طبعه، وسأله: لماذا لم تقنع بواحدة؟ - واحدة؟! .. أنا خطاط، والنساء كالخط أنواع، لا يغني نوع عن نوع، فهذه نسخ، وتلك رقعة، وثالثة ثلث، ورابعة فارسي. أنا لا أوحد إلا الله. - ولكن أليس الأربع بأكثر مما ينبغي! - ليتهن كفينني، أنا والحمد الله أكفي مدينة من النساء، أنا المعلم نونو والأجر على الله! - وكيف تجمعهن في شقة واحدة؟ ألم تعلم بما يقال عن غيرة النساء؟!
فهز المعلم منكبيه العريضين استهانة وبصق على الأرض، ثم قال: هل تصدق ما يقال عن النساء وغيرتهن ومكرهن؟! .. كل أولئك سجايا خلقها ضعف الرجل، المرأة في الأصل عجينة طرية، وعليك أن تشكلها كما تشاء، واعلم أنها حيوان ناقص العقل والدين فكملها بأمرين، بالسياسة والعصا! فما واحدة من نسائي إلا مطمئنة إلى أنها الأثيرة المفضلة، وما من واحدة استوجبت أكثر من علقة واحدة، ولن تجد مثل بيتي سعادة وهدوءا، ولا مثل زوجاتي حشمة وتنافسا في إرضائي، ولذلك لم يجرؤن على مغاضبتي حين علمن بأن لي خليلة!
فصاح أحمد عاكف: خليلة! - سبحان الله ربي! ما لك تدهش لأتفه الأشياء؟! أقول: إن طعمية البيت لذيذة، ولكن ما رأيك في طعمية السوق؟ - وهل ترضى زوجاتك عن خليلتك؟ - الرضا يساوي التعود على الرضا، وأنت برجولتك تستطيع أن تحمل المرأة على ما تريد فتعمل ما تشاء، وتؤمن بما تشاء، والرجل القوي لا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا وافق هواه.
فابتسم أحمد وقال: عوفيت يا معلم!
وأخذ المعلم أنفاسا متتابعة ثم سأل ضيفه: هل أنت متزوج يا أحمد أفندي؟
فأجاب باقتضاب وقد امتعضت نفسه: كلا. - ولا واحدة؟! - ولا نصف واحدة.
فضحك الرجل وقال بصراحته المعهودة: أنت بغير شك نطاط كبير!
فابتسم أحمد ابتسامة غامضة، ولم يعرض لقوله بنفي أو إثبات، فقال نونو ضاحكا: عوفيت .. عوفيت!
وبلغ المعلم نونو من نفسه ما لم يبلغه سواه، فأحدث فيها يقظة عنيفة، كأن شيئا يناقضه قوة وصحة وابتساما، وإقبالا على الحياة، وفوزا وسعادة، فأعجب به إعجابا استمده من عجزه عن مجاراته، وحقد عليه لتفوقه وسعادته، إلا أنه كان حقدا خفيفا لا يقاس بما أحدثه في نفسه من شعور باستعلاء، فغلب ميله إليه حقده عليه، واستثار فيه رغبة جديدة للاختلاط به وبحيه العجيب.
وعندما استأذن في الانصراف قال له المعلم: عليك بقهوة الزهرة هي قهوة صغيرة، ولكنها تجمع أفندية هذا الحي المحترمين، وستعرف فيها الصفوة من جيرانك، هلا حضرت هذا المساء؟!
Bog aan la aqoon
فقال أحمد وهو يودعه: إن لم يكن هذا المساء، فمساء الغد إن شاء الله.
وسلم عليه شاكرا، ثم مضى إلى ما كان بسبيله من اكتشاف أنحاء الحي الجديد.
6
وعند مساء اليوم الثاني غادر العمارة ووجهته قهوة الزهرة، فوجدها عند مدخل شارع محمد علي الكبير، وهو السابق لشارع إبراهيم باشا، وكانت في حجم الدكان ذات مدخلين أحدهما على شارع محمد علي والثاني على الممر الطويل الذي يؤدي إلى السكة الجديدة، وقد وجد في الحي من أمثال هذه القهوة عشرات حتى قدر قهوات الحي بمعدل قهوة لكل عشرة من السكان، وأقبل على القهوة متمهلا مترددا لأنه لم يتعود ارتياد المقاهي ولا ألف جوها، وما كاد يعبر بابها حتى رأى المعلم نونو يتوسط جماعة من الأفندية بينهم واحد من أهل البلد، ورآه المعلم فنهض قائما مبتسما وقال بصوته الجهوري الخشن: أهلا وسهلا تفضل يا أحمد أفندي.
فاقترب منه بقامته الطويلة النحيفة تلوح على شفتيه ابتسامة ارتباك وحياء، مادا يده بالسلام، فتلقاها براحته الغليظة، ثم التفت إلى الجماعة قائلا: جارنا الجديد أحمد أفندي عاكف الموظف بوزارة الأشغال.
فنهض الرجال نهضة واحدة في لطف واحترام زادا من ارتباكه وحيائه، ومضى يسلم عليهم واحدا فواحدا والمعلم يقدمهم قائلا: سليمان بك عتة مفتش بالتعليم الأولي، سيد أفندي عارف بالمساحة، كمال أفندي خليل بالمساحة أيضا، الأستاذ أحمد راشد المحامي، المعلم عباس شفة من الأعيان.
وأوسعوا له مكانا بينهم ورحبوا به أيما ترحيب، فأخذ يأنس بهم وينفض عن نفسه الارتباك والحياء، وما لبث أن ساوره شعور سعيد بالعزة والاستعلاء أحسن إخفاءه. بابتسامة حلوة ونظرة حيية.
