الكتاب الأول
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
Bog aan la aqoon
الباب العاشر
الكتاب الثاني
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
Bog aan la aqoon
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
تحقيق على الكتاب الموسوم
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
تحليل نظرية غرغياس
الكتاب الأول
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
Bog aan la aqoon
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الكتاب الثاني
الباب الأول
الباب الثاني
Bog aan la aqoon
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
الباب السادس
الباب السابع
الباب الثامن
الباب التاسع
الباب العاشر
الباب الحادي عشر
تحقيق على الكتاب الموسوم
Bog aan la aqoon
في ميليسوس وفي إكسينوفان وفي غرغياس
تحليل نظرية غرغياس
الكون والفساد
الكون والفساد
تأليف أرسطوطاليس
ترجمة أحمد لطفي السيد
مقدمة المترجم
أصول الفلسفة الإغريقية
بقلم بارتلمي سانتهيلير
جمعت عمدا بين هذين الكتابين في هذا السفر؛ لأنهما - كما يظهر لي - يعبران كلاهما عن أفكار من قبيل واحد؛ ففي أولهما يعنى أرسطو بإيضاح كيف تكون الأشياء وكيف تنتهي، خلافا لمذهب وحدة الوجود ولا تغيره، وفي ثانيهما المناقشة بعينها موجهة مباشرة إلى ممثلي مدرسة إيليا: إكسينوفان مؤسسها، وميليسوس حافظ مبادئها حتى العهد الذي قام فيه سقراط يبدل بالتردد القديم فلسفة جديدة حاسمة. فالفكرة في الكتابين متماثلة، ولا فرق بين أحدهما وبين الآخر إلا في الشكل فقط؛ فهنا توضيح عام لمبدأ، وهناك نقض خاص للمبدأ المناقض. وسنعود بالاختصار في آخر هذه المقدمة إلى تقدير قيمة هذين الكتابين اللذين يستأهلان أن يعرفا أكثر مما هما الآن. ولكني أرغب بديا في أن أبين بقدر ما أستطيع من البيان ماذا كانت الحركة الفلسفية التي شاطر فيها إكسينوفان وميليسوس، سواء في أحداثها أو في أتباعها.
Bog aan la aqoon
إكسينوفان وميليسوس كلاهما من الأسماء البعيدة القدم. ومن الصعب لأول نظرة الاقتناع بأن درسهما يبعث اهتماما جديا هذه الأيام. هذان الفيلسوفان كانا يعيشان في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، وعلى هذا المدى فليس إلا التنقيب وحده - فيما يظهر - هو الذي ما زال يوليهما العطف الذي انقضى زمانه، ويستقصي مذاهبهما المنسية منذ زمان بعيد. لست أقصد في الحق إلى انتقاد التنقيب، ولكني أدرك ما يثير ثائره من التحامل البادر عندما يتوغل في درس تلك الأزمان البعيدة؛ إذ تنعدم المراجع الوثيقة فلا يبقى لنا من أعيانها إلا آثار لا صور لها. على أني في هذا الموطن أكثر مما في سواه أسأل أن يصغى إلى التنقيب لحظة؛ فإن الموضوع الذي يحاوله فيما يتعلق بإكسينوفان هو موضوع من أهم موضوعات تاريخ العقل البشري وأكثرها حيوية.
إنه ليس أقل من أن يكون ميلاد الفلسفة في هذا العالم الذي نحن منه.
أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبدا من أمرها شيئا معينا بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا، مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيرا. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا، ومع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر، فإننا لم نستعر منها كثيرا ولا قليلا، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا، والأمر على الضد من ذلك مع الفلسفة الإغريقية، إننا بها نتصل بالماضي الذي منه خرجنا، وعلى الرغم من عماية الكبرياء التي هي في الغالب جانية الكفران يجب علينا ألا ننسى أبدا أننا أبناء إغريقا. إنها أمنا في جميع أمور العقل تقريبا، فلئن ساءلنا أوائلها فإنما نسائل أصولنا، فمن طاليس، ومن فيثاغورث، ومن إكسينوفان، ومن أنكساغوراس، ومن سقراط، ومن أفلاطون، ومن أرسطوطاليس إلينا لا يوجد إلا فرق الدرجة. نحن جميعا في طريق واحد مستمر من قرون عديدة، ومتصل بلا انقطاع، لا يتغير اتجاهه، بل يصير على مرور الزمان أكثر طولا وأبهى جمالا . والظاهر أننا لا نخجل من الانتساب إلى أمثال هؤلاء الآباء، وكل ما علينا هو أن نبقى حقيقين ببنوتهم بأن ندرج على سننهم.
قد أمكن القول - لا من غير حق - بأن الفلسفة ولدت مع سقراط،
1
والواقع أن لهذا الرجل العجيب من المقام ما يسمح بأن يسند إليه هذا الشرف العالي، بأن يقرن اسمه بهذه الحادثة الكبرى. ولكن سقراط بتواضعه المعروف ما كان ليقبل هذا المجد؛ فإنه كان يعلم أكثر من كل إنسان أن الفلسفة قد كانت تنشأ من قبله بنحو قرنين إلى أن جاء فأفاض عليها قوة وجمالا لم يفارقاها بعده. لم يكن مولد الفلسفة في آتينا، بل في آسيا الصغرى؛ لأنه يجب تأخير هذه الحادثة مائتي عام إلى الوراء تقريبا، إلا أن تمحى من التاريخ تلك الأسماء العظام الأولى التي ذكرتها. إن التقدم الذي افتتح سقراط بابه لم يكن إلا استمرارا لا ابتكارا وإبداعا.
كل الأصول غامضة بالضرورة. يجهل المرء نفسه دائما في أول الأمر، وأن تعرف سنة هذه القرون الأولى مقرون بالشك الذي يلحق أيضا الحوادث ذاتها التي مرت كأنها غير محسوسة. ومع ذلك إذا لم يلتزم هنا الضبط غير الممكن فإن أوائل الفلسفة اليونانية يجب أن تظهر لنا أجلى من أن يدعو للشك في أمرها سبب محسوس.
كان طاليس من ملطية، وقد حقق التاريخ وجوده في جيش أحد ملوك ليديا نحو آخر القرن السادس قبل المسيح. وبعده بقليل جاء فيثاغورث الذي بعد أن عاد إلى وطنه ستموس إثر سياحات طويلة فر منه اتقاء لظلم بوليقراطس الذي كان يضطهده، وذهب يحمل مذاهبه على الشطوط الشرقية لإغريقا الكبرى إلى سيبارس وقروطون. أما إكسينوفان فإنه لأسباب أشبه بالمتقدمة نزح عن كولوفون وطنه الأول، ولما اجتمع ببعض المهاجرين من فوكاية، الذين هم بين أنياب الأخطار قد وجدوا آخر الأمر موئلا على شواطئ البحر الترهيني في إيليا (هييلا أوفيليا)، أسس في هذه المدينة الحديثة العهد وقتئذ مدرسة شهرت ذكرها.
أصرف القول الآن إلى هؤلاء الثلاثة العظماء الذين كانوا جميعا رؤساء مدارس خالدات، وإن كنا لا نعرف منها إلا الشيء القليل: مدرسة يونيا، ومدرسة فيثاغورث، ومدرسة إيليا، وعما قريب أستطيع أن أضم إلى هذه الأسماء طائفة من أسماء أخر، لا يستطيع تاريخ الفلسفة أن يغفلها كما لا يستطيع إغفال الأولى.
ولكني - لا لشيء غير الفكرة في أمر طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان - أشعر بأمر يسترعي نظري، أنهم ثلاثتهم من هذا الجزء من العالم الهليني الذي يسمى آسيا الصغرى، وأنهم تقريبا متعاصرون. إن ملطية التي هي في القارة، وسموس في الجزيرة التي بهذا الاسم، وكولوفون في شمال إيفيزوس بقليل، تكاد لا تتجاوز الأبعاد بينها خمسة وعشرين فرسخا.
