لقد كانت آتينا قوية جدا في البحر بحيث تستطيع أن تقدم ليونيا مساعدة عاجلة مفيدة، في حين أن إسبرطة لا تستطيع أن تقدم هذه المساعدة ولو أرادتها. من أجل ذلك أخذ اليونان بحظ عظيم في اتحاد ديلوس، وشاطروا بمقدار وافر في النفقات العامة التي أنفقها الحلفاء للتحصن من هجوم المتوحشين كرة أخرى، وكان ذلك على أثر حوادث بلاتة وميكال؛ أي في نشوة الاستقلال المسترد بحبوحة الثقة المتبادلة (نحو سنة 477 قبل الميلاد).
ولكن آتينا كان من شأنها أن جاوزت في استعمال السلطان الذي أوتيته عفوا فجرت على نفسها الغيرة والأحقاد التي سببت بعد ذلك حرب بيلوبونيز في وقت كان عدوهم المشترك لا يزال فيه بقية. وأخذ سلطان آتينا - كما نبه إليه أرسطو - يثقل على نفوس حلفائها الذين هم مساوون لها لا رعاياها، وبخاصة أهل نكسوس وطاشوز الذين عوملوا معاملة قاسية ظالمة (467-465) ولم يكونوا ليستسلموا إلى غطرسة الآتينيين في أوامرهم. غير أن الأسطول الآتيني - وهو مؤلف من مائتي شراع - كان يمخر دائما على شواطئ آسيا عزيز الجانب مهيبا من الأسطول الفينيقي الفارسي الذي هرب أمامه حتى بلغ مياه النيل. كانت تلك خدمة حيوية ليونيا، من أجل ذلك كانت يونيا من جانبها تتسامح في كثير من الامتهان الذي كانت تجنيه عليها حليفتها القوية في مقابل هذه الحماية المستمرة التي تنالها.
والظاهر أن اعترافها بجميلها كان إلى الغاية القصوى حين رأت أن استقلالها مضمون بمعاهدة استكرهت آتينا على عقدها الملك الكبير بعد عدة انتصارات داوت الهزيمة التي وقعت في مصر (455 قبل الميلاد)، وهذه المعاهدة التي يرجع الفضل في نصوصها إلى دهاء سيمون وأعماله في قبرص كانت تنص على أن فارس تترك شواطئ آسيا الصغرى التي يقطنها الإغريق حرة تمام الحرية؛ فلا تضع عليهم جزية، ولا تدنو بجنودها إلى خط على مسافة معلومة من الشاطئ، وفي مقابل ذلك يتعهد الآتينيون وحلفاؤهم ألا يغزوا بعد الآن قبرص ولا صقلية ولا فينيقيا ولا مصر. وقد أرسل الإغريق سفراء إلى صوص حيث صدق على المعاهدة، وكان قلياس هو الممثل لآتينا (نحو 449 قبل الميلاد).
15
صارت جمهورية آتينا وقتئذ في أوج قوتها؛ فإنها كانت على رأس اتحاد بحري تكاد تتصرف فيه على هواها، مؤيدة بطائفة من الأحلاف في القارة، سيدة على مستعمرات عديدة على جميع سواحل بحر إيجة وعلى الهلسبون وبحار الإغريق، يضطلع بأعبائها رجل مثل بيريكليس. فهي لذلك كانت تتطلع إلى بسط سلطانها المطلق على جميع الجنس الإغريقي، وهذا الطمع هو الذي أعماها وذهب بها. من بين حلفائها كانت سموس، وهي أشدهم بطشا، وكانت تحتفظ هذه الجزيرة الكبيرة تلقاء آتينا بنوع من المساواة في المعاملة قد لا يأتلف وما تضمره الجمهورية من مشروعات بسط سلطانها، فحدث شجار قليل الخطورة بين سموس وبين ملطية بشأن أرض بريين الصغيرة جر إلى المداخلة الآتينية؛ فإن الجمهورية قد دعت الفريقين إلى التقاضي أمامها. وكانت سموس تخشى تحيز بيريكليس لملطية التي هي وطن أسباسيا؛ فرفضت قبول هذا التحكيم المريب؛ فأرسلت آتينا لفورها أربعين سفينة لإرغام سموس على الطاعة، فقبلت حكومتهم من الأوليجارشية إلى الديموقراطية، وأخذ خمسون من أعيان الأهالي وعدد مثله من أبناء العائلة الرفيعة رهائن وضعوا في جزيرة لمنوس، وبقيت حامية في سموس لتحقيق نظام الحكومة الجديدة (نحو 439 قبل الميلاد).
