وهرع إلى الزهرة قبيل المغرب مرتاحا إلى مغادرة البيت، وجالس الصحاب ساعتين ملقيا بنفسه في تيار الحديث لائذا بشجونه من نفسه وأفكاره، ثم رجع إلى البيت وكان رشدي ما يزال في الخارج - طبعا - يسهر ليلته في الكازينو، فكأن فتاته استأثرت بالوقت القصير - من الظهر للمغرب - الذي كان يخلد فيه إلى الراحة وجعلت من يومه وحدة متصلة من اليقظة والتعب، وألقى الرجل على النافذة - التي عاهد نفسه ألا تفتح أثناء وجوده بالبيت - نظرة غاضبة، وتساءل وهو يخلع ملابسه ترى ألم تلاحظ تغيبه عن النافذة؟ ألم يربها من الأمر ما ينبغي أن يربيها؟ لكم يود لو تعلم باحتقاره غدرها، فكبرياؤه ما تزال جريحة تنزف، ونفسه مكتوبة بنار حامية.
ونام قبل موعده لصدود نفسه عن القراءة، ثم استيقظ على صفارة الإنذار، فنهض مسرعا وارتدى معطفه وغادر الحجرة فالتقى بوالديه في الصالة، وكانت أمه قلقة لأن رشدي لم يكن عاد من سهرته وجعلت تتساءل عن المكان المحتمل وجوده فيه وتدعو الله أن يقيه السوء، وفي الطريق وجدوا الجو باردا رطبا فقال والده: «ما ينتظرنا في الشتاء أدهى وأمر.» ومضوا إلى المخبأ واتخذوا أماكنهم المعهودة، ونظر الأب في ساعته فوجدها الثانية بعد منتصف الليل، فقال باستياء وتهكم: أليس الأرحم برشدي أن يبيت في الخارج حتى لا يكلف نفسه مشقة الرجوع إلى البيت في مثل هذه الساعة؟
وحدثت أحمد نفسه باستراق النظر! ولكنه رأى رشدي يهبط أدراج المخبأ متعجلا ويدور بعينيه في المكان باحثا عنهم، ولما عثر بهم اتجه نحوهم مبتسما متشجعا ببقية حميا الشراب على مواجهتهم - ومواجهة أبيه خاصة - وحياهم ثم قال لأحمد: أطلقت صفارة الإنذار ونحن في الجمالية فعدوت في الظلام كالشياطين!
فانتهره أبوه قائلا: أنت كالشياطين بغير جدال، ألا تريد أن تخفف عن غلوائك في هذا الوقت العصيب!
ولم يتجاسر أحمد على استراق النظر في حضرة الشاب! ولكن رشدي ضاق بالجلوس ذرعا فقام يتمشى في المخبأ، وأطلق الكهل لعينيه العنان فانطلقت نظرتهما القلقة إلى الركن البعيد حيث تجلس أسرة كمال خليل، ورآها، كانت جالسة جنب أمها مطرقة، فرأى جانب وجهها الأيمن. هل رأته يا ترى؟ .. ألا تزال تحسب أنه يجهل أمرها؟ أما تعاني شيئا من القلق والعذاب؟ أم أنه المقضي عليه بالقلق والعذاب وحده؟! .. وطافت برأسه في تلك اللحظة تمنياته الجهنمية عن الغارة المدمرة فارتجف قلبه ورفع رأسه إلى سقف المخبأ داعيا في سره: «اللهم رحمتك يا أرحم الراحمين.» ثم وقع بصره على كمال خليل وسيد عارف واقفين على كثب من مجلس أسرة أولهما يحادثان شقيقه! فتولته الدهشة؛ كيف تعرف الشاب بهما؟ ومتى حدث ذلك؟ وهل رمى الشاب من وراء ذلك إلى غرض معين؟! .. حقا إنه شاب جسور يعجز خياله - هو - عن مجاراة أفعاله! وخامره نحوه شعور بالإعجاب ممتزجا بالحنق، بيد أنه انقطع عن التمادي في مشاعره لدوي انفجار انتشر فجأة فملأ الأسماع، وانطلقت وراءه طلقات المدافع المضادة بسرعة فائقة، فحلق الخوف فوق القلوب الواجفة كحدأة منهومة تنقض على أفراخ مذعورة، ولم يتكرر الانفجار ولكن استمرت طلقات المدافع المضادة فترة وجيزة. ثم عاد السكون إلى نصابه، فأخذ القوم أنفاسهم، ومضت ربع ساعة أخرى ثم انطلقت صفارة الأمان. وفتش أحمد على أخيه فلم يجده، وكان الناس يخرجون أفواجا، فخطر له خاطر أعاد له ذكريات قديمة، فبحثت عيناه عن أسرة كمال خليل فرآها قريبة من مجلسها تنتظر أن يخف التزاحم على باب المخبأ إلا أنه لم ير نوال! وذكر ليلة دعته إلى اللحاق بها وكيف تردد وجبن! أما رشدي فلا يمكن أن يتردد أو يجبن!
29
واطرد مجرى الحياة، فتوطدت أسباب الصداقة بين رشدي وكمال خليل على حداثة عهدهما بالتعارف، وتفاوت ما بين عمريهما، بفضل لباقة الشباب وكياسته، ودعاه الرجل إلى قهوة الزهرة فلبى دعوته وجالس صحاب شقيقه - والكهل بينهم - ونال إعجابهم بما طبع عليه من دماثة الخلق وإشراق الوجه.