Bog aan la aqoon
على هذه المسافة الضيقة وفي وقت واحد تقريبا تجد الفلسفة مهدها المجيد، لكيلا نخرج من هذه الحدود في المكان والزمان والموضوع نضيف إلى هذه الثلاثة الأسماء: طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، أسماء أنكسيمندروس وأنكسمينس اللذين هما أيضا من ملطية، وهيرقليطس الذي هو من إيفيزوس، وأنكساغوراس من كلازومين غربي أزمير قليلا في خليج هيرموز. وأذكر اسم لوكيبس وديمقريطس اللذين ربما كانا من ملطية أيضا أو من أبدير مستعمرة طيوس، واسم ميليوس الذي هو من سموس كفيثاغورث. وفوق ذلك أضيف إلى هذه الأسماء أسماء بعض الحكماء الذين هم أقل استنارة من الفلاسفة، ولكنهم ليسوا أقل منهم احتراما؛ فمنهم بطاقس من ميتيلين في جزيرة لسبوس، وهو رفيق سلاح للشاعر ألقايوس في محاربة الطغيان، وقد نادى به مواطنوه ديكتاتورا عليهم فلبث فيهم عشرة أعوام يعمل صالحا ثم نزل عن الدكتاتورية. ومنهم «بياس» من «بريينة» الذي لو اتبع الاتحاد اليوناني ما قدمه له من النصح لنجا كما ذكر هيرودوت. ومنهم إيزوبس الذي أقام طويلا في سموس ثم في سرديس عند كريزوس، ذلك المولى الفريجي الذي لا ينبغي للفلسفة أن تنسى ذكره في عداد ذويها، والذي لم يستنكف سقراط من أن ينظم حكاياته شعرا.
2
وأذكر كذلك أسباسيا من ملطية التي حدث عنها أفلاطون في كتابه المينكسين، والتي كانت تتحدث إلى سقراط، والتي كانت تعطي لبيركليس دروسا في البلاغة كانت تؤلف منها أحيانا الخطب السياسية، والتي خصص لها رفائيل محلا في مدرسته الآتينية.
من ذلك يرى أن تيديمان الأريب كان محقا حين كنى آسيا الصغرى ب «أم الفلسفة ووطن الحكمة».
3
هذه الأحداث القليلة التي جئت على ذكرها والتي يمكن أن يضاف إليها كثير من أمثالها كافية في إثبات هذه الحقيقة. منذ الآن متى عرض حديث منشأ الفلسفة في عالمنا الغربي - بالمقابلة للعالم الآسيوي - عرفنا لمن هو ذلك المجد، وإلى من يجب أن يسند عدلا.
يكفي قليل من النظر للعلم بأن من الممتنع أن تنمو الفلسفة بذاتها وحدها. من البديهي أن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ نماءها قبل التأمل؛ لأن التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرا وبعد سائر الملكات الأخرى. وليس بي حاجة إلى التبسط في بيان هذه الحقيقة المشاهدة في الأمم وفي الأفراد على السواء، وأقتصر على أن أقرر أن مجرى الأمور في آسيا الصغرى لم يكن مختلفا عنه في غيرها؛ فإن الفلسفة على هذه الأرض المخصبة لم تكن نبتا منفردا ولا ثمرة غير منتظرة. وقليل من الكلمات يكفي في التذكير بأنها كانت هي المنطقة المهيأة لهذا الإنتاج الشريف، وما علي إلا أن أسرد أجمل الأسماء وأحقها باعتراف الناس.
في رأس هذه الطائفة اسم هوميروس الذي ولد وعاش يقينا على شطوط آسيا الصغرى وفي جزرها قبل الميلاد بنحو ألف عام. وماذا عسى أن أقول في قصائده؟ وكيف أوفي عبقريته مدحا وثناء؟ كل ما أقرر هو أن هوميروس لا يقصر أمره على أنه أكبر الشعراء، بل هو أعمقهم فلسفة. وإن بلدا ينتج باكرا أمثال تلك البدائع لحقيق بأن ينتج بعد ذلك عجائب العلم والتاريخ.
بعد هوميروس أقص نبأ قلينوس الإيفيزوسي الذي هو حربي مثل طورطايس، والذي شهد وقت إغارة القميريين وشدا بها في شعره، ثم الكمان السردي الذي حق له أن يعلم لقدمونيا وطن لوكورغس ويبهرها على ما بها من جفاء، وأرخيلوخس الباروصي وألقايوس اللسبوسي ذي الربابة الذهبية كما قال هوراس، وسافو الميتيلينية أو الإيريزية التي لا يكاد يستحق أحد الثناء أكثر منها إلا هوميروس،
4
Bog aan la aqoon
ثم ميمنرمس الأزميري شاعر انتصارات يونيا على الليديين، ثم فوكليديس الملطي الذي حمل الشعر قواعد الأخلاق، ثم أناكريون الطوسي، وقريب من الشعراء تربندرس اللسبوسي مبدع الموسيقى وواضع طرائقها الثلاث الأصلية: الليدية والفريجية والدورية. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أريون الشاعر الذي هو من لسبوس مثل تربندرس.
ذلك في الشعر. وكم إلى جانب الشعر من الكنوز التي لا تقل عنه في نفاستها وإن قلت عنه في البهاء: علم الفلك والجغرافيا أبدعهما أنكسيمندروس وسكولاكس من كاروندا على خليج يسوس. والرياضيات التي أبدعها فيثاغورث وتلاميذه أسلاف أرستارخس السموسي معلم أرخميدس وهيبارخس الرودسي. والتاريخ أبدعه أكسنطس السردي وهيكاتيوس الملطي وهيلانيكوس الميتيليني، وعلى الأخص هيرودوت الهاليكارناسي الذي لقب منذ زمان طويل أبا التاريخ، وبودي لو أعطيه لقبا آخر لو وفقت إلى لقب أجمل من هذا وأدخل منه في الحق. والطب انتقل من جزيرة سموس إلى كورينا وقروطون ورودس وكنيدس قبل أن يقر قراره في قوص بفضل بقراط الذي لا يقل عظما في فنه عن هوميروس في شعره. وفن عمارة المدن أبدعه هيوداموس الملطي الذي كان مع ذلك كاتبا سياسيا حلل مؤلفاته أرسطو في كتابه «السياسة» (ك2 ب5). وفن الحفر والصب أبدعهما تيودور السموسي بن روكوس. وفن التعدين أبدعه الليديون ... إلخ.
أقف هنا لكيلا نجاوز بهذا التعديد الجاف أبعد مما ينبغي، ولكنه يجب التنبيه إلى أن هذا الخصب البالغ حد الإعجاز لم ينته بانقضاء تلك الأزمان التي ذكرناها؛ فإن تيوفراسط هو من إيريزا، وأبيقور ربي في سموس وكولوفون، وزنون فخر الرواق ولد في كتيون من قبرص، وإيفورس من كومة، وتيوبومبس من شيوز، وبرهاسيوس وأبيلس من إيفيزوس وكولوفون، وإسترابون من أماسية على الجسر (البحر الأسود) مستعمرة إحدى المدن اليونانية من الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى ... إلخ إلخ.
تلقاء هذا المجد السامي الذي لم يمحه ما ظهر بعده لا يسعني إلا أن أقف مأخوذا أتساءل: هل عرف الناس أن يوفوا هذه العبقرية وهذا الكمال وذلك الإبداع حقوقها من الإعظام؟ لا أظن ذلك، وتلك في رأينا داعية إلى تعديل تاريخ هذه المستعمرات الإغريقية من آسيا الصغرى في بعض أجزائه على الأقل؛ تلك المستعمرات التي ندين لها بكل شيء. ولكني إذا قربت هذا العمل وحاولت هنا عجالة فذلك لا لأرفع ظلما مرت عليه القرون لضيق دائرة موضوعي، بل ليحسن فهم الناس لتلك الحركة الخارقة للعادة والتي هي فذة في تطور العقل الإنساني، ولأبين حق واضعي الفلسفة وآباء العلم.