لم يخامره شك قط في تفوقه على هؤلاء الناس من جميع الاعتبارات والوجوه، فهو من أهل السكاكيني وهم من أبناء الدراسة أو الجمالية! وهو المفكر والعقل الكامل وهم لا شيء من هذا جميعه، بل خال أن وجوده بينهم تعطف جميل وتواضع محبوب، بيد أنه تساءل متحيرا ترى كيف السبيل إلى تفهيم هذه الجماعة حقيقة قدره وإطلاعهم على مزاياه العقلية والثقافية؟ .. كيف يقنعهم بعظمته ويدعوهم إلى احترامه؟ .. لا شك أن ذلك آت لا ريب فيه إذا اتصلت المودة وتكرر اللقاء، فلا عليه من تأخيره جلسة أو اثنتين! وتقلب بصره بين الوجوه الجديدة يعاينها باهتمام، فهذا سليمان عتة المفتش رجل في الخمسين أو يزيد، قبيح الوجه لحد الازدراء، قميء ذو احديداب، يذكرك وجهه بالقرد في انحدار جبهته وبروز وجنتيه واستدارة عينيه وصغرهما وكبر فكيه وفطس أنفه، إلا أنه حرم من خفة القرد ونشاطه، فبدا وجهه ثقيلا جامدا متجهما كأنه سيؤخذ بجريرة قبحه، أما أجمل ما فيه فمسبحة قهرمانية لعبت أنامل يمناه بحباتها، ومن عجب أن صورته على قبحها لم تهج مقته، ولكنها استثارت هزءه وسخريته، والمدعو سيد عارف كهل في مثل سنه على وجه التقريب، صغير الحجم رقيق الأعضاء، لبشرة وجهه نعومة وفي نظرة عينيه براءة، أما كمال خليل فرجل تلوح في عينيه الرزانة، كبير العناية بهندامه وأناقته معتدل القامة يميل للبدانة، وكان أحفل القوم استقبالا للجار الجديد، ثم تحول إلى أحمد راشد باهتمام خاص، فوجده شابا في ريعان الشباب، مستدير الوجه ممتلئه كبير الرأس تكاد تخفى صفحة وجهه نظارة سوداء عميقة السواد، أثار هذا الشاب اهتمامه لأنه محام، والمحامي رجل متعلم، والمحاماة مهنة طمع فيها أول عهده بالآمال وعجز عنها وإن لم يقر بعجزه قط، فما يزال يحقد على المحامي حقده على الأديب والعالم، وقد اعتاد أن يشعر نحو الواحد منهم كما يشعر الرجل نحو آخر تزوج من فتاة يحبها، فوجد فيه عدوا وتوثب للانقضاض عليه، ولم يبق من الجماعة إلا المعلم عباس شفة، وهو شاب ذو سحنة زنجية توحي ملامحه الغليظة الدميمة بالدناءة والوضاعة، وقد ارتدى جلبابا فضفاضا وشبشبا وترك رأسه بلا غطاء فانتفش شعره المفلفل وزاده دمامة وقبحا وبدا شيئا حقيرا لا ينقصه سوى لباس السجن! واحتلت الجماعة على صغرها أكثر من ثلث القهوة، وجلس القهوجي إلى صندوق الماركات على كثب منها وكأنه - لاشتراكه في أحاديثها - واحد منها! وبينما أقبل المعلم نونو وكمال خليل أفندي على أحمد عاكف أيما إقبال ثابر سليمان عتة على جموده وتجهمه كأنما نسيه نسيانا تاما، أما الأستاذ أحمد راشد فجعل ينصت إلى حديث يذيعه الراديو ...
ووجه كمال خليل الخطاب إلى عاكف قائلا: علمنا إن حضرتك آت من السكاكيني؟
فحنى أحمد رأسه قائلا: أجل يا أستاذ.
Bog aan la aqoon
فسأله الرجل باهتمام: أحقا لم ينج من بيوت الحي إلا عدد قليل؟
فضحك أحمد قائلا: الحقيقة أنه لم يهدم سوى بيت واحد. - يا للناس من الإشاعات! .. فماذا فعلت تلك الفرقعة الهائلة التي خلناها في بيوتنا؟ - كانت فرقعة في الهواء!
فتحول الأستاذ أحمد راشد عن الراديو - مما دل على أنه لم يستغرق كل انتباهه - وسأل الجار الجديد: وهل سقط طوربيد حقا ولم ينفجر؟
فقال أحمد وقد شعر بسرور لتحول الشاب إليه: وقيل طوربيدان ولكن أحيط بهما وعالجهما الخبراء.
فقال أحمد راشد: من لنا بذاك الخبير الكندي الذي قرأنا عنه في أنباء الحرب؟ يقال إنه أنقذ أحياء كاملة في لندن!
فتساءل سيد عارف كالمتهكم وكان من محبي الألمان: أما تزال توجد أحياء كاملة في لندن؟!
فابتسم أحمد راشد وقال لعاكف: صاحبنا من أنصار الألمان!
وضحك المعلم نونو قائلا مكملا قول المحامي: لأسباب طبية!
وتورد وجه سيد عارف، ولكن المعلم نونو لم يرحمه فأرسل ضحكته العظيمة مرة أخرى وقال: يحسب أن الطب الألماني يستطيع أن يعيد الشباب !
وقطب سيد عارف جبينه مستاء، والظاهر أنه كبر عليه أن يصارح بمثل هذا الكلام أمام رجل ما زال جديدا في جماعتهم، وأدرك أحمد عاكف أن وراء ملاحظة نونو ما وراءها، ولكنه لم يبد على وجهه أنه سمع شيئا، وأراد نونو أن يستدرك هفوته فراح يحدث الضيف عن الحي الجديد مثنيا عليه بما يعلم حتى علق أحمد راشد على كلامه قائلا: هذا الحي هو القاهرة القديمة، فهو بقايا متداعية حقيقة بأن تهز الخيال وتوقظ الحنان وتستثير الرثاء، فإذا نظرت إليها بعين العقل لم تر إلا قذارة تقتضينا المحافظة عليها التضحية بالبشر، وما أجدر أن نمحوها لنتيح للناس فرصة التمتع بالحياة الصحية السعيدة!
Bog aan la aqoon
وتنبه أحمد إلى ما في قول صاحبه من جدة عسى أن تنزله من القوم منزلة المحدث الماهر والمفكر الذكي، خاصة وأن لشهادته الحكومية - ليسانسيه القانون - مكانة يدين لها الجهلاء والسذج، فخاف أن يمتاز عليه، فتوثب للنضال، وأجمع على معارضته بأي ثمن؛ فقال: ليس القديم من البقاع مجرد قذارة، فهو ذكرى قد تكون أجل من حقائق الواقع، فتبعث في النفوس فضائل شتى! .. إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المعزية ذات المجد المؤثل، أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟!
ووقع هذا الكلام من نفوس القوم موقعا حسنا قرأه في أعينهم، فسر به، وأراد أن يهتبل الفرصة ليعلن عن علمه فقال: معذرة يا أستاذ أحمد فقد قرأت عن تاريخنا مجلدات جعلت تعلقي به أمرا مقضيا!
فقال سيد عارف: الظاهر أن أحمد أفندي من عشاق التاريخ!
