فقال بصوت خافت: ولكني في هذا الأمر أجهل من دابة!
فقال المعلم بزهو وخيلاء: اجعلني دليلك، وأيا ما كان فهذا الأمر أسهل من كتبك وأجل فائدة!
وعادا معا يخبطان في الممرات الملتوية يشملهما ظلام دامس، ودخلا عمارة وارتقيا السلم إلى الطابق الثالث، وضغط الرجل زر الجرس الكهربائي وهو يقول: إذا جئت بمفردك وأردت أن يفتحوا لك فآيتك أن تضغط الزر خمس دفعات متتابعات ثم تذكر كلمة السر التي سأقولها الآن.
وسمعا صوت عباس شفة يسأل عن القادم فقال المعلم: ملعون أبو الدنيا!
وفتح الباب ودخل أحمد بقلب هياب وتبعه المعلم، وعبرا صالة إلى حجرة واسعة مزدحمة بالجالسين مضاءة بنور أزرق هادئ كنور الفجر العليل، ينبعث من مصباح ملفوف بغلالة زرقاء، فاتجهت الأنظار نحو القادمين، واستقرت على الجديد منهما حتى تعثر بالارتباك والحياء، وقد تربعوا على شلت تراصت على صورة دائرة، ووضع في وسطها «العدد» كالمجمرة والجوزة والطباق، فتبادلا التحية مع الحاضرين وجلسا جنبا إلى جنب، واستطاع أحمد أن يلقي نظرة عامة على المكان، ويرى إخوان قهوة الزهرة - فيما عدا أحمد راشد - بين الموجودين، ثم استرعى صدر المكان انتباهه حيث جلست امرأة «هائلة» على شلتة ضخمة، وإنها لهائلة حقا، ففي جلستها كانت تطاول شخصا قائما، عريضة المنكبين، طويلة الجيد، مستديرة الوجه في امتلاء وضخامة، واضحة القسمات، يراوح لونها بين المصري والحبشي، أما شعرها فكستنائي مجعد شد إلى ضفيرة غليظة قصيرة، وأعجب ما في وجهها عينان كبيرتان بارزتان بروزا لا يبلغ القبح، لنظرتهما حدة ولحورهما التماع، ويوحي منظرها بالهيبة لضخامتها وقوتها، وبالشهوة لأمارات الحيوانية البادية في ملامحها، والإغراء المنعكس عن خلاعتها، وقد وضعت على كتفيها شالا مجملا منمنما وجعلت تتفرس في وجهه بعينيها القادحتين.
وأدرك أحمد عاكف أنها عليات الفائزة التي يدعونها بمعشوقة الأزواج، وقد جلس زوجها عباس شفة إلى يمينها بينما جلس إلى يسارها المعلم زفتة القهوجي، وسفر المعلم نونو بين الرجل وبينها بالتعارف، فمدت له راحتها المخضبة بالحناء ورحبت به، وحدجه المعلم زفتة بنظرة تأنيب وقال له متضاحكا: وأخيرا عرفت إن الله حق! لكم أنفقت من عمر في حجرتك! وعلام ذلك التعذيب؟! .. لا أنت متزوج ولا أنت رجل عجوز، ولكنه ظلم الإنسان لنفسه!
فقال المعلم نونو يزكي صاحبه ويعتذر عن «غفلته»: يا إخواني، إن نظري لا يخيب وفراستي تصدقني دائما، وقد اقتنعت من أول نظرة بأن صاحبنا أحمد أفندي «ابن حظ» ولكن أضلته الظروف عن منهله العذب حينا، وإنا لهادوه بإذن الله!
وخاف كمال أفندي خليل أن يضيق صاحبه - الذي جدت دواع جديدة تحمله على إرضائه - بكثرة المداعبات فقال: الأستاذ أحمد عاكف يا سادة رجل مطلع، ولكن لا ضير من أن يأخذ حظا من السرور، فالحياة لا يمكن أن تكون عناء متصلا.
فلوح المعلم زفتة بيده كالساخط وقال: ولماذا نقضي على أنفسنا، وبمحض اختيارنا، بعناء متصل أو منفصل؟! الأستاذ موظف ذو مقام فماذا يوجب عليه أن يقرأ كالتلاميذ من غير مؤاخذة؟! عاهدنا على ألا تغيب عنا ليلة بعد اليوم!
فابتسم أحمد كالمرتبك، وزاد من ارتباكه أن قالت عليات الفائزة تخاطب زفتة وهي تلحظ الكهل: رويدك يا معلم، كيف يعاهدك على ذلك وقد لا يطيب بنا نفسا؟!
Bog aan la aqoon