لذلك أعرض - دون مجاوزة الحدود المشروعة - ماذا كانت هذه المستعمرات التي نزحت من إغريقا على شواطئ آسيا الغربية قبل المسيح بأحد عشر أو اثني عشر قرنا، وماذا كانت الحوادث السياسية الرئيسية التي اعتورت تلك الأصقاع مدة قرنين اثنين من عهد إكسينوفان إلى ميليسوس، ومن طاليس إلى حرب بيلوبونيز. وسنرى أن فلاسفتنا أخذوا بقسط وافر من هذه الحوادث، بل صرفوها في بعض الأحيان مع أنهم في الغالب كانوا لحرها صالين.
وإني راجع في كل ما أقدم من القول إلى هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفون وما حفر على رخام باروص أو رخام آرونديل.
5
كانت المستعمرات الإغريقية على شواطئ آسيا الصغرى مقسمة إلى ثلاثة أجناس متميزة تؤلف اتحادات منفصلة: الأيوليون في الشمال، واليونان في الوسط، والدوريون في الجنوب. يقطن هؤلاء وهؤلاء أوطانا متقاربة المساحة؛ فأما الأيوليون الذين هم أول من هاجر من الوطن الأصلي المشترك فإنهم حطوا رحالهم واستوطنوا آسيا بعد فتح طروادة بقرن تقريبا إذ طردوا من بيلوبونيز عند إغارة الهيرقليديين، وأما اليونان فقد جاءوا بعدهم بأربعين سنة تقريبا، وأما الدوريون فكانوا آخر المهاجرين.
كان الأيوليون الذين هم أقل الشعوب الثلاثة شهرة وأضعفها امتيازا يقطنون اثنتي عشرة مدينة؛
6
Bog aan la aqoon
وهي كومة فريكيون، ولاريسافريكيون، وليونتيكوس، وطموس، وكيلا، ونوسيون، وإيغيروسا، وبيطاني، وأيغاي، ومورينا، وغروناي وأزمير، ولكن هذه المدينة الأخيرة قد نزعت من أيديهم وأضيفت إلى الاتحاد اليوناني بفضل الذين نفوا من كولوفون والتجئوا إلى أزمير واستولوا عليها في غفلة من أهلها. وقد ضاع من أيدي الأيوليين أيضا بعض المدن الأخرى التي أسسوها على جبال أيدا. وكان لهم خارج القارة خمس مدائن بجزيرة لسبوس، وواحدة بجزيرة طندوس، وأخرى في مجموع الجزر الصغيرة التي كان يطلق عليها اسم مائة الجزيرة منذ زمان هيرودوت. ولم يكن للمدائن الأيولية من الاسم إلا الخمول، وكانت أرض أيولس أحسن من أرض يونيا، ولكن جوها كان أقسى من جو الأخرى خصوصا في سرعة التقلب.
وأما اليونان فكان لهم اثنتا عشرة مدينة كلها على التقريب مشهورة، وهي: ملطية وميوس وبربينة في قاريا، وإيفيزوس وكولوفون وليبيدوس وطيوس وكلازومين وفوكاية في ليديا وإيروطراي على اللسان الذي يكونه جبل ميماس. وكان لهم جزيرتان: سموس في الجنوب، وشيوز في الشمال، ومن الغريب أن اليونان كان لهم أربع لهجات متباينة جد التباين: لهجة سموس، وكانت لا تشابه واحدة من الثلاث الأخرى، وملطية وميوس وبريينة كان لها ثلاثتها لهجة واحدة، وللمدن الست الأخرى لهجتها، وكان أهل شيوز وإيروطراي يتكلمون بلسان واحد.
أما الدوريون الذين جاءوا بعد الآخرين فكان قرارهم في الجزء الجنوبي، وليس مدق الدوريون لهم إلا ست مدن نزل عددهم إلى خمس بعد قليل، وهي: لندوس، وياليسوس، وكاميروس في جزيرة رودس، وقوص، وكنيدس، وهاليكارناس. على أن هذه المدينة الأخيرة قد عزلت عن الاتحاد الدوري عقابا لها على أن أحد أهلها كان اتهم بانتهاك بعض الحرمات المقدسة.
كل واحد من هذه الاتحادات الصغيرة كان له معبد جامع مشترك يجتمعون فيه؛ فللدوريين معبد طريوبيون، ولليونان معبد نبتون هلليكوني على رأس موكالي في مواجهة سموس تقريبا، وفي هذا المعبد كان يجتمع مجلس الاتحاد اليوناني المسمى بأنيونيون، والذي كان يرأسه دائما شاب من شبان بريينة، ولا يعرف بالضبط معبد الأيوليين. كانت هذه المعابد لإقامة الأعياد الدينية عادة، غير أنهم في الظروف الخطيرة كانوا يتداولون فيها في أمر أخطار الحلف وفيما يمس منافعهم الكبرى.
لم تك هذه المستعمرات لتشغل جغرافيا إلا مساحة ضيقة. فلو أن شهرة المدائن والممالك كانت تقاس بمقدار امتدادها لظلت هذه المستعمرات مجهولة في التاريخ؛ فإن مساحة المستعمرات الأيولية واليونانية والدورية لا يكاد يتجاوز مجموعها70 فرسخا في الطول على 15 أو20 فرسخا في العرض؛ أي أقل من ثلاث درجات في خطوط الطول وأقل من درجة في خطوط العرض. ومساحة لسبوس خمسة عشر طولا على خمسة عرضا، وسموس لا يبلغ محيطها 30 فرسخا، وشيوز أكبر منها قليلا.
ومن الطبيعي أن أهتم بأمر اليونان أكثر من الآخرين؛ فإنهم كانوا أكثر نشاطا وحذقا في الملاحة والتجارة والسياسة والفنون والعلوم والآداب. ومن الأمم كثيرة العدد من كان أثرهم أقل ألف مرة من أثر اليونان.
لما ترك اليونان أشاية الواقعة شمال بيلوبونيز على خليج كرسا، كان لهم فيها اثنتا عشرة مقاطعة أو مدينة، واستصحابا لتذكار وطنهم الأول لم يشاءوا أن يؤسسوا في آسيا من المستعمرات عددا أكثر مما كان لهم في إغريقا. ولما طردهم الدوريون الذين أغاروا على بيلوبونيز من الشمال اجتازوا برزخ كورنتة، واحتموا إلى أجل ما على الأقل في أطيقا، وهي الملجأ العادي لجميع المنفيين كما نبه إليه طوكوديدس في مقدمة تاريخه. وعما قليل ضاقت أطيقا القليلة الخصب ذرعا بأهلها، واضطر نازحو أشاية إلى البحث عن ملجأ آخر. وصادف وقتئذ أن قدروس مات ميتة الأبطال دفاعا عن وطنه، ولما ألغي نظام الملوكية لم يتيسر لأبنائه أن يقيموا في بلد انقطع فيه رجاؤهم من ميراث أبيهم، فرأسوا المهاجرين في هجرتهم؛ فأما نيلاوس فولى وجهه شطر ملطية، وأما أندركلوس فاتجه إلى إيفيزوس، ولو صدقنا رخام باروص لقلنا إن نيلاوس هو الذي أسس المدائن الاثنتي عشرة اليونانية وأسس رابطة اتحاد تحت ظل الدين هي البانيونيون الذي لم يكن بعد من القوة على ما كان يرجو مؤسسه.