وطاب له المجلس فنوى أن يعاوده بين الحين والحين، ثم دعاه الرجل إلى زيارة بيته فمضى إليه فرحا مسرورا، وتوثقت عرى المودة بينهما، واكتسب الشاب ثقة الرجل لحد أن قدمه إلى زوجته وكريمته، ورفع الحجاب بينه وبين أسرته، وهي خطوة لم يتوقعها رشدي قط، ولا دار له بخلد أن تتخذها أسرة بحي الحسين خاصة حيث تسود روح المحافظة، بل إن أسرته هو لتعتبر من هذه الناحية أشد محافظة على خلوها من الفتيات، فما يجرؤ هو ولا أخوه - فضلا عن أبيه - على أن يقدما رجلا غريبا إلى أمهما، على أنه سر بذلك سرورا لا يدانيه سرور، وسعد بتلك الثقة الغالية، واصطبغ تفكيره بلون الجد فاستشعر الرزانة والتبعة، وتبع ذلك أن حل رشدي محل الأستاذ أحمد راشد المحامي في التدريس لنوال ومحمد، ولما اتصل نبأ ذلك بالأخ الأكبر عقدت الدهشة لسانه، ولم يدر كيف حدث ولا كيف أمكن أن يحدث، فأخوه صار كأنه عضو في أسرة الجيران، ولو أنه وطن النفس يوما على أن يبلغ هذه المنزلة التي بلغها رشدي في أيام لما كفته عشرون عاما، ولكم رمقه بعين الإعجاب المقرون بالحسد، ولكنه نجح في التظاهر بالجهل المطبق، فأسبل جفنيه على القذى كما أغلق النافذة على آلامه، واستسلم للصبر الذي استمرأه لطول ما عاناه، أما الأم فلم يغب عنها شيء من بادئ الأمر، فلم يكن رشدي من الذين يعنون بإخفاء أسرارهم، كان يلازم نافذته إذا وجد بالبيت، ويهرع إلى بيت الجيران في ساعات الدروس، وكان يغشى روحه هيمان بدت آثاره في عنايته المتضاعفة بأناقته، وفي الحنان الذي اكتسبه صوته وهو يغني، وفي خروجه الباكر كل صباح الذي لم تعد تخفى حقيقته على أحد، بل ما من شك أن أسرة الجيران نفسها باتت تعلم من أمره ما تعلم، وتعقد عليه من الأمل ما يثلج صدرها بالسعادة، لم يغب شيء من هذا عن الست دولت، وشاورت قلبها فيه فلم تجد منه إباء ولا نفورا، وكان من عادتها أن تقول أحيانا كالمتحسرة: «متى يا رب أفرح بالعرائس كالأمهات السعيدات؟!» ولكن هل نوال جديرة بابنها؟! لم لا؟! هي عروس حسناء متعلمة، من أسرة طيبة، ووالدها موظف، فكل شيء مناسب، اللهم إلا خاطرا واحدا أحزنها وأكربها، أيجوز أن يتزوج رشدي قبل أحمد؟! ولكن ما حيلتها؟! فلتنتظر ما تلد الأيام من أحداث تقضي بها مشيئة الله الحكيمة!
وفات رشدي طور اللعب، فهو يبدأ بمعابثة الغزل ولكنه ينتهي دائما بالحب الحقيقي! فأحب نوال واستعرت لها في قلبه عاطفة صادقة، أليست بجارة النافذة المحبوبة، ورفيقة طريق الجبل المكللة هامته بالسحاب الرقيق، وتلميذته المغرمة يطارحها الهوى على مائدة الحساب والجبر والهندسة، وجليسته في السينما صباح الجمع؟ .. علق الهوى على قلبين طريين، ولصق نفسين تواقتين للحب والسعادة، وصارت حياته نشاطا متصلا يشق على الجسد والأعصاب، فهو إما مكب على عمله في المصرف أو هائم في غرامياته، أو ساهر في كازينو غمرة، فلم يخلد إلى الراحة إلا في الهزيع الأخير من الليل، فلم ينتشله حبه من داء المقامرة أو معاقرة الشراب ولا حتى من الحب الفاجر! وعالج هاتيك اللذات في يسر، وأنسته العادة أنها خطايا فأنس بها بلا تردد، ولم يتخيل أن الحياة حياة بغيرها، فعبد الورق والكأس والحب، وعسى أن يهوله ما تستوجبه هذه الحياة من مال ومشقة فيقول متأسيا: «غدا أودع حتما كل شيء إذا تزوجت!»
وكان حريا أن يفكر في نسيان ذاك العبث ليأخذ أهبته للزواج إن كان من الصادقين، ولكن هون عليه الأمر أنه أودع المصرف يوما مبلغ خمسين جنيها ربحها من السباق، ففي بحر عام واحد يستطيع أن يقتصد من مرتبه ما لو أضافه إلى ذاك المبلغ لقام بنفقات الزواج، ولكن متى يبدأ هذا العام؟ هذا ما كان يؤجل التفكير فيه، مستسلما لتيار الشهوات العارم، فلم يتعود قط أن يروض من جماح شهوته، أو أن يحد من رغباته، أو أن يشد من إرادته، إلا أنه تردد أخيرا متحيرا، عينا على الحياة التي يلبي نداءها، وعينا على الفتاة التي يهواها.
Bog aan la aqoon