فسر أحمد بما هيأه كلام الرجل من فرصة أطيب للحديث عن معارفه، فقال مبتسما: الواقع أني لا أعشق التاريخ أكثر من غيره من فروع المعرفة، والحقيقة أني أنفقت أكثر من عشرين عاما في تحصيل المعارف المختلفة!
فولاه القوم نظرات دلت على الاهتمام، وفسر هو ذاك الاهتمام بأنه إكبار فرقص قلبه طربا، ولكم ود لو يستطيع أن ينفذ إلى عيني أحمد راشد خلال عويناته السود ليقرأهما. وقد سأله كمال خليل: ولماذا تدرس هذه المعارف يا «أستاذ»؟ أتحضر لشهادة ما؟!
وعلى قدر سروره بلقب أستاذ غص ببقية السؤل فقال باستكبار: أية شهادة تستوجب هذه الدراسة الطويلة الشاملة؟! ... ما الشهادة إلا لعبة يستبق إليها الشبان، أما دراستي فلا غاية لها إلا العلم الحق، وربما مهدت بها يوما إلى التأليف المنتج!
فسأله أحمد راشد وعلى ثغره ابتسامة أحنقته: ما معنى أن الشهادة لعبة؟!
فقال أحمد كاظما حنقه: الشهادة ليست دليل العلم! - أهي دليل الجهل؟!
فأخذ غيظه يفور حتى أجهده أن يكتمه، ثم استدرك قائلا: أعني أن الشهادة هي الدليل على أن شابا حفظ بعض المواد بضع سنين، والعلم الحق غير هذا البتة!
فابتسم أحمد راشد ابتسامة غامضة وأمسك عن الجدل، وكان يعطف على رأى محدثه في الشهادات، بل إنه لم يغب عنه الحدة التي يسوق بها رأيه، مما جعله يميل إلى فرض احتمال وجود أسباب أخرى لذاك الرأي غير التي أعلنها، ورحب أحمد عاكف بصمته لأنه يرجح كفته عليه أمام «العوام» الذين يجالسونهما! وساد الصمت برهة، وجعل المعلم نونو يفرغ الشاي في أكواب الجلوس ودار عاكف ببصره في المكان، فلاحظ لأول مرة أن غلاما يجلس على كرسي جنب كمال خليل أفندي، ولم يدر أكان موجودا قبل مجيئه أم أنه جاء في أثناء اشتغاله بالحديث، ولكنه أيقن من أول وهلة أنه ابنه، لمشابه لا تخفى عن النظر العابر، وتركه بصره إلى غيره ولكنه عاد إليه سريعا، فقد استوقف انتباهه «شيء» في وجه الغلام لم يدر ما هو على وجه التحقيق، ولم يستطع أن يرمي إليه بطرفه طويلا، فجعل يختلس من وجهه نظرات حائرة من وراء كوب الشاي وهو يحتسي منه رشفة بعد أخرى، ما الذي جذب انتباهه إلى ذاك الوجه فكاد أن ينسى آثار المعركة التي خاض غمارها؟! لعله شعور غامض بأنه رآه من قبل، بأنه رأى هاتين العينين الواسعتين ونظراتهما الحلوة الساذجة، ومثل هذا الشعور لا يريح صاحبه حتى يتضح الغامض من الذكريات على ضوء التذكر والعرفان، وإن كان في الغالب لا يفيد شيئا ذا بال، ولذلك ألح عليه هذا السؤال «أين رأيت هذا الوجه؟ ومتى كان ذلك؟ في السكاكيني؟ .. في الترام؟ .. في الوزارة؟» وردت ذاكرته على عناده وإلحاحه بعبث ساخر معذب، فجعلت تدني إلى وعيه الصورة وترميه بأطياف الزمان والمكان حتى خال أنه ظفر بها أو كاد، ثم لا تلبث أن تبتلع الأطياف في ظلمة عميقة، وتتراجع بالصورة عن الوعي المشوق، فيعود الغموض والإبهام والحيرة إلى ما كانت عليه، ورغب أخيرا أن يعرض عن تذكر شيء ليست معرفته بالمطلب الهام، ولكن الحقيقة أن ذاكرته لم تعد الشيء الوحيد الذي يحيره ويلح عليه! الحقيقة أن رغبة صادقة أو شعورا عميقا راح ينزع بقلبه إلى العينين النجلاوين ونظرتهما الحلوة الساذجة! فكلما اختلس نظرة استثار في أعماقه حنانا وودادا وانجذابا! وتملكته الحيرة، وتولاه الحياء، وحذر أعين الجلوس حذر مريب مذنب! فأطرق ممسكا بعروة الكوب وقلبه شديد الخفقان وأبى خياله أن يفارق الغلام، فعلق وجهه وتمثل نظرة عينيه، ودار قلبه عطفا ودادا وهياما، وهمت عيناه أن تخونا إرادته ولكنه شد عليهما بخوف وغضب، وتساءل متحيرا عما دهاه؟! بيد أن المعلم نونو انتشله من خلوته النفسية المحيرة فسأله: ألا تحب أن تتسلى بلعب شيء؟
Bog aan la aqoon
فنظر إليه كمن يتنبه من سبات بغتة وقال ببساطة: لا أدرى عن الألعاب شيئا!
فضحك كمال خليل قائلا: إليك الأستاذ أحمد راشد قرينا وشبيها في ذلك، فتسامرا معا ريثما نلعب ساعة.
ثم التفت الرجل إلى ابنه، وقال له: هلم إلى البيت يا محمد!
فخفق قلب عاكف، وأرسل نحوه ناظريه، فتبعاه وهو يسير بخطى لطيفة حتى غيبه الباب، فعاد يقول لنفسه متحسرا: «هلا ذكرت متى عرفت هذا العلام؟» وكانت الجماعة قد انقسمت فريقين، فلعب المعلم نونو وكمال خليل الدومينو، ولعب سليمان عتة وسيد عارف النرد، أما عباس شفة فتزحزح بكرسيه إلى مجلس المعلم «القهوجي»، وتنحى أحمد راشد ليوسع للاعبين، فصار جنب أحمد عاكف، وشعر الرجل باقترابه فتغير شعوره العجيب وتوثب مرة أخرى للنضال والعراك، ذهب الهيام وجاء الغضب والحقد! ... والتفت الشاب نحوه قائلا برقة: كيف حالك يا أستاذ ؟! لا تحسبن أني قديم عهد بخان الخليلي، لقد سبقتك إلى هنا بشهرين!