يظهر أن المهاجرين الذين اقتفوا آثار ابني قدروس كانوا خليطا ولم يكونوا من صميم اليونان كما يمكن أن يظن؛ فإن الذين أتوا من أشاية إلى أطيقا اختلطوا فيها بأجناس مختلفة مختلطة جد الاختلاط، ليس بينهم وبين اليونان جامعة مشتركة بل لا يشابه بعضهم بعضا، إنما كانوا أبانطة من أوبويا، ومنجينيين من أرخومنوس، وقدميين، ودريوبيين، وفوكيين، ومولوس، وأرقديين، وبلاسجة، ودوريين من أبيدورس، وطائفة من أجناس أخر. وكان كل هؤلاء الرحل يعامل بعضهم بعضا على حد المساواة، ومع ذلك كان اليونان الذين هم من نسل شيوخ آتينا يعتبرون أشرف هذا الخليط وإن كان ذلك لم يستتبع أية مزية عملية. وإن تلقيبهم بلقب «اليونان» كان في ذلك الحين وفيما بعده أيضا قليل الرفعة؛ فكان الآتينيون يخجلون منه، وكان الملطيون في أوج قوتهم يحبون أن ينفصلوا من بقية هذا الاتحاد الذي كان دائما قليل الاحترام. وأما اليونان فكانوا من جهتهم أيضا يفخرون بأصلهم، ويقيمون مثابرين الأبتوريا الآتينية، تلك الأعياد الخاصة بالعائلة وبرابطة الأخوة الشعبية التي كانت موجودة في آتينا، ما عدا أهل كولوفون وإيفيزوس فإنهم حرموها على أثر قتل حرام ارتكبوه.
لم تكن المهاجرة هينة ولو أنه كان يرأسها أبناء ملك، فلم يحمل المهاجرون إلى ملطية معهم نساءهم، واتخذوا زوجات بالإكراه، بل عمدوا إلى القاريين فذبحوا منهم الآباء والبعول والأولاد، واستحيوا النساء واتخذوهن زوجات لهم، ولكنهن انتقمن لأنفسهن فأقسمن الأيمان على ألا يطعمن مع غاصبيهن طعاما ولا يدعونهم أزواجا؛ حتى لا يذقنهم حلاوة هذا الدعاء، واستنت بناتهن هذه السنة مع أزواجهن عدة أجيال.
والواقع أن البلد الذي احتله المهاجرون كان محتلا قبلهم زمانا طويلا؛ فقد كان فيه - غير أهليه - خليط من البلاسجة والتوكريين والموصيين والبيثونيين في الشمال، ومن الفريجيين والليديين والمايونيين في الوسط، ومن القاريين والليليج ... إلخ في الجنوب. وكان هؤلاء قبائل منقسمين على أنفسهم أكثر مما هو الشأن في الإغريق، ولو أنهم كانوا يقربون القرابين بالاشتراك، مثال ذلك قرابينهم إلى «مولاسا» في معبد «المشتري» القارئ. في أوائل الأمر لم تكن الممالك التي كمملكة ليديا قد اتخذت نظمها بعد، ولو أن الليديين لما زحزحوا بعد ذلك إلى الوسط نشروا سيادتهم بادئ الأمر على تلك الجهات إلى الشواطئ، وبعثوا منهم طوائف المستعمرين إلى إغريقا الكبرى وإلى أمبريا وعلى شواطئ البحر الترهيني.
Bog aan la aqoon
وأما الموصيون الذين كانوا إلى شمال ليديا وغربيها، فكانوا أنزع هذه الأمم إلى الحرب. والفريجيون الذين هم أكثر توغلا في الجهة الشمالية من هؤلاء كانوا يثرون من تربية القطعان، يبيعون من أصوافها وأجبانها ولحومها المملحة بأثمان غالية جدا في أسواق ملطية. وكان الليديون مشتغلين على الأخص بصناعة المعادن؛ لأن نصف أرضهم بركانية تخرج الذهب والفضة والحديد والنحاس ... إلخ. وكانت أخلاق الفريجيين والليديين أخلاق تهيب وحياء، ومن بلادهم يأتي أكثر العبيد.
ومع أن اليونان جاءوا إلى آسيا بالبحر، فلم تكن تظهر عليهم المهارة في فن الملاحة. وعلى قول طوكوديدس لم يكن تفوق البحرية اليونانية حقيقة إلا تحت حكم قيروش وابنه قمبيز، ومع ذلك فقد كان شأنهم أن أقبلوا بجد على أن يتلقوا دروسا عن الكورنتيين الذين كانوا وقتئذ أعلم الناس بإنشاء العمارات البحرية، وانتفعوا بتلك الدروس. على أنهم قد ألجأتهم الحاجة منذ بداية أزمانهم إلى التزام الشواطئ في ملاحتهم. كانت هذه المدائن التي تستجلب كل شيء من داخلية البلاد لا تستطيع أن تحصل على الثراء إلا بتجارة كبرى في الصادرات والواردات، فكانت كبنوك ومراكز معاوضات بين الأهالي والبلاد التي كان يأتي منها الأجانب، فلم يمض على هذه المدائن زمان حتى ظهرت ثروتها على صورة رائعة.
ولما ازدحمت بالسكان وفاضت بالثراء استطاعت أن تنشئ أساطيل قوية، وعمرت كل شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمال أفريقية حيث كان لصور وسيدون من قبل منشآت في إغريقا الكبرى وصقلية، وفي بلاد الغالة، وفي إسبانيا أمام عمد هيرقليس وفيما وراءها، وعلى الأخص في القسم الشمالي لبحر أيغاي وفي هليسبنتس، والبروبونتيد، بل في البحر الأسود الذي كان يسمى وقتئذ «الجسر»، حتى لقد قيل إن ملطية وحدها كان لها خمس وسبعون أو ثمانون مستعمرة.
هذا النماء الأول للمستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى - وعلى الخصوص المستعمرات اليونانية - غير معروف إلا قليلا مع أنه استمر على الأقل ثلاثة قرون أو أربعة؛ فإن التاريخ لم يبتدئ حقا إلا حين دخلت المدائن الهلينية الحرب مع المملكة الليدية؛ أي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أعني من عهد حكم المرمنادة.
روى هيرودوت على طوله تاريخ جوجيس الذي ارتقى عرش ليديا بقتله قندولس ملكها، وهذه الحكاية ليس عليها إلا مسحة الصدق وإن كانت ليست مطابقة لرواية أفلاطون التي هي بالبداهة أسطورة؛ فإن غضب الملكة زوجة قندولس وغدر جوجيس عشيقها ليس فيه شيء من المستحيلات. وأما حكاية الخاتم فليست إلا أسطورة عامية وجدت بعد ذلك بكثير على صورة أخرى في «ألف ليلة وليلة». ولقد حدث أرخيلوخس - وهو معاصر لقندولس وجوجيس - عن ذلك العسكري الذي صار ملكا، وعن إقدامه وظفره، في إحدى القطع الشعرية التي كان لا يزال يقرؤها هيرودوت.
7
وقد انتهت بموت قندولس العائلة الليدية الأولى التي تدعي أنها سلالة هيرقليس، والتي دام ملكها خمسمائة وخمسة أعوام مدة اثنين وعشرين جيلا من عهد نصف الإله الذي وصلها بنسبة كبريائها، وكان جوجيس هو أول الدولة الثانية دولة المرمنادة.
افتتح جوجيس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد عهدا جديدا؛ إذ أخذ يغير على المدائن الإغريقية ملطية وأزمير وكولوفون، وربما كان الحامل له على ذلك أنه أراد أن يبرر اغتصابه للملك ومطاوعة لبعض الضرورات السياسية، في حين أن ليديا كانت وقتئذ بينها وبين الإغريق - خصوصا إغريق القارة - علاقات أقرب ما تكون إلى السلام.
وقد كان جوجيس، كسائر الإغريق في آسيا وفي غيرها، يعتقد وحي دلفوس ويخضع له. ولما كان محاطا بالمكايد من كل ناحية منذ تبوئه العرش، وخائفا من سخط الليديين الذين كانوا شديدي التعلق بالملك الذي ذبحه، أراد أن يدخل الإله في قضيته، فاستشاره وقدم إليه الهدايا الغالية. وقد أقر الإله هذا الغاصب القاتل على عمله، ولكن بوثيا كاهنة دلفوس كانت قد أنبأت بأن عائلة هيرقليس سوف ينتقم لها من شخص الولد الخامس من ذرية جوجيس. وكان هذا الخليفة الخامس هو كريزوس السيئ البخت المشهور بمصائبه أكثر من شهرته بكنوزه التي تضرب بها الأمثال. ولكن لم يك جوجيس في أوج ملكه ولا الليديون في سخطهم ليعبئوا بإنذار الكاهنة، وملك ذلك العسكري الزاني القاتل ثمانية وثلاثين عاما آمنا مطمئنا ما عدا حروبه مع مدن الشاطئ. والظاهر أن ملطية وأزمير وكولوفون سلمت له وخضعت لسلطانه.
