فحدث كثيرا - في هيجان العاطفة - أن بذل وعده صادقا مخلصا فكانت خطوبة! ثم لم يدم ذلك إلا ريثما تهدأ العاطفة أو يجد النوى أو يحدث أمر ما، فلم تعرف حياته الهدوء، ولا السكينة ولا الراحة، وباتت مرعى خصيبا للشهوات والملاذ، فنالت منه حتى أعيته ونهكته، فنحف وهزل وصار - على حد تعبير والديه - كالعود، وكان أحمد - الذي يحبه ويشفق عليه - يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: «ارحم نفسك!» فيجيبه بمرحه المألوف: «يرحمنا الله وإياكم!» ومنذ عام انتدبه البنك للعمل في فرع أسيوط فسر أهله - على أسفهم وحزنهم - وتعلقوا بأمل واحد أن يعتاد الفتى في المقام الجديد - مقام غربته - حياة معتدلة غير حياته الأولى ترد عليه بعض صحته، وتمسك عليه بعض نقوده؛ ولذلك تلقوا خبر نقله إلى القاهرة بسرور ورجاء، ينطويان على إشفاق.
16
ولم يبق من رمضان إلا ثلاثة أيام، وأسف أحمد على اقتراب نهاية الشهر المكرم، وهل ينسى فضله ورحمته؟ .. وهل ينسى موعد الأصيل منه حيث ولى عثار حظه ووحشة قلبه مع شمسه الغاربة وبات يسائل نفسه نري أين يكون الموعد غدا وماذا تخبئ الأيام؟ أما الست دولت فنشطت هي والخادم ليعدا حجرة الشاب القادم من أسيوط، وكانت الحجرة تلي حجرة الوالدين، وتطل نافذتها الوحيدة على الطريق المؤدي إلى خان الخليلي القديم - كإحدى نافذتي أحمد - فكنست الحجرة وغسلت ثم فرشت وباتت تنتظر القادم في أجمل صورة، ثم أخدت المرأة أهبتها لخوض غمار معركة موسمية - لغزو ابنها أحمد كالمعتاد - لمناسبة حلول عيد الفطر أو عيد الكعك كما يحلو لها أن تسميه، فانتهزت فرصة انفرادها بالرجل بعد الإفطار وراحت تودع رمضان بكلام طيب مترحمة على عهده وختمت كلامها قائلة: لم يبق إلا يومان، وبات الإنسان يشم رائحة الكعك الطيبة في الجو!
وكان يتوقع مثل ذاك الكلام، ويعلم أن المعركة آتية لا ريب فيها، وأنه مغلوب على أمره مهما قال أو تشكى، ولكنه لم يتعود أن يضحي بقرش قبل أن يريح ضميره بالدفاع عنه، فقال متذمرا: في مثل هذا الزمان لا يتشمم الناس رائحة الكعك، ولكنهم يسألون الله الستر، وأن ييسر لهم ضرورات الحياة، أما أنت يا نينة فلن تزالي متلهفة على الكماليات التافهة غير راحمة جيبي، يا هوه ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
فحدجته بنظرة تأنيب وإغراء، ثم أرعشت حاجبيها المزججين في ابتسام وقالت: آه منك آه، لكم تغضب على أمك بغير سبب كأنها غير التي أحبتك ودللتك، أتدعي الفقر وأنت الخير والبركة؟ .. أتتناسى أنه جاءت نوبتك لتدلل أمك؟ ولن أشق عليك يا زين الرجال فنحن نرضى بالقليل إكراما لك!
وعلم أنها لن تيأس أبدا، ولن تني حتى تظفر بسؤالها فتأوه قائلا: أف ... أف!