فابتسم عاكف مسرورا بتودد الآخر إليه، وقال كالمتسائل: الغارات أيضا؟! - تقريبا! .. الواقع أن مسكننا القديم في حلوان أخلي لأغراض عسكرية فرأيت أن أنتقل إلى القاهرة قريبا من مكان عملي، ووجدت مشقة في البحث عن شقة خالية حتى أرشدني صديق إلى هنا!
فقال أحمد عاكف وقد أخفض صوته: يا له من حي مزعج! - أجل! ولكنه مسل وغريب وحافل بالفنون والنماذج البشرية المدهشة، انظر إلى القهوجي الذي يحدثه عباس شفة، انظر إلى عينيه الذاهلتين! إنه يزدرد نصف درهم من الأفيون كل أربع ساعات، ويمضي في عمله كالحالم لا يفيق أو بالأحرى لا يرغب أن يفيق. - وهل تطيب الحياة على هذا النحو؟! - لا أدري! المؤكد فقط أن اليقظة التي نحبها ونستزيد منها بالقهوة والشاي يمقتها هذا الرجل وكثيرون أمثاله: وتراه إذا أجبر بسبب ما، على البقاء فيها مدة، متثائبا دامع العينين، شرس الخلق، ولا تسكن ثائرته، ويصفو مزاجه حتى يغيب عن الوجود، ويهيم في عوالم الذهول: أهي لذة عصبية تكتسب بالعادة؟! ... أم سعادة وهمية تهرب إليها النفس من شقاء الواقع! علم هذا عند المعلم نفسه!
إنه يخاف شقاء الواقع، كواحد من هؤلاء المدمنين، ويهرب منه أيضا لائذا بعزلته وبكتبه، فهل هو أسعد حالا منهم؟! ورغب عن الاسترسال في ذاك الموضوع، فسأل محدثة وقد غير لهجته: هل أستطيع أن أكب على دراستي في مثل هذه الضوضاء؟ - ولم لا؟ .. الضوضاء قوية حقا، ولكن العادة أقوى، وسوف تألف الضوضاء حتى ليزعجك سكونها، وقد كنت بادئ الأمر ألقاها متجهما متكدرا يائسا، أما الآن فتراني أكتب مرافعاتي وأراجع مواد القانون هادئا مطمئنا وسط هذا الدوي الذي لا ينقطع، ألا ترى أن العادة أمضى سلاح نواجه به غير الدهر!
فهز الرجل رأسه موافقا، وقال وكأنه يستكثر أن ينفرد الآخر ولو بهذا القول المبتذل: ولذلك قال ابن المعتز:
إن للمكروه لذعة هم
فإذا دام على المرء هانا
Bog aan la aqoon
فابتسم أحمد راشد ابتسامته الغامضة، وكأن لا يحفظ الشعر ويحتقر الاستشهاد به فتساءل في رفق: أأنت يا أستاذ عاكف من الذين يستشهدون بالشعر؟
فتساءل عاكف بإنكار: وماذا ترى في ذلك؟! - لا شيء البتة إلا أنني أعلم أن الناس عادة لا يعدلون بالشعر القديم شعرا حديثا، مما يوجب أن يكثر استشهادهم - إذا أرادوا أن يستشهدوا بشعر - بالقديم، وأنا أكره النظر إلى الماضي! - لا أكاد أفهم. - أريد أن أقول إنني أكره الاستشهاد بالشعر لأنني أكره الرجوع إلى الماضي، أريد أن أعيش في الحال وللمستقبل وحسبي ما في عصرنا من حكماء هم أهل للإرشاد والتوجيه!
وكان أحمد عاكف على عكس صاحبه يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقية، أو أنه لم يعرف غير بعض نماذج العظمة الماضية ولا يدري شيئا عن عظماء «عصرنا» فثارت ثائرته وقال منكرا: وفيم إنكار عظمة الغابرين وفيهم الأنبياء والرسل! - لعصرنا رسله كذلك!
وأوشك الرجل أن يعلن دهشته ولكنه كان أحرص من أن يبدي - في حديث - دهشته إلا إذا أوجب ذلك جهل محدثه - لا علمه طبعا - فتساءل في هدوء: ومن رسل العصر الحاضر؟! - أضرب مثلا بهذين العبقريين: فرويد وكارل ماركس!
وشعر بيد تضغط على عنقه فتكتم أنفاسه! بل شعر بجرح عميق في كرامته، لأنه لم يسمع قبل الآن بهذين الاسمين! وأضمر لصاحبه غضبا جنونيا، ولكن لم يسعه إظهار جهله فهز رأسه هزة العارف العالم وتساءل: أتراهما يضارعان العباقرة الأولين؟!
وكان سرور المحامي الشاب بعثوره على إنسان مثقف لا يعادله سرور فرغب في المناظرة رغبة قوية، وأدنى كرسيه إلى كرسي صاحبه حتى لم يعد يفصل بينهما شيء وقال بصوت لا يسمعه سواه: لقد هيأت فلسفة فرويد للفرد فرص النجاة من أمراض الحياة الجنسية التي تلعب في حياتنا الدور الجوهري. ونهج له كارل ماركس سبل التحرر من الشقاء الاجتماعي، أليس كذلك؟
وخفق فؤاد الكهل الحاقد الغاضب، ولم يدر هذه المرة كيف يعارض فضلا عن أن ينتصر، فراغ عن مواجهته إلى التحايل عليه فقال بهدوء وصدره يغلي: مهلا .. مهلا يا أستاذ، لقد كنا مثلك متحمسين، ولكن تقدم العمر ومداومة الفكر حقيقان بإلزام الإنسان حدا من الاعتدال.
فقال أحمد راشد بلهجة لم تخل من حدة: ولكني أحسن التفكير فيما أطلع عليه؟ - بغير شك إلا أنك شاب وستكتسب بالعمر حكمة حقيقية، ألم تسمعهم يقولون: «أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة»؟ - مثل قديم أيضا! - وحكيم! - لا حكمة في الماضي! - رباه! - لو وجدت في الماضي حكمة حقيقية لما صار ماضيا قط! - وديننا؟
فرفع الشاب حاجبيه دهشة، ولو استطاع عاكف أن يستشف ما وراء النظارة السوداء لرأى نظرة احتقار تورث الجنون. وغمغم الشاب: يا للسذاجة!