وقد حكم أردوس خلف جوجيس أكثر منه أيضا؛ أي مدة تسعة وأربعين عاما؛ فاستولى على بريينة وهاجم ملطية بلا جدوى؛ لأنها استطاعت رد هجماته، وخلفه ابنه سدواتيس، فلم يمكث على العرش إلا اثني عشر عاما ومات، وكانت سنوه الست الأخيرة كلها مشغولة بمحاربة ملطية كما كان يفعل أبوه. ولكن هذه المدينة التي لم يكن يستطيع أن يأتيها من البحر نجحت في الدفاع عن نفسها، على رغم أن عدوها كان يهمك حرثها كل سنة، وكان دائما على قدم الاستعداد ليكرر هجماته المخربة. وفي كل مرة حاول الملطيون الحرب في العراء كانت هزيمتهم أمرا مقضيا. وقد مزقهم العدو كل ممزق مرتين على أرضهم في ليمنيون وفي سهول مياندروس حيث صادف منهم غفلة وسوء احتياط.
Bog aan la aqoon
وقد واصل أليات بن سدواتيس محاربة مدينة ملطية خمس سنين، وكان يظن وقوعها في يديه بالقحط وشيكا لولا أنه استشار وحي دلفوس - كما كان يفعل أجداده - فجنح لعقد الصلح معها، وساعد على ذلك مهارة طراسوبولس طاغية ملطية وقتئذ؛ إذ أنبأه جلية الأمر صديقه برياندروس بن كوبسيلوس طاغية كورنتا، فأخفى عن سفير ليديا حقيقة الحال السيئة التي وقعت فيها المدينة من جراء الحصار، وأوهمه أن في باطن أسوارها من الأرزاق والذخائر ما لم يجتمع لها مثله من قبل؛ وبذلك انخدع أليات بما خبره به سفيره المخدوع وأمضى عهد ملطية في حين أنه لم يكن بينه وبين الاستيلاء عليها إلا القليل.
وقد استمر هذا السلام الذي يرجع الفضل فيه إلى الوحي ودهاء طراسوبولس زمانا طويلا، ومات أليات بعد أن حكم سبعة وخمسين عاما حكما مملوءا بالاضطراب. وفي هذا الزمن لم يقطع صلته الحسنة بكاهنة دلفوس، وقد اعتراه مرض طالت مدته، فلما برئ باستشارة الوحي قدم إلى إله دلفوس كأسا جميلة من الفضة قاعدتها من الحديد فنية الصنع، صاغها جلوكوس الشيوزي مخترع ذلك النمط الحديث الذي بالغ الناس في الإعجاب به.
لم تكن حرب ملطية هي الوحيدة التي أجج نارها أليات، بل استولى على أزمير مستعمرة كولوفون، وهاجم مدينة كلازومين الواقعة على مسافة قليلة إلى الغرب في الخليج بعينه، ولكن كلازومين ردته عنها وحملته خسائر عظيمة. غير أن أليات ألهم التوفيق وخدم آسيا كلها خدمة حقيقية بأن حول قواه إلى محاربة القميريين الذين استولوا في عهد جده أردوس على تلك الولايات الآمنة المخصبة؛ فإنهم لما طردهم السيتيون الرحل من مواطنهم اضطروا إلى النزوح جهة الجنوب ونفذوا من قوقازيا وولوا وجوههم جهة الغرب، وجازوا هالوس، وتقدموا إلى قلب آسيا الصغرى، وكانوا قد دخلوا سرديس عاصمة ليديا على حين غفلة من أهلها وأحرقوها إلا القلعة القائمة على صخرة شاهقة يجري من تحتها نهر بكتول؛ فهي وحدها التي استعصت عليهم، ثم ردوا عن المدينة بعد ذلك، ولكنهم ظلوا يهددون الأمن: يخيفون السابلة، وينهبون الأماكن المجاورة، حتى طردهم أليات من آسيا الصغرى، ودحرهم إلى الشرق، وقذف بهم بين الأجناس السامية التي كانت حدود أوطانها تنتهي إلى هالوس، ومن يومئذ يظهر أن علاقته بهم صارت من السهولة والعطف بمكان.
لكن هذه العلاقات التي كانت بين ليديا وبين السيتيين هي التي جرت على آسيا الصغرى جيوش الميديين ثم جيوش الفرس الذين هم أشد بأسا؛ فإن فصيلة من السيتيين لما طردوا من إقليمهم القاسي المناخ هبطوا إلى أرض ميديا في الشمال الغربي من نهر الفرات، فأحسن كواكزاريس - ملك الميديين - وفادتهم، ولم تقتصر حفاوته بهم على أن مكن لهم في وطنه، بل دفع إليهم صبيانا من الميديين ليعلموهم لغتهم وليتعلموا في مدرستهم فن الرماية. ولكن بعض هؤلاء المتوحشين المقربين من ملك ميديا غاظهم منه شدة في قول وجهه إليهم، فشفوا غليل صدورهم من هذه الإهانة بأن قتلوا الصبيان الذين هم في رعايتهم، واحتموا بمعية أليات ليتقوا شر العقاب الذي كانوا يتوقعون، فطلب كواكزاريس تسليم الجناة وأبى ملك ليديا تسليمهم، ومن ذلك قامت بين الليديين والميديين حرب لم تخب نارها خمس سنين أو أكثر. وهذا السبب كان تافها جدا، بل يظهر أن الخلاف قام على سبب آخر؛ لأن المملكتين متجاورتان، والاحتكاك بين أمم ما زالت متوحشة مثار خلاف لا يتقى.
هنا أستوقف النظر لحادثة في غاية الخطر من حيث تاريخ تلك الأمم ومن حيث تاريخ علم الفلك ومن حيث تاريخ الفلسفة جميعا: كانت تلك الحرب في سنتها السادسة، والتقى الجمعان وجنودهم على أشد ما يكون التحام بين المحاربين، وإذا بالشمس قد كسفت فغشيهم ليل مظلم اضطرهم إلى وقف القتال. ليس في هذه الحادثة ما يبعد احتمال وقوعها، وليس من الغريب أن تأخذ ظاهرة من هذا النوع بالعقول مأخذا عميقا، غير أن هيرودوت الذي حفظ لنا ذكرها زاد على حكايتها أن طاليس الملطي كان قد تنبأ بهذا الكسوف الشمسي ونبأ اليونان به وبالسنة التي يقع فيها.
8
لا شبهة لدي في رواية المؤرخ تلك التي قد أفسحت من البحث محلا لنظريات كثيرة على غاية الخطورة؛ فقد بحث العلماء أخيرا في حساب هذا الكسوف بالآلات الفلكية التي بين أيدينا الآن، والتي تكاد تكون معصومة من الخطأ رجاء تعيين تاريخ صحيح ثابت بين تلك الروايات المختلطة المشكوك فيها، ولكن لم يمكن الإجماع على أمر علمي محض ولا الاهتداء إلى الغرض المطلوب، فإن الأب بيتو قد حسب أن هذا الكسوف ينبغي أن يكون قد وقع في السنة الرابعة من الأولمبياد الخامسة والأربعين، يعني السنة 592 قبل الميلاد.
وأما سان مارتان الذي هو آخر من عني بهذه المسألة فإنه وجد أن كسوفا كليا يرى في هالوس حيث ملتقى الجيشين لا يمكن أن يكون إلا في 30 سبتمبر سنة 610ق.م (ر. مذكرات مجمع الرسوم الخطية والفنون الجميلة، السلسلة الجديدة، الجزء 12). وإذن يكون الفرق بين التقديرين ثمانية عشر عاما. ويمكنني أن أسرد آراء آخرين من المؤلفين الحديثين ليسوا أقل اختلافا من السابقين. أما بلاين عند القدماء فإنه عين هذا الكسوف بغاية الضبط في السنة الرابعة من الأولمبياد الثامنة والأربعين وفي السنة 170 من تأسيس روما.