كان هذا التصرف من جانب آتينا فظيعا فقوبل بمثله؛ لأن منفيي سموس ذهبوا إلى بيسوتنيس - مرزبان سرديس - يستنجدونه؛ فأمدهم ببعض مقاتلين فقصدوا سموس، وعدتهم سبعمائة رجل، وانقضوا على حرس الجزيرة الآتيني بياتا وأسلموهم إلى بيسوتنيس، وفي الوقت عينه كرة رابحة مثل الأولى على جزيرة لمنوس ردت إليهم رهائنهم، وفوق ذلك تحالفوا مع بيزنطة التي تكاد تكون مثلهم في التبرم بحكومة آتينا، وكان ذلك مفيدا لهم. كل هذا إنما هو خطر جدي يتهدد الجمهورية، فلو احتملت عصيان سموس لذهب ذلك برئاستها وبسلطانها الذي كانت تؤيده هدنة الثلاثين عاما التي عقدت قبل ذلك ببضع سنين مع إسبرطة عدوها الوحيد المريب؛ لذلك عقدت آتينا العزيمة على التنكيل بسموس تنكيلا يمنع سواها من أن يهم بتقليدها.
ستون سفينة أرسلت سراعا إلى الثائرين انفصل منها ست عشرة إما لمراقبة الأسطول الفينيقي على شطوط آسيا؛ لأن بيسوتنيس لا يفوته أن يضعه تحت تصرف الثائرين، وإما ليأتي بالمدد من جزيرتي شيوز ولسبوس اللتين بقيتا تحت الطاعة، ولكن من الجائز عليهما أن تقلبا ظهر المجن، وبقي الأربع والأربعون سفينة أمام سموس تحت قيادة بيربكليس أحد القواد العشرة السنويين الذين من بينهم سوفكل الشاعر الذي نشر «أنتيجون» السنة الماضية.
ومع أن السموسيين كانوا يتوقعون هذا الهجوم، فإنهم كانوا ذهبوا لمحاصرة ملطية، وكانوا عائدين إذ التقوا مع بيريكليس بالقرب من جزيرة تراجيا، ومع أنه كان لديهم سبعون سفينة من بينها عشرون تحمل رجال حرب فإن بيريكليس لم يتأخر عن منازلتهم وانتصر عليهم، وعوضت خسارة سفنه بالمدد الذي جاءه وقدره أربعون سفينة جاءت من آتينا وخمس وعشرون من لسبوس وشيوز اللتين قدمتاها بإخلاص.
وقد تلت الواقعة البحرية واقعة برية؛ إذ نزل الآتينيون إلى الأرض، وانتصروا على الثائرين، وأسرعوا في إقامة أسوار عالية تحصر المدينة من ثلاث جهات في حين أنها مضيق عليها من جهة البحر أيما تضييق.
وفي هذا المركز الحرج تسنى للسموسيين أن يرسلوا خمس سفن تحت إمرة إستيزاغوراس يستعجل الأسطول الفينيقي الذي كانوا أحوج ما يكونون إليه. وليتدارك بيريكليس خطر تجمع هذا الأسطول أسرع بستين سفينة مما معه أمام سموس متجها إلى قونوس في قارب حيث كانت هي موطن الاجتماع كما كان يقال. فلما بعد بيريكليس خرج السموسيون مستقتلين، ولم يكن خط دفاع الآتينيين قد تم بعد؛ فانهزموا وخربت بعض سفنهم، ودارت عليهم الدائرة في البر والبحر، ولكن نجاح السموسيين لم يكن ليلبث مدة؛ فإن بيريكليس لما رجع بعد غيبة أربعة عشر يوما غير مجرى الحال، ولكن في تلك المدة كانت المدينة قد استطاعت أن تدخر الزاد وفيرا، واستعدت لمقاومة حصار جديد. عاد الحصار كما كان، وقوي الحصار البحري بستين سفينة جاءت من آتينا وثلاثين من لسبوس وشيوز، فكادت تكون عدة مجموع السفن مائتي شراع تحيط بسموس.
Bog aan la aqoon