فقالت مبتسمة: أف لعيد بغير كعك. أنستقبل العيد بلا كعك وأنت رجلنا؟! - الكعك فرحة الأطفال. - والرجال والنساء، والعيد عيد الناس جميعا. ألم تر إلى أبيك كيف جهز نفسه بعباءة جديدة يصلي بها العيد؟ .. وكيف ابتعت أنت بدلة وطربوشا وحذاء مباركة عليك بسم الرحمن؟ .. أما سروري أنا بالعيد ففي العجن والنقش ورش السكر والحشو بالعجمية. •••
وفى الصباح الباكر من يوم الوقفة أخذ سمته إلى محطة مصر ليكون في انتظار الشاب القادم. وكان الجو رطبا ولكنه محتمل البرودة، فجلس على أريكة على «رصيف الصعيد» ولم يبق على قدوم القطار سوى دقائق، وتولاه ما يتولاه عادة من القلق إذا وجد بمحضر القطر المردة فرآها تنفث الدخان وتطلق الصفير الحاد، ولم يكن استقبل قطارا قط ولا غادر حدود القاهرة، ولا هزته رغبة في يوم ما إلى الارتحال والسفر، فتخيل السجن أخف على نفسه من الإقامة في بلد نازح. ولا شك أن جفوله من ملاقاة العالم الخارجي هو الذي بث في روحه كراهية الأسفار، ولكنه كان يفسر تلك الكراهية - كعادته في تفسير كل ما له شأن بسلوكه وطباعه - بأنها سجية المفكر الذي يحب المعنويات ويزهد في المحسوسات، ألم يعش أبو العلاء رهين المحبسين؟ وخفف من غلواء قلقه سروره بمقدم رشدي، شقيقه وابنه! وما ينتظر من معونته على النهوض بالتبعات الملقاة على عاتقه وحده، وما يحدثه محضره من ألوان التسلية والبهجة، وما لبث أن رأى الرءوس تتطلع نحو الجنوب، والنشاط والحركة يشملان المكان، فنظر مع الناظرين فرأى القطار قادما متمهلا، وما عتم أن ذاع ضجيجه فاهتزت له جوانح الأرض، وملأ منظره الأعين، وأخذ يقترب رويدا رويدا وقد امتلأت نوافذ عرباته بالرءوس المتطلعة حتى وقف شاغلا الرصيف الطويل وهرع نحوه المنتظرون، وجرت عينا الكهل على النوافذ وهو يزحم المتدافعين حوله حتى ظفر بضالته في مقدمة عربة من عربات الدرجة الثانية، وكان الشاب القادم يعطي حقيبته لأحد الحمالين، فهتف أحمد باسمه ولوح له بيده وهو يدنو من العربة، فالتفت الشاب إليه، ثم قفز إلى الأرض فصار تلقاء شقيقه، وسلم الأخوان بحرارة، وشد أحمد على ذراع الشاب قائلا: حمدا لله على السلامة، كيف حالك يا رجل؟!
فقال الشاب بسرور وقد تورد وجهه المتعب من وعثاء السفر: الحمد لله يا أخي .. كيف أنت؟ .. كيف الوالدان؟
وسارا جنبا لجنب نحو الخارج يعلوهما البشر، كانا ذوي طول واحد ونحافة متشابهة ولا يخطئ الناظر إليهما أنهما شقيقان على ذبول الأكبر ونضارة الأصغر، فملامحهما متقاربة، إلا أنها بلغت في وجه رشدي مداها من الحسن، وحال بينها وبين ذلك في وجه الآخر إما انحراف أو تجهم أو إعياء، فلرشدي أيضا ذاك الوجه الطويل النحيل ولكن ليس له خدا أحمد الذابلان، وسمرته - وإن اعتورها شحوب - صافية يجرى فيها ماء الشباب، وعيناه مستطيلتان متباعدتان إلا أن حدقتيهما أوسع، ونظراتهما أنفذ، والتماعهما خاطف يدل على حدة المزاج وروح الفكاهة والجسارة. سارا متكاتفين، وسرعان ما شعرا بدبيب الرغبة في الكلام يتحرك في أعماقهما شأن المتقابلين بعد فراق طويل، فلم يدريا ماذا يتركان وماذا يأخذان، ثم اهتدى الشاب إلى حديث فسأل أخاه: قبل كل شيء كيف حال نينة؟ - كما تحب أن تكون، وما زالت تجري وراء رغبات الأطفال دون مبالاة بإرهاقي، فتقدم يا بطل وخذ نصيبك! - لم أنس نصيبي وأنا في أسيوط فابتعت لها حليا عاجية وطباقا فاخرة وبخورا لطيفا أرجو أن يوافق «أسيادها» (وضحك ضحكة عالية) ... وأبي؟ .. كيف حاله؟ - كعهدك به .. عبادة في البيت، وزيارات لبيوت الله؛ وها قد أدنتنا الظروف من سيدنا الحسين فطوبى له!
Bog aan la aqoon