واستوى جالسا وقال وما يزال منفعلا: لماذا خاطرت المرأة العجوز باصطحابها إلي؟ .. المرأة الماكرة ترمي بنظرها إلى بعيد، فترى الشفاء محتملا كالموت، وتأخذ الحيطة لكل احتمال، ولكني يا أخي لن أفكر في الزواج، وإذا كتب الله لي الشفاء فسوف أتعهد بنياني المتهالك بالعناية الواجبة، فعلى أحسن الفروض لن يبقى من عمري إلا شيخوخة حقيقة بالرعاية الحكيمة. أخي.. لي في المصرف مقدار من النقود كنت ادخرته لزواجي فسأسترده وأشد الرحال إلى حلوان، وهناك أضع نفسي تحت رحمة المقادير حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، غدا اسحب لي النقود بنفسك، وابتع لي ثيابا ولوازم، وسأكون بالمصحة قبل نهاية هذا الشهر، وعلى الله الجبر.
47
وفي ضحى اليوم الثاني - الجمعة - نفذ أحمد مشيئة أخيه، فاسترد وديعته من المصرف وابتاع له بيجامتين وثيابا داخلية وبعض اللوازم الثانوية، وعاد إلى البيت ظهرا مسرورا بما قر رأي المريض عليه من الانتقال إلى حلوان، ولما دخل حجرة الشاب رآه يدخن سيجارة، فانزعج انزعاجا شديدا، وكان أقلع عن التدخين منذ ظهور المرض، فارتبك لمرأى القادم، وابتسم ابتسامة ارتباك وخجل. وهتف به أحمد وقد نسي المشتريات الجديدة: من أعطاك هذه السيجارة؟ .. ماذا تفعل بنفسك؟!
وألقى على أمه نظرة ملؤها الاتهام، فقالت المرأة تدافع عن نفسها: ألح علي يا أحمد ولم ينفع اعتراضي، فما سكت حتى فاز بطلبته.
وقال رشدي دون أن يترك السيجارة: لا تؤاخذني يا أخي .. نازعتني نفسي إلى التدخين فجأة فلم أستطع مقاومتها.
فقال أحمد بامتعاض شديد: ولكن هذا هو الجنون عينه!
فقال الشاب كالمعتذر: سيجارة واحدة لا تؤذي، لكم هي لذيذة! دعني آخذ أنفاسها في طمأنينة.
ودخن سيجارته في سرور عجيب ، ثم قال: لا تغضب يا أخي فهي آخر سيجارة، والآن هات ما عندك من الثياب الجديدة.
وبعد الغداء بقليل اعتراه إعياء شديد ولم يطمئن إلى الاضطجاع، فجلس في الفراش مادا ساقيه مسندا ظهره إلى وسادة منكسرة، فبدا ساقاه كخطين، واشتد اصفرار وجهه وشابته زرقة خفيفة، ولاحت عيناه متسعتين مكحلتين بهالتين سوداوين، وارتسمت على الحدقتين نظرة غريبة، غير نظرة الحزن الأولى، كأنها ترمى إلى شيء بعيد لا تراه الأعين، وجاءه أحمد يجالسه ساعة العصر قبل أن يمضي إلى قهوة الزهرة، فقال له رشدي: أذاهب إلى الزهرة؟! .. سلامي إلى الصحاب. لكم يشوقني أن أسهر ليلة في السكاكيني بين إخواني.
فقال أحمد بتأثر: ستبرأ إن شاء الله وتعود إلى إخوانك ولياليك!
Bog aan la aqoon