فرفع أحمد يده إلى رأسه وقال: تشرفنا يا معلم، محسوبك أحمد عاكف بوزارة الأشغال!
وكان لا يحب ذكر وظيفته إرضاء لكبريائه، فكانت لحظات التعارف لحظات تعذيب، بيد أنه لم يتألم هذه المرة كعادته لإيقانه بما يكنه أمثال المعلم نونو للموظفين من احترام، وقد رفع الرجل يديه إلى رأسه احتراما ثم ابتسم ابتسامة لطيفة، وقال بما طبع عليه من صراحة: أنتم شرفتم حينا يا سادة، ولكن هل جئتم حقا إلى هنا خوفا من الغارات؟!
وعجب أحمد عاكف كيف عرف سبب هجرتهم ولما يمض عليهم في الحي الجديد سوى ليلة واحدة! فحدج الرجل بنظرة إنكار وتساءل: من قال لك ذلك؟!
فقال المعلم ببساطة: الحوذي الذي نقل أثاثكم، الناس جميعا تهاجر هذه الأيام!
فقال أحمد عاكف يدافع عن «شجاعة» أسرته: الواقع أن أحياءنا المعرضة للخطر كادت تخلو، وقد حملنا مرض والدي بالقلب وخوفنا عليه على هجر بيتنا القديم آسفين!
وعند ذاك جاء غلام المعلم بالشاي والنارجيلة. فوضع النارجيلة أمام المعلم، ثم أتى بكرسي من الدكان وضعه أمام الضيف ووضع الإبريق عليه، وعزم المعلم على ضيفه أن يحسو الشاي وأقبل على النارجيلة بلذة وشهوة، وأخذ نفسا طويلا روى به غلة خيشومه ثم استدرك قائلا: حسن أن يلتمس الإنسان سبيل الطمأنينة وإن كان العمر واحدا والرب واحدا، والمكتوب حتما تشوفه العين. إني يا عاكف أفندي من المتوكلين على الله، وما عرفت حتى الآن طريق المخبأ. أي مخبأ يا سعادة البيك؟! .. هل يستطيع نونو أن يراوغ القدر أو يؤجل قضاء الله؟! .. ألم تسمع صالح عبد الحي وهو يغني: «نصيبك في الحياة لازم يصيبك»؟! بيد أني أدعو الله أن يكفينا شر الأيام، وأعود فأقول إن حظنا حلو، فلولا حكمة بعض الناس ما فزنا بهذا الجوار السعيد!
ولاحظ أحمد أن كلام الرجل حوى أوله سخرية به - وإن كانت سخرية غير مقصودة - بينما حوى آخره ما يستوجب الشكر! فابتسم قائلا: شكرا يا معلم، فلطالما قال لنا الحكماء إن حي الحسين آمن!
فأخذ الرجل نفسا عميقا ثم زفره سحابة من الدخان كثيفة وقال: صدقوا ثم صدقوا، إنه حي مبارك محبوب، مكرم من أجل صاحبه، وسوف ترى فيما يقبل من الأيام أنك لن تستطيع السلو عنه أو الزهد فيه، وسوف يدعوك شيء من الأعماق إليه .. تفضل خذ نفسا من النارجيلة.
فشكره أحمد معتذرا، وكان يحتسي الشاي بلذة مصغيا لصاحبه، وكأنما أراد أن يجاريه في التدخين، ولكن على طريقته هو، فاستخرج سيجارة من علبته وأشعلها مبتسما، وقد أحس نحو محدثه بارتياح لما وجده فيه من غرابة لم يعهدها في أحد من الناس قبله، وأعجبته بساطته وصراحته وقوته، وأهم من هذا جميعه أنه شعر نحوه باستعلاء تملق غروره المعذب فمال إليه. أما المعلم نونو فاستدرك قائلا: لماذا ترغب عن النارجيلة؟! إن هي إلا سيجارة بماء، أو دخان مكرر مطهر، وفوق ذلك فلحضرتها سلطنة، وقرقرتها موسيقى، وفي شكلها «سكس أبيل».
فلم يملك عاكف نفسه الضحك فأرسل ضحكة رفيعة ضاعت في جلجلة ضحكة المعلم التي تصاعدت كخوار عال متصل انتهى بسعال متقطع استمر حتى انقطع نفسه، ثم قال وأساريره ما تزال ضاحكة: أتحسب أن البلدي جاهل؟ ألم تعلم أن زوار هذا الحي من الإنجليز أضعاف أضعاف أمثالهم من أولاد العرب؟! .. ودين الحسين ورب الحسين لتسرن بحينا سرورا لا مزيد عليه، وليكن جوارا سعيدا وأياما سعيدة رغم هتلر وموسوليني! - بإذن الله .. إن شاء الله!
Bog aan la aqoon