وكان عاكف قرأ فلسفة إخوان الصفاء الدينية فرغب أن يلخصها في كلمات لمحدثه البغيض ليدفع عن نفسه تهمة الأخذ برأي العوام في الدين من ناحية، وليغمض على صاحبه كما غمض عليه، فقال: إن في الدين ظاهرا حسيا للعوام وجوهرا عقليا للمفكرين، فهناك حقائق لا يضيق المثقف بالإيمان بها مثل الله والناموس الإلهي والعقل الفعال!
Bog aan la aqoon
فهز الشاب منكبيه استهانة وقال: إن العلماء المعاصرين يعلمون بما في الذرة من عناصر، وبما وراء عالمنا الشمسي من ملايين العوالم، فأين الله؟ وما أساطير الديانات؟! وما جدوى التفكير في مسائل لا يمكن أن تحل، وبين أيدينا مسائل لا حصر لها يمكن أن تحل وينبغي أن نجد لها حلا؟!
ثم ابتسم الشاب ابتسامة سريعة وقال وقد غير لهجته المتدفقة: لا يجوز أن نشرك ثالثا من جماعتنا في هذا الحديث! - طبعا .. طبعا يا أستاذ. ولكن لا تنس أن أول العلم كفر دائما!
وقطع عليهما الحديث ارتفاع صوت سليمان عتة بالغضب، والظاهر أن ملاعبه سيد عارف أغاظه بهذره فتهيج القرد وصاح به: إن الله الذي سلبك قواك عادل حكيم!
وذكر أحمد عاكف ما قيل عن سيد عارف منذ ساعة فنظر إلى أحمد راشد مبتسما، فرد الشاب على ابتسامته بابتسامة ذات معنى وقال: صاحبنا يجرب الأقراص ويعقد بها رجاء صادقا!
ولفت انتباههما جماعة من لابسي الجلابيب أحاطوا بمائدة عند مدخل القهوة ومضى كل منهم يعد رزمة ضخمة من الأوراق المالية، وكان منظرا يستدعي الدهشة لما فيه من أوجه التناقض، فقال أحمد عاكف: لعلهم من أغنياء الحرب!
فقال الآخر موافقا: سيهجرون طبقة ويلحقون بطبقة أخرى! - إن الحرب ترفع كثيرين من السفلة! - السفلة! .. هذا صحيح ولكن لا يوجد حد فاصل بين السفلة والطبقة العالية، فأرستقراطيو اليوم كانوا سفلة الأمس، ألا تعلم أن رعاع الغزاة انتهبوا في الماضي أراضينا بحكم الغزو؟ .. وها هم أولاء يكونون طبقة عالية ممتعة بالجاه والسؤدد والامتيازات التي لا حصر لها.
ولأول مرة يميل إلى موافقته دون نزوع إلى المعارضة، فقال: هذا رأيي!
فاستدرك الشاب قائلا: ويري كارل ماركس أن العمال سيظفرون بالنصر النهائي، فيصير العالم طبقة واحدة ممتعة بالضرورات الحيوية والكمالات الإنسانية، وهذه هي الاشتراكية!
ولزما الصمت كأنما أجهدهما التعب، فجعل عاكف يفكر متألما: يا لها من آراء! .. فرويد وماركس، الذرات وملايين العوالم، الاشتراكية! واختلس منه نظرات ملتهبة بالحقد والكراهية والحنق، فما كان يظن قط أنه سيعثر في خان الخليلي على من يتحدى ثقافته، ويجبره على التسليم بأن فوق كل ذي علم عليما! أفلا يظفر بالراحة في هذه الدنيا؟!
وعند ذاك خلع الشاب نظارته ليمسح عينيه بمنديله فاكتشف أن عينه اليسرى زجاجية! ودهش أول وهلة، ثم غمره شعور بالارتياح خبيث؛ لأنه وجد في عوره وجها للاستعلاء عليه أيا كان هذا الوجه!
Bog aan la aqoon
ولبث فترة قصيرة، ثم غادر القهوة عائدا إلى البيت هائج النفس، ثائر الكرامة، ولحسن حظه ذكر فجأة الغلام! .. وسرعان ما تغيرت حاله ورفت على حواسه الملتهبة بسمة رطيبة أذهبت رياح الحقد والغضب، وتمثلت لخياله العينان النجلاوان، والنظرة الفاتنة، فتنهد متحيرا، وهمس لفؤاده «سأراه حتما مرة أخرى!»
7
ونهض في الصباح المبكر نشيطا، ففتح النافذة وأطل منها على الحي العجيب فوجد الحي يتمطى مستيقظا، فالدكاكين ترفع أبوابها ونوافذ الشقق تفتح على مصاريعها وباعة اللبن والصحف ينطلقون إلى الطرق المتشابكة منادين بغير انقطاع، وجذب انتباهه قدوم جماعات من «مشايخ» المعاهد الأولية الغلمان يسيرون زرافات نحو معهدهم في جبب سوداء وعمم بيضاء فذكروه ب «الفشار» في المقلى وأنصت إليهم مستلذا وهم يرتلون معا
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
وجعل رأسه يروح معهم ويجيء حتى ختموها
يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما
فذكر لتوه أحمد راشد المحامي، فهو من الذين أعد لهم العذاب الأليم! .. وإنه به لحقيق!
وعند عصر ذاك اليوم وقد جلس وأمه في الصالة يشربان القهوة، قالت له المرأة بسرور: زارني اليوم نساء الحي من الجيران للترحيب بي والتعرف إلي كما جرت العادة.
فابتسم أحمد الذي يقدر سرور أمه بمعرفة الناس وولعها بالزيارة وقال لها: هنيئا لك!
فضحكت وهي تتناول منه سيجارة، ثم أشعلتها وهي تقول: فيهن نساء لطيفات سيملأن غربتنا حرارة وحبورا! - لعلك أن تنسي بهن الصديقات القديمات من نساء السكاكيني والظاهر والعباسية!
Bog aan la aqoon
فكبر عليها قوله وصاحت به: أينسى الكريم أحبابه؟! .. هن روحي وحياتي، ولن يفرق بيننا البعد مهما امتد وطال. - ونساء الحي من أي نوع هن؟!
فقالت المرأة باهتمام وبلهجة من ينبري للدفاع: لسن من السفلة ولا من الفجر كما ظننت، وبعض الظن إثم، وكان بين اللائي زرنني زوج موظف بالمساحة يدعى كمال خليل، وزوج آخر بالمساحة أيضا يدعى سيد عارف، وجاءتني أيضا زوج صاحب مقهى الزهرة وشقيقته، والزوجة امرأة طيبة القلب، أما شقيقة زوجها فينطق في عينيها المكر والشر، وإن سترت ذلك كله بغلالة شفافة من الرقة والابتسام! - داريها هي وأمثالها باللطف، فإنه إن يبلغها شيء عنك من وراء وراء كشفت وجهها علينا! - لا سمح الله يا بني، أما أعجب ما صادفت اليوم فهو أن الست توحيدة حرم كمال أفندي خليل - وهي جسيمة كالمحمل أو كأمك أيام شبابها - صديقة قديمة .. عرفتها في دكان بهلة العطار بالتربيعة. - وأنتما تسعيان معا إلى وصفات السمن! - هو ذلك .. وتبادلنا التحية هناك مرات، ولكننا لم نتقدم وراء ذلك في سبيل التعارف! - ها هي ذي الأيام تعارف بينكما!
ثم ذكر أن هذه السيدة أم الغلام محمد! .. ولم يكن ذكره في نهاره إلا حين جاء ذكر أمه، فعجب كيف نسيه طوال ذلك الزمن، وقد كان قبل عشرين ساعة ملء القلب والخيال! ولكن أمه لم تدعه لأفكاره فضحكت ضحكة عالية وقالت: وأخذنا في كذب النساء طويلا وكذب النساء لذيذ، فهذه أبوها فقيه كبير يتبارك الناس بتقبيل يديه، وتلك كريمة تاجر واسع الثروة، والثالثة قريبة مدير حسابات الداخلية، والرابعة مرضت مرضا أنفقت على علاجه عشرات الجنيهات!
وضحكا معا، ثم سألها الكهل وما زال ضاحكا: وكيف كان كذبك؟!
فقالت وهي تحدجه بنظرة ضاحكة: يسيرا لا تثريب عليه يوم الحساب، فأبوك أحيل على المعاش منذ زمن يسير، وكان مفتشا بالأوقاف، وأما أبي - جدك - فكان تاجرا، وأنت يا نور عيني رئيس قلم بوزارة الأشغال، ولك من العمر اثنان وثلاثون عاما لا غير، فتذكر! - يا خبر! - لا فائدة من الاعتراض، وإياك وتكذيب الكذب! وأنا أكبرك بثلاثة عشر عاما، فأنا في الخامسة والأربعين. - هل ولدتني وأنت طفلة؟! - الأنثى تلد في الثانية عشرة من عمرها؟ - هذه أخت وليست بأم. - صدقت فالولد الأكبر أخو والديه، أما أخوك فوكيل بنك مصر بأسيوط!
فهز الرجل رأسه عجبا وقال: كيف تؤاتيكن الجرأة على تزييف حقائق لن تخفى طويلا عن أعين الجار، ولا بد أن تنكشف حقيقتها يوما ما؟!
فقالت ببساطة: غدا تؤلف العشرة بين قلوبنا ونعرف الحقيقة رويدا رويدا بلا سخرية ولا تعيير، ولو أنني قلت الحقيقة بغير زيادة، لما صدقنني كما لا يصدقنني الآن، ولانتقصن من رأس المال بدلا من أن ينتقصن من الفائدة! - يا لكن من كاذبات لا يشق لهن غبار! - وماذا عليك من هذا؟! طوبى لكذب غايته الرفعة والفخر. إن كذب النساء بلسم لجراح دامية، متعك الله بعروس تعاطيك أجمل الكذب وأشهاه!
فضحك الكهل على امتعاضه لذكر العروس وكرر قوله السابق قائلا: يا لكن من كاذبات لا يشق لهن غبار!
ولحظته غامزة بعينيها وسألته: وأنتم يا بني ألا تكذبون؟
وصمت قليلا، لا لأن الجواب غائب، ولكن لأنه تفكر قليلا فيما تنوء به حياته من ألوان الكذب، ثم قال: نكذب، ولكن في أمور أجل! - عسى أن يكون تافها عندنا ما هو جليل عندكم، ولكن هل تعد العمر والفخر بالجاه والسؤدد أمورا تافهة؟! - كذب الرجال جليل كالرجولة نفسها! فأين أنتن من كذب التجار والساسة ورجال الدين؟! كذب الرجال محور هذه الحياة الجليلة التي تشاهدين آثارها في معترك الحكومة والبرلمان والمصانع والمعاهد، بل هو محور هذه الحرب الهائلة التي رمت بنا إلى هذا الحي الغريب.
Bog aan la aqoon
وعلم أنها لم تفهم من قوله إلا أقله، فسر لذلك سرورا مضاعفا، ثم ذكر أمرا فسألها: ألم تزرك زوجة من حريم المعلم نونو؟ - ملعون أبو الدنيا؟! لقد حدثتني بسيرته طويلا، ولكن الرجل يحرم على أزواجه الخروج أو النظر من النوافذ، وربما انقضى العام في أثر العام وهن قابعات في دارهن راضيات قانعات! - حقيق بمن يتغنى بلعن الدنيا ألا يأمن إليها! - والله يا بنى المرأة مظلومة كالدنيا، ولكن ما علينا من هذا فهل سمعت بشخص يدعى سليمان عتة؟ - المفتش؟ - تدعوه توحيدة هانم بالقرد!
ولعل قولها هذا أول صدق تقع فيه!
وقالت عنه ضاحكة: إنه يفكر في الزواج! - وأية فتاة ترضى بهذا القرد العجوز بعلا؟! - كثيرات لا حصر لهن، فالمال نصف الجمال على الأقل، فالفتاة هي التي تتصيده وتجد في طلبه حتى لا يفوتها الزواج منه قبل الخامسة والخمسين.
فسألها ضاحكا: وهل ينتهي الرجل عند هذه السن؟ - لا قدر الله، ولكنها لا تستحق في معاشه إذا تزوجت منه بعدها. - فهي ترغب في الزواج منه وتراهن على موته! فمن عسى أن تكون هذه العروسة الحكيمة؟ - قالت الست توحيدة هانم إنها كريمة يوسف بهلة العطار، وإنها الجمال عينه، فقد جمعت الحسن من طرفيه: الطبيعي والصناعي!
فتمثل أحمد عاكف صورة القرد العجوز باشمئزاز، وعجب كيف يحظى بما لا يطمع هو فيه من إقبال الحسان! ألم تنبذ يده امرأة - ليست بحال الجمال عينه - قائلة: إن عمره كبير؟! وأراد أن يتخيل صورة كريمة العطار، فذكر فجأة وهو لا يدري السمراء الحسناء ذات العينين النجلاوين التي التقى بها في الردهة الخارجية! فانقبض صدره وسأل أمه: هل يقيم العطار في عمارتنا؟
فقالت: كلا بل يسكن في بيت القاضي!
فتنهد ارتياحا! ثم تساءل ترى لأي أسرة تنتمي الفتاة؟ وما لبث أن كتم صيحة كادت تفلت من بين شفتيه! .. فقد ذكر في تلك اللحظة عيني الغلام محمد، وذكر أين رآهما أول مرة في وجه السمراء الحسناء في الردهة الخارجية! .. وهذا ما حاول تذكره فعز عليه ساعتئذ وأضناه، فالغلام شقيق الفتاة بغير شك! وخفق فؤاده، ولكنه شعر بارتياح عميق وسرور لذيذ وانجابت وساوسه وحيرته وخجله! وكان سروره باكتشافه من القوة بحيث لم يعد يلقي بالا إلى حديث أمه! فما زالت تتكلم وما زال يتيه في أحلامه.
8
وعندما أتى المساء مضى إلى الزهرة، ولم يمض دون تردد، فإن ارتياد المقاهي حدث جديد عليه لم يتعوده ولم يألفه، وكان حرصه على عزلته الثقافية يعادل تباهيه بها، فلولا ما يدعوه إلى هناك مصاولة أحمد راشد والظهور على الآخرين ما وجد خروجه على عزلته أمرا ميسورا، ولم يلتق في الزهرة بأحمد راشد، وسأل عنه فقيل له إنه كثيرا ما يمنعه العمل عن الحضور إلى القهوة. على أن الجلسة لم تصر - رغم ذلك - فاترة، وأحياها المعلم نونو والمعلم زفتة «القهوجي» بظرفهما الجميل، وتكلم أحمد عاكف كثيرا وضحك طويلا وقد أخذ يستهويه الاجتماع بالناس أو بالظرفاء من الناس خاصة، ويجد في الأنس بهم ما يجد التعب المنهوك أسلم جنبه للرقاد، وعاد إلى البيت في العاشرة، فعكف على المطالعة زهاء الساعتين وأطياف الحياة الجديدة تتراقص أمام عينيه بين السطور - وما عهد قط الاستغراق في القراءة - ثم نهض إلى فراشه وراح في النوم، ولم يدر أطال به النوم أم قصر، ولكنه استيقظ على صوت منكر، لم يتنبه إلى حقيقته في الثانية الأولى من استيقاظه، ثم أدرك كنهه فخفق قلبه خفقة فزعة، وقفز إلى أرض الحجرة بسرعة جنونية، وتحسس شبشبه بقدميه فوضعهما فيه ثم اندفع إلى الصالة الخارجية فالتقى بشبحي والديه تتقدمهما الخادم الصغيرة. وسأله أبوه بصوت متهدج: هل تعرف الطريق إلى المخبأ؟
فأجابت الخادم عنه بسرعة: أنا أعرفه يا سيدي.
Bog aan la aqoon
وسبقت الأسرة إلى الباب في ظلمة حالكة، وخرجوا جميعا إلى الردهة الخارجية متحسسين الحائط إلى السلم الحلزوني، وهناك بلغت آذانهم جلبة اليقظة التي شملت الدور جميعا، ومزق السكون صفقات الأبواب وهي تغلق، ووقع أقدام المهرولين على السلم، وتصاعد أصواتهم بالكلام والضحكات العصبية، وهبطت القافلة مهتدية إلى الدرابزين تخوض بحار الظلمات، ويسوقها الخوف والفزع، وفي الطريق أرشدتهم أشباح السكان وأصواتهم إلى الطريق فلم يحتاجوا إلى الاستدلال بخادمهم، وكانت الطرقات المسقوفة تبدو كداخل البيوت مظلمة، أما الآخر فيخفف شعاع النجوم الشاحب من شدة ظلمتها، وعاد بهم الخوف إلى ذكريات تلك الليلة الجهنمية فانقبضت صدورهم وجعلوا يقلبون وجوههم في السماء كلما لاحت لهم، ثم بلغوا مدخل المخبأ في تيار من القوم غير منقطع، وهبطوا مع سلمه في باطن الأرض حتى وجدوا أنفسهم في مكان متسع بهر أعينهم - المخدرة بالظلام - بمصابيحه الكهربية القوية، وكان سقفه وجدرانه تترك في نفس المشاهد أثرا عميقا بصلابتها وشدة مراسها، وقد التصقت بجوانبه مقاعد خشبية مستطيلة، وبعثرت في وسطه كثبان من الرمل، ومضت الأسرة إلى أحد الأركان واتخذت مجالسها وتفرق القاعدون إلى الأركان والمقاعد، ووقف خلق كثيرون وسط المخبأ ممن ضاقت عنهم المقاعد، وشاع الخوف أول الأمر فلم ينفع الاجتماع ولا النور ولا صلابة الجدران في تلطيف حدته، ومضت فترة انتظار مؤلمة نطقت فيها الأعين بعذاب الصدور. ونظر أبوه في ساعته ثم غمغم قائلا: الساعة الثانية صباحا! .. نفس ميعاد الليلة الفظيعة.
وكان أحمد يعاني ما يعانيه أبوه وأكثر، ولكنه قال بلهجة هادئة ما استطاع: كان الضرب خطأ فلن يتكرر إن شاء الله!
ومضت الدقائق متتابعة والسكون مطبق، وطالت فترة السكون فأخذ الأمن يتسرب إلى الجوانب الخافقة، وشاع الهمس والكلام، وعلا ضحك كثير، ثم طمأن القوم بعضهم بعضا، ونظر أحمد في الوجوه القريبة منه فوجدها غريبة وقد استبقوا إلى الحديث في جلبة، وقال رجل منهم: لن يبلغ الأذى مهبط رأس الحسين.
فقال له آخر: قل إن شاء الله! - كل شيء بمشيئة الله. - وهتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية! - بل يقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام! - ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقل الشيخ لبيب التقي النقي أنه رأى فيما يرى النائم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقلده سيف الإسلام! - فكيف ضربت القاهرة في منتصف هذا الشهر؟! - ضربت السكاكيني وهو حي غالبية سكانه من اليهود! - ترى ماذا ينتظر الأمم الإسلامية على يديه؟! - سوف يعيد - بعد فروغه من الحرب - إلى الإسلام مجده الأول، وينشئ من الأمم الإسلامية اتحادا كبيرا، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف! - لذلك يؤيده الله في حروبه. - وما كان الله لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى!
استمع الكهل إلى المتحاورين بلذة وإنكار، وكانت غالبيتهم من أهل البلد ولكنه لم يكن يتصور أن تبلغ بهم سذاجة التفكير هذا الحد من الأوهام، أو أن تؤثر فيهم الدعاية - إن كان هناك دعاية - هذا التأثير المضحك، ولكنه لم ينكر على حوارهم لذته وفكاهته غير المقصودة، وما كان ليحرم نفسه من متعته لولا أن وقع بصره اتفاقا على غريمه الأستاذ أحمد راشد متمشيا على كثب منه، فنهض إليه فورا فتصافحا ثم قال له عاكف: لم نرك اليوم.
فقال الشاب ذو المنظار الأسود: شغلت بدراسة قضية.
واستثار القول غيرته فلم ينبس بكلمة وراح المحامي يقول ملقيا نظرة شاملة على ما حوله: رأيت جميع الإخوان هنا معنا إلا المعلم نونو طبعا.
فابتسم عاكف قائلا: أعجب به من رجل غريب الأطوار! - يتلخص في الكلمات الآتية «ملعون أبو الدنيا». - هذا شعاره أو قل إنه نشيده. - ما كان أجدره أن يعيي الموت لولا قضاء الهرم. - هو الإيمان! - إنه يشعر بالله شعورا عميقا، ويحسبه في كل مكان يحله ويتوكل عليه بكل قلبه، ويطمئن كل الاطمئنان إلى أنه لن يتخلى عنه، وتراه يلم بالمعصية دون أدنى شك في غفرانه ورحمته.
فتنهد عاكف وقال: هذا رجل سعيد كما علمت!
فهز الشباب رأسه بما يشبه الاحتقار وقال: سعادة عجماوات، سعادة الجهل والإيمان الأعمى، السعادة التي يعيش الطغاة بفضل تملكها رقاب البلهاء، ومن المضحك أن تجد هذه السعادة الحمقاء من يأسى عليها بين الحكماء! فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان، فإذا وجدت مكانها قلقا وسخطا وشقاء فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقة بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها، الحقيقة ببلوغ السعادة الحقة، إن سعادة نونو لا تفضل شقاءنا - نحن دعاة العلم والإصلاح - إلا كما يمكن أن يفضل الموت براحته المزعومة نعمة الحياة بمتاعبها وكفاحها!
Bog aan la aqoon
ولم يجد عاكف من نفسه لتوتر أعصابه بجو المخبأ قوة يتوثب بها للنضال والمعارضة فقال مبتسما: ألا ترى أنه ينعم الآن بفضل سعادته العمياء برقاد لذيذ بينما نشقى نحن جميعا برطوبة الليل!
فضحك الشاب وكان أملك لجنانه من الآخر وقال: لا شك أنه ينعم الآن برقاد لذيذ لا شريك له فيه إلا معشوقة الأزواج!
فبدا على وجه عاكف ما يشهد بأنه لم يفهم شيئا، فابتسم المحامي واستدرك قائلا: ألم تسمع عنها بعد؟! .. إنها امرأة هائلة، وظيفتها الرسمية «زوج عباس شفة»، أما تذكره؟ .. أما بيتها فيستقبل كل مساء جمهرة أرباب البيوت بهذا الحي، فسماها المعلم زفتة القهوجي «معشوقة الأزواج»!
فلاح في وجه عاكف الاهتمام الذي يثيره هذا الحديث، وتساءل: أتعني ...؟! - نعم. - وعباس شفة؟! - زوج رسمي، زوج وجد في الزوجية مهنة ومرتزقا! - ألذلك تحتفون به على حقارته وقبحه؟ - إنه عزيز ذو مقام عظيم!
وتمثل عاكف وجه الرجل الدنيء وشعره المنفوش باحتقار شديد، وتحرك في تلك اللحظة الشاب فتحرك معه، يسيران في بطء شديد مستعرضين الجلوس والواقفين، حتى رأيا سيد عارف جالسا إلى جوار حسناء نصف واضعة على حجرها طفلا، فغمغم الشاب: صاحبنا سيد عارف وحرمه!
فسأله عاكف باهتمام واستحياء: حرمه؟! .. وكيف تزوج؟! - كما يتزوج الناس، وهو رجل عادي لولا حالة طارئة غير ميئوس منها، ورجاؤه كبير في الأقراص الألمانية، ولن ...
ولم يتم أحمد راشد كلامه فقد قطعه دوي طلقة شديدة، تابعتها طلقات متقاربة، وارتجف قلب عاكف وخال أن جسمه كله ارتجف فخاف أن يكون غريمه اطلع على رجفته، وساد سكون عميق وحارت في العيون نظرة قلق وخوف، وقال أناس: «هذه طلقات مدافع مضادة» يطمئنون أنفسهم ويطمئنون الآخرين، ولكن الكلام - أيا كانت مقاصده - أحدث في النفوس القلقة المنصتة جزعا وحنقا، وجاء رجل من الخارج مهرولا وقال وهو يلهث: «السماء ملأى بالأنوار الكاشفة!» فاشتد الخوف بالأفئدة، ثم سمعت طلقات أخرى بعيدة استمرت فترة وجيزة قبل أن يطبق السكون مرة أخرى، وطالت فترة السكون وامتدت فعادت الطمأنينة إلى النفوس، وتعالى الهمس ثم ضج المكان بالكلام: لن تعاد مأساة الضرب الأعمى. - لقد اعتذر راديو برلين عن غارة منتصف سبتمبر! - كانت غارة إيطالية فالألمان لا يخطئون.
فابتسم أحمد راشد - استطاع أن يبتسم ثانيا - وقال لصاحبه: أرأيت إلى هؤلاء المتعصبين للألمان؟! .. وأنت؟! .. هل أنت كهؤلاء؟
وكان عاكف يتلذذ - كعادته - بمشاركته المغلوبين عواطفهم، ولما كانت الغلبة للألمان في ذات الوقت فقد قال بغير تردد: كلا .. إني مع الحلفاء قلبا وقالبا، وأنت؟!
فسوى المنظار الأسود على عينيه وقال: لي أمل واحد: أن ينتصر الروس ويحرروا الدنيا من الأغلال والأوهام!
Bog aan la aqoon