9
وهذا التوافق المشكوك في ضبطه بين التاريخين يجعل ذلك الكسوف في سنة 580 تقريبا. ولست أريد الدخول في هذه التفاصيل؛ لأني لا أتطلع إلى إمكان الفصل فيها واستجلاء غوامضها، بل أقف عند حد الرجاء في أن علم الفلك يستطيع أن يضع رأيا قاطعا في هذه المسألة التاريخية.
Bog aan la aqoon
أما المسألة الأخرى التي أثارت هذه الحادثة ثائرتها فهي: أيكون من الممكن أن طاليس حسب حقيقة هذا الكسوف وتنبأ به كما سمع بذلك هيرودوت؟ شك المؤرخون الحديثون في ذلك. وفي هذه الأيام أنكر ج. جروت
10
أن العلم كان وقتئذ من التقدم بحيث يسمح بنبوءات مثل هذه وحسابات علمية إلى هذا الحد. لا أبغي أن أعارض هذا المؤرخ وهو حجة، ولكني أنبه إلى أنه يؤخذ من رواية هيرودوت عينها - صادقة كانت أو كاذبة - أنه في زمانه؛ أي بعد طاليس بقرن تقريبا كان الناس يعتقدون إمكان حساب الكسوف، هذا وحده يكفي في إثبات أن العلم كان متقدما إلى قدر الكفاية؛ فإن مثل هذا الفرض يشهد بتقدم هو غاية في الجد؛ لأنه لأجل أن يقبل العامي إمكان حساب الكسوف ويصدقه ويتحدث به لا بد من أن يكون العلماء قد وفوا الموضوع بحثا.
ومما لا جدال فيه أيضا أن شهرة طاليس بين تلك الشعوب كانت من الرفعة بحيث إنهم نسبوا إليه من غير تردد هذه المعجزة العلمية، ولقد قرر بلاين أن هيبارخس الرودسي أمكنه أن يضع فهرسا لكسوف الشمس وخسوف القمر مدة ستمائة عام. وفي زمن هذا الكاتب الروماني لم تكن الحسابات الفلكية لتخطئ مرة واحدة، حتى قيل: «إن هيبارخس كان يحضر مداولات الطبيعة.» وكان هيبارخس بعد طاليس بأربعمائة عام تقريبا، وربما كانت المسافة بين علم أحدهما وعلم الآخر متناسبة مع المسافة الزمنية بينهما؛ لأنه ليس في يوم واحد يمكن الوصول إلى نتائج علمية مضبوطة إلى هذا المقدار. فلست أرى من المستحيل في شيء أن طاليس في عهد أليات قد فتح باب علم بلغ به هيبارخس هذه الغاية البعيدة سنة 150 قبل الميلاد.
أعود إلى ما كنا فيه: بعد قليل عقد الصلح بين الليديين والميديين بوساطة سونيزيس ملك كيليكيا ولابينيوس ملك بابل، وزف أليات ابنته زوجة إلى أصطياغ بن كواكزاريس، وأقسم الطرفان على احترام المعاهدة. واتباعا لعرف هذه الشعوب قد فصد سفراء الصلح من الجانبين أذرعهم ومص كل فريق من دم الفريق الآخر. ولكن هذه المحالفة التي عقدت على أكمل ما يمكن من الإخلاص كانت طائر نحس على ليديا؛ إذ جرتها إلى حرب جديدة انكسرت فيها وفقدت وجودها.
ذلك أنه لما مات الملك أليات خلفه ابنه كريزوس الذي قدر عليه أن يكون آخر ملك لجنسه، وحقت بذلك نبوءة هاتف دلفوس. وكان كريزوس هذا الذي صار اسمه مرادفا للغنى أميرا من خير الأمراء الممتازين، ومع أنه كان شديد الإعجاب بكنوزه الوراثية التي جمعها أجداده الهيرقليون والميرمناديون لم يكن رجلا مترفا ولا ضعيفا كما يبدر للذهن عادة، فما كاد يلي الملك حتى فكر في أن يتم عمل أسلافه ويخضع نهائيا جميع المدائن الإغريقية على الشاطئ، فتجنى عليها بعلل مختلفة حقا أو باطلا بادئا فتحه بإيفيزوس، وعما قريب أخضع إلى سلطانه كل المستعمرات؛ إذ قهر يونيا وأيولس جميعا، ولكن كريزوس أحس أنه لم يصنع شيئا ما دامت الجزر خارجة عن قبضة يده، فجهز أسطولا ليجاوز عليه بجيشه البحر، ثم عدل عن هذه الغزوة التي هي قليلة الجدوى عند أمة كالليديين بنصيحة بياس البرييني، وفي رواية أخرى بنصيحة بطاقس الميتيليني؛ إذ جاء الحكيم إلى سرديس فسأله الملك عن ماجريات الحال في الجزائر، فأجاب بياس: «إن أهل الجزائر يتأهبون لمهاجمة سرديس في عشرة آلاف فارس.» فأجاب كريزوس: لتشأ السماء أن يركبوا هذا الشطط، فقال الحكيم: «أيها الملك، لك الحق أن ترغب في أن أهل الجزر يرتكبون خطأ كهذا، ولكن ما ظنك بما سيقولون من جانبهم عندما تأتيهم الأنباء أنك تفكر في غزوهم من طريق البحر؟» ففهم كريزوس الدرس على مرارته، وقنع بأن عقد عهد محالفة ومودة بينه وبين يونان الجزر.
لما ارتاح كريزوس واطمأن من هذه الجهة بحث في بسط سلطانه إلى جهة الشرق وفي آسيا الصغرى، وعما قليل وضع يده على جميع الشعوب النازلة إلى هنا من نهر هالوس دون ما وراءه، وهم الفريجيون، والميزيون، والمارياندينيون، والخالوبس، والبفلاغونيون، وتراقيوثينيا، وبيثينيا، والقاريون، والبمفيليون، حتى الدوريون واليونان والأيوليون، ولم يفلت من قبضته إلا كيليكيا وليكيا في الجنوب.
وكان نهر هالوس هو أحد الثلاثة أو الأربعة الأنهر التي تحدد هذه البقاع المسماة آسيا الصغرى وترويها، فهو ينبع من جبال أرمينية ويسير من الشرق إلى الجنوب الغربي، وينفرج على نحو زاوية قائمة ليتجه من الجنوب إلى الشمال فيصب في البحر الأسود شرقي سينوب وطن ديوجين، وبعد نهر هالوس ثلاثة أنهر أخر عظيمة النفع لتلك الجهات تتقاسم بينها شبه الجزيرة، جارية كلها إلى الغرب وصابة في البحر الأبيض المتوسط يوازي بعضها بعضا تقريبا، وهي المياندرس الذي يصب في خليج ملطية، والقاوصترس في خليج إيفيزوس، والهرموز في خليج أزمير إلى الشمال الغربي قليلا. وكان لكريزوس أن يفخر بأنه تفرد بالملك في آسيا الصغرى، وأنه وصل بالمملكة الليدية إلى حد من رفاهة العيش وقوة البأس لم يكن لها مثله من قبل، ولكن ذلك هو في الواقع كان السبب في خرابها.
في هذه الأثناء حصلت تغييرات وانقلابات عظيمة في الشرق وفي البلاد المجاورة للملكة الليدية المترامية الأطراف؛ فإن قيروش خرب مملكة أصطياغ صهر كريزوس، وقهر ملوك آشور، وعاهد ملك هرقانيا، وفكر في مهاجمة ليديا التي كان يظهر عليها أنها كانت متحدة مع أعدائه. وبعد أن بسط سلطانه على جميع البلاد شرقي نهر هالوس لم يكن هناك محل للتأخر عن عبور ذلك النهر، كذلك لم يكن لقوة الفرس الهائلة مدفع عن أن تمتد إلى البحر وأن تفتح شبه الجزيرة وكل ما تحويه من الشعوب، سواء في ذلك البرابرة والإغريق. ولقد أدرك كريزوس للحين خطر الموقف الذي يتهدده، فلما علم بهزيمة أصطياغ استكمل عدته للحرب بقدر ما يستطيع.
فما كاد يتعزى عن موت ابنه الذي قتل في حادثة في الصيد، ثم عزم على أن يقف تقدم الفرس بأن يحالف إغريق الشواطئ وجميع إغريق بيلوبونيز والغرب، ولهذه الغاية أرسل بادئ الأمر يستشير الوحي ليحصل على تأييد الآلهة والاعتقاد العام. وذهبت وفوده فعلا إلى دلفوس ودودون، وإلى أباس في فوكيد، وإلى غار طروفو نيوس، ومعبد أنفياراوس، ومعبد البرنشيد على مقربة من ملطية، بل إلى معبد المشتري آمون نفسه، وكان كريزوس يريد أن يضع لهم بادئ الأمر أسئلة يختبر بها صدقهم ثم يستفتيهم بعد ذلك بصورة منظمة في المسألة الكبرى؛ مسألة الحرب مع الفرس التي كانت تقلق باله، فوجد أن هاتفي دلفوس وأنفياراوس أكثر إخلاصا ، فحمل إليهما الهدايا الباهرة التي يمكن قراءة وصفها التفصيلي في هيرودوت الذي رأى بعض هذه النفائس الغالية في المحاريب.
Bog aan la aqoon
وعندما قدم ملك ليديا تلك الهدايا الثمينة استشار الهاتفين في أمر الحرب، فكان جوابهما مبهما كله تورية؛ إذ قال: «إذا اشتبك كريزوس في الحرب مع الفرس خربت مملكة عظمى.» أيهما؟ أدولة الفرس أم دولة ليديا؟ لم يقل الإلهيان بالتعيين، ولكنهما نصحا لكريزوس أن خير وسيلة أن يتخذ حلفاء ونصراء من أقوى الشعوب الإغريقية، فعاود كريزوس هاتف دلفوس في هذه النقطة، فعين له الهاتف اللقدمونيين من الجنس الدوري والآتينيين من الجنس اليوناني - يعني الهيلنيين والبلاسجة - فأوفد سفراءه إلى الأجزاء المختلفة لبلاد الإغريق يخطب ودهم فلم يجب دعاءه إلا اللقدمونيون الذين هم مائلون إليه لخدم أداها لهم قبل ذلك. أما بقية الإغريق - وعلى الخصوص الآتينيين - فلم يدركوا حقيقة الخطر المقبل، ولم يجيبوا داعي ملك ليديا، واستنجد كريزوس - على ما يقول سيروبيديا - حتى بأهل مصر، ولكن من المشكوك فيه أن مصر وجهت لمساعدته مائة وعشرين ألف مقاتل كما يروي الرجل الطيب إكسينوفون.
ولقد أول كريزوس جواب الهاتف لمصلحته خطأ وأغار على كابادوس من أرض ميديا التي افتتحها قيروش قبل ذلك بقليل، وكان من الضروري له أن يعبر نهر الهالوس وهو في هذا المحل واسع المجرى، ووقع بذلك في صعوبة كبرى لم يتغلب عليها إلا بحذق طاليس الذي كان قد تبع الجيش الليدي في عدد غير قليل من مواطنيه، فإنه اصطنع جسرا عريضا فصل النهر إلى عدة فروع سهل اجتيازها، تلك هي الرواية التي وصلت إلى هيرودوت في حداثة عهدها. ولكن هيرودوت يظهر عليه أنه يعتقد أن الجيش عبر النهر بالبساطة على قناطر لم تنشأ في رواية العامة إلا بعد هذه الواقعة بزمان. ولما عبر كريزوس النهر استولى على المنطقة التي كانت تسمى بطيريا وخربها.
سارع قيروش إلى لقاء الغائرين بجميع جيوشه ومن انضم إليهم من أهل البلاد، ولكن قبل أن ينازل الليديين أرسل إلى اليونان يستميلهم إلى التخلي عن جيش كريزوس، ولكن اليونان بقوا على عهدهم مع كريزوس؛ لاعتقادهم أن خيانة مخجلة لا تأتي إلا بالعار المجرد من كل منفعة؛ لأن الإغريق لا يستطيعون أن يقفوا وحدهم في وجه الفرس إذا سقطت ليديا في يده كما كانوا يتوقعون، وإن هزيمة عامة لكل أجناس الإغريق خير من العار ما داموا مصرين على ألا يسلموا بلادهم إلى الفرس لأول وهلة. ولما التقى الجمعان في سهول بطيريا شرقي هالوس جرت بينهم حرب طاحنة استعرت نارها طول اليوم إلى المساء لم يظهر فيها نصر نهائي لأحد الفريقين على الآخر.
ولكن أضرارها كانت على كريزوس أكبر؛ لأن جيشه مع بسالة قواده كان قليل العدد جدا بالنسبة إلى الجيش الآخر. ولما رأى قيروش ما مس جيشه من القرح لم يشأ أن يبدأ بالقتال في اليوم التالي؛ فانتهز كريزوس تلك الفرصة للتقهقر إلى سرديس، وعزم على أن يبلغ من الدفاع عنها غايته.
ثم استنجد حلفاءه وأمازيس ملك مصر ولابنطوس ملك بابل، واستنفر لقدمونيا لنصرته، واعتمد على أنه متى اجتمعت له هذه القوى كلها يجدد الكرة على جيوش قيروش في الربيع القادم، وجعل ميعاد حلفائه ونصرائه على تمام خمسة أشهر من يوم الدعوة في عاصمة ملكه. ولقد أصاب كريزوس الحكمة في هذه التدابير، ولكنه ارتكب خطأ جما في صرف جنوده ظنا منه أن قيروش لا يستطيع أن يطلع على سرديس بجنده الذي نال منه القرح ما نال، وقد خاب ظنه؛ لأن قيروش احتفظ بجنوده وسار بهم بعد أن أخذوا قسطا من الراحة إلى ليديا، فلم يلبث أن نزل السهل الفسيح القائمة فيه مدينة سرديس.
أما كريزوس وإن كان قد أخذ على غرة فإنه لم تنحل عزيمته، بل اعتمد على ما هو مشهور عن أهل ليديا من الإقدام خصوصا كتائب فرسانهم، فإنهم كانوا مقطوعي النظير لمهارتهم في سوس الخيل وفي حسن استعمالهم الرماح الطوال التي كانوا يعتقلونها. ولكن قيروش من جهته قد فكر في تقليل قيمة تفوق فرسان العدو، فسير في مقدمة جيشه جماله كلها التي لم تعتد خيل ليديا رؤيتها ولا رائحتها ؛ فجفلت وصعبت رياضتها، فترجل الليديون وأبلوا على الرغم من ذلك بلاء حسنا، لكنهم بعد التحام هائل انهزموا فلم يجدوا لهم موئلا إلا أسوار مدينتهم.
لما رأى كريزوس أنه محصور بجنود منصورة عجل إلى حلفائه وعلى الأخص اللقدمونيين، لكن هؤلاء بعد أن تأهبوا لنصرته حسب نص المعاهدة جاءهم نبأ سقوط سرديس عنوة في يد قيروش بعد حصار دام أربعة عشر يوما ووقوع كريزوس في الأسر. لما وقع ملك ليديا التعس في أيدي أعدائه مثقلا بالسلاسل وحكم عليه بأن يحرق حيا هو وبعض أبناء العائلات الكبرى الذين كانوا معه وسعرت له النار وكادت تصل إلى جسمه، رق له قلب قيروش وأخذته الرحمة على هذا الملك البائس الذي كان يحتمل تصاريف القدر بالرضا والتسليم، والذي كان في هذه اللحظة الرهيبة يذكر نصيحة سولون له حينما وفد عليه وأقام في معيته. وكانت سن كريزوس وقت وقوعه في الأسر تسعة وأربعين عاما حكم منها أربعة عشر عاما منذ وفاة أبيه، وبقي بعد ذلك زمنا طويلا في معية قيروش مرافقا ومعينا له في غزواته.
إن تاريخ سقوط سرديس ليس أقل اضطرابا من تاريخ كسوف طاليس. وأخذا بما على رخام باروص تكون سرديس سقطت في السنة الثالثة من الأولمبياد التاسعة والخمسين؛ أي سنة 537 قبل الميلاد. أما فريريت فإنه يقول إنه وقع في سنة 545 أخذا بشهادة سوسيقراط الذي استشهد به ديوجين اللايرثي في كتابه «حياة بيرياندر». وأما فولني فإنه أخره إلى سنة 557 في كتابه «أخبار هيرودوت». وعلى كل حال فإن هذا التاريخ على خطره محوط بالشكوك، ولا يزال محلا للتحقيق.
لما غلب الليديون على أمرهم أحست المدائن الإغريقية خطر مركزها، فعرض الأيوليون واليونان الطاعة على الشروط التي كانت بينهم وبين كريزوس، فرفضها قيروش مزدريا إياهم، وذكر اليونان إعراضهم عنه حين خطب ودهم قبل ذلك ببضعة أشهر، فلم يبق لهذه المدائن إلا خوض غمار الحرب بعد ذلك الرفض المهين، فدعيت ندوتهم (البانيونيون) وحضرها أهل المدائن كلها إلا الملطيين الذين كانوا اتخذوا للحرب عدتها من قبل، ولكن حظ الجميع منها لم يكن أحسن من حظ مملكة ليديا.
من المحتمل أن يكون هذا الحين هو تاريخ النصيحة التي قدمها طاليس للاتحاد اليوناني؛ فإنه لبصره بالعواقب ارتأى ألا يكون للمدن اليونانية إلا جمعية واحدة تعقد في طيوس - لتوسط مركزها - على أن تحتفظ كل مدينة بنظمها الخاصة؛ لأنهم متى اجتمعت قواهم كانوا بالضرورة أقدر على مقاومة عدوهم المشترك؛ فإن الاتحاد وحده هو الذي ينجيهم ما دامت المنازعات الداخلية هي التي أضعفتهم. ولكن هذا الرأي السديد لم يكن ليطاع فيهم مع أنه لم يجئ بعد الأوان، فإن حال اليونان لم يكن بعد من السوء بحيث لا يمكن إصلاحه.
Bog aan la aqoon
ولقد نصح لهم طاليس بعد ذلك نصيحة في وقت أشد حرجا فلم تقابل إلا بما قوبلت به سابقتها من الإعراض، ثم نصح لهم بعد ذلك بياس البرييني - أحد أعضاء الندوة (البانيونيون) - أن يترك اليونان جميعا آسيا ويتخذوا أسطولا كبيرا يركبونه إلى «سردينيا» حيث يؤسسون جمهورية قوية، وأبان لهم بيأس أنهم إن بقوا في آسيا لا يستطيعون أن يحموا حريتهم. يرى هيرودوت أن اليونان لو كانوا قرروا هذا القرار الباسل لصاروا أسعد الشعوب الإغريقية كلها، ولكنهم قنعوا بمفاوضة الأيوليين ليرسلوا سفراء إلى إسبرطة يطلبون باسمهم وباسم اليونان إعانة الجمهورية إياهم.
لم تشأ جمهورية إسبرطة أن تمدهم بقوة حقيقية، بل أرسلت رجلا ثقة من رجالها يقال له «لقرين» إلى سرديس يطلب إلى الفاتح ألا يسيء إلى أية مدينة إغريقية ويهدده بسخط لقدمونيا، غير أن قيروش الذي ما كان يعرف إلى ذلك الوقت ما هي إسبرطة، أخذ يسأل بها وأعلن - وهو هازئ بهذه الشعوب التي يخالها متأنثة في أمورها - أنه أولى بها أن يشغلها الخطر المحدق ببلادها عن الخطر الذي يتهدد يونيا. في هذا الوقت دعا قيروش اختلاف الأحوال في بابل وبكتريان والساسيين بل وفي مصر أيضا إلى التعجل بالسفر من سرديس إلى أقبطان، وخلف على المدينة فارسيا يدعى طابالوس، وجعل على نقل الكنوز التي جمعها ملوك ليديا منذ عدة قرون ليديا يقال له بكتياس.
انتهز بكتياس غيبة قيروش في حصار بابل، ووضع يده على الكنوز التي اؤتمن على نقلها، وانتبذ بها مكانا بعيدا على الشاطئ، ودعا الليديين إلى الثورة والانتقاض على قيروش، وألف بالمال جندا سار به إلى حصر مدينة سرديس التي كان يحميها طابالوس، ولكن هذه الثورة لم تلبث حينا حتى جاء مزاريس - أحد قواد قيروش - بالمدد، واضطر بكتياس إلى الهرب والاحتماء في «كومة»، فلما طلبه مزاريس هم الكوميون بتسليمه إليه بنصيحة هاتف البرنشيد، لولا رجل شجاع منهم يقال له أرسطوديقوس حمى النزيل ونجاه من الهلك واستحب عصيان الإله على انتهاك حرمات الضيافة في حق مستجير. ونجا بكتياس إلى ميتيلين حيث عادت لأهل كومة نخوتهم وأرادوا هم أيضا حمايته، غير أن هذا السيئ الحظ قد أخذه الشيوزيون بالقوة من معبد مينرفا وسلموه إلى الفرس؛ لأن قيروش أمر بأن يحضر لديه حيا، وقبض الشيوزيون ثمنا لهذا العار مقاطعة أطرنة الواقعة في ميزيا تجاه لسبوس، ولكنهم لم يسعدوا في هذه الأرض التي امتلكوها بذلك الثمن المخجل، فقد أكد هيرودوت أنه مر زمن طويل على أهل شيوز لا يستطيعون أن يقربوا للآلهة قربانا ولا أن يضحوا بشيء مما كان يأتيهم من غلة ذلك البلد الملعون.
قسا مزاريس في التنكيل بالذين خرجوا على الملك في ثورة بكتياس، وكتب الرق على سكان بريينة وباعهم بالمزاد، وخرب بلا رحمة سهول مينادرس جميعها وأباحها لنهب عسكره، ولكن منيته صادفته أثناء هذا الانتقام، ولقد أراد الفرس بهذه الفظائع أن يغلوا أيدي المغلوبين عن الثورة، ولكن إغريق الشاطئ ومستعمرات أيولس ويونيا ودريدا لم يخفهم ذلك، بل أخذوا عدتهم واستجمعوا بأسهم إلى حرب غير متعادلة القوى ولا ملحوظ في نتيجتها إلا الفشل والخذلان.
بذلك يبتدئ العهد الثالث والأخير لتاريخ الإغريق في آسيا الصغرى؛ فإن العهد الأول لبث من وقت نزوحهم إليها إلى حكم جوجيس غاصب ملك ميديا، وهو أطولها؛ لأنه لا يقل عن 500 سنة، والثاني الذي كان مملوءا بالتنازع بين مدائن الإغريق ومملكة ليديا، ويمتد إلى هزيمة كريزوس وسقوط سرديس. ولم تكن قوة ملوك الليديين تلقاء قوة الفرس شيئا مذكورا؛ لأن الفرس كانوا أمة حزب ملكت جزءا عظيما من آسيا، وتقدموا تقدما كبيرا في فنون الحرب بفضل قيادة قيروش.
أما الذي خلف مزاريس على التنكيل بالثائرين واستمرار الفتح فهو رجل خليق بكل أنواع الفظائع واقتراف الدنايا يقال له هربغوس، اشتهر بعمل مقطوع النظير في الخسة حتى في معرض دنايا البلاط الفارسي، ذلك أن «أصطياغ» - ملك الميديين - كان قد أزعجته رؤيا، فكلف هربغوس أمينه أن يحتال لقتل الولد الذي ولدته حديثا ابنته مندان من قمبيز، وكان هذا الحفيد المقصود بالوقيعة هو قيروش، فقبل هربغوس هذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يقتل الصبي بيده؛ فوكل ذلك إلى راع أخذته الرحمة من توصيلات زوجته