والظاهر أن الهاجمين لم يكونوا في قوة كبيرة، ولا سيما بعد أن تركوا قسما منهم في الخلف، ويظهر أنهم من بني عبس وذبيان، أما فزارة فبقيت في ذي القصة، وهكذا انقسمت القوة التي أرادت أن تهاجم المدينة إلى ثلاثة أقسام؛ قسم في ذي القصة، وقسم في ذي حسى، والقسم الثالث أغار على المدينة، أما قوة المسلمين فلا شك في أنها كانت ضعيفة ولعلها لم تزد على المائتين، وتشجع المرتدون من فرار جمال المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة بالخبر فلحقوا بهم.
ويختلف الرواة في الحركة التي جرت، فالأخبار التي يستند إليها الواقدي والبلاذري لا تبحث في غارة المرتدين على المدينة، ولا تذكر موقع ذي حسى، وتذكر أن أبا بكر لما علم أن القبائل اجتمعت في ذي القصة بقصد الغارة قرر أن يقاتلها في عقر دارها غير مبال بقلة عدده. وقصده من ذلك إرهاب المرتدين وإلقاء الرعب في قلوب العرب، وجعلهم يعتقدون أن المسلمين أقوياء، وأن ذهاب جيش أسامة لم يقلل من قوتهم، فتقدم أبو بكر على رأس المقدمة الراكبة نحو ذي القصة يعقبه الكوكب (القسم الأكبر)، وبالنظر إلى رواية سيف أن الجمال بعد أن نفرت براكبيها ودخلت المدينة، بات أبو بكر ليلة يتهيأ للهجوم، فبعد أن رتب قوته خرج مبكرا من المدينة، وباغت عدوه فهزمه شر هزيمة. والذي يلوح لنا أن الروايات الأولى هي الأصح، وكانت قوة المقدمة تبلغ مائة رجل، وسارت يومها وعسكرت مساء بالقرب من أجمة «فباغتها العدو من مكمنه وألجأها إلى الفرار فاحتمى أبو بكر بالأجمة ...» منتظرا ورود الكوكب (القسم الأكبر)، ولما نادى أحد المسلمين بوروده انهزم المرتدون، فطاردهم المسلمون إلى ثنايا العوسجة، ثم قفلوا راجعين إلى ذي القصة.
ويذكر الواقدي أن أبا بكر لم يخرج إلى ذي القصة إلا بعد عودة جيش أسامة إلى المدينة، غير أننا لا نميل إلى رأيه؛ لأن مجرى الأخبار يدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة لما خرجت من المدينة قاصدة العدو. ويزعم سيف أن بني ذبيان وعبس بعد هزيمتهم هذه وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين في كل قبيلة، وليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين، وكانت وقعة ذي القصة والبقعاء أول نصر للمسلمين على المرتدين، ومنها تظهر فراسة أبي بكر وصلابة عوده.
لا بد أن القارئ انتبه إلى فساد خطة القبائل في محاولتهم غزو المدينة؛ إذ بدلا من أن يجتمعوا في محل واحد للهجوم على المدينة أو أن يقاوموا جيش المسلمين معا، اجتمعت كل قبيلة في حيها؛ فاجتمع بنو أسد في السميراء، وفزارة في طيبة، وجديلة وغوث من طيء في جبليهما، وذبيان وعبس اجتمعت فرقة منها بالقرب من الربذة، والأخرى من ذي القصة أو البقعاء.
والداعي إلى تفرقهم على ما يظهر أن المياه في كل محل من تلك المحلات لم تكن كافية لأداء إرواء جماعة كبيرة، وكان الكلأ قليلا، فضلا من صعوبة اجتماع كلمة القبائل على غاية واحدة، وكان قبل ذلك حلف بين بني أسد وغطفان وطيء، بيد أن قتالا وقع بين غطفان وبني أسد من جهة أخرى فأمست القبائل متخاصمة، وكذلك كلمة طيء لم تكن مجتمعة، فمال إلى المرتدين فرقتان منها فقط، وهما جديلة وغوث، أما الفرق الأخرى فبقيت على إسلامها، وكانت القبائل في قيامها على المدينة يراقب بعضها بعضا، ولا تريد أن تكون البادئة بالعداء؛ ذلك ما جعل كلا منها يبقى في حيه ويراقب عمل الآخر.
وقد اختبر الصديق حالة القبائل وتأكد أن كلمتها لم تجتمع؛ لذلك لم يشأ أن يؤخر جيش أسامة عن سفره، واكتفى برجال المدينة والموالين من القبائل القريبة منها، وقد أيدت الوقائع رأيه. وبعد انتصار أبي بكر على القبائل في البقعاء قفل راجعا إلى المدينة، ولما شاع خبر انتصار المسلمين على أهل الردة في أول قتالهم أخذت الصدقات تأتي من الأطراف بعد أن تردد أهلها في إرسالها، فوردت صدقات عدي بن حاتم من طيء وصدقات أخرى.
وبعد مدة قصيرة عاد جيش أسامة من الشمال فقرت به أعين المسلمين، فلم يمهل أبو بكر المرتدين بعد أن بلغه أن بني عبس وذبيان أوقعت بمن فيها من المسلمين ومثلت بهم، وبعد وقعة ذي القصة أراد أن يفني من في الأبرق، فأراح جيش أسامة بضعة أيام وخرج بالقوة التي سار بها إلى ذي القصة بعد أن أنجدها بالناس من جيش أسامة، وتوجه نحو الأبرق، وفيه الفرقة الثانية من بني عبس وذبيان وبني كلاب وغيرهم.
وقد ناشده كبار الصحابة بألا يعرض نفسه للخطر بقيادة الجيش بنفسه، إلا أنه لم يجب طلبهم. فبعد أن عبأ جيشه باغت المرتدين في الأبرق فهزمهم شر هزيمة، وانسحبت فلولهم إلى السميراء والتحقت ببني أسد، ولما رأى طليحة الخطر انسحب بجميع القوات التي التفت حوله إلى بزاخة.
وأقام أبو بكر في الأبرق، وكان يملكه بنو ذبيان، فأعطى مراعيهم لخيل المسلمين وحرم بطون ذبيان منها. (9) تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش
تدل الأخبار على أن خالدا اشترك في قتال ذي القصة والأبرق مع المهاجرين، ولما رجع أبو بكر إلى المدينة انسحبت قوة المسلمين إلى ذي القصة، وتولى قيادتها خالد بن الوليد.
Bog aan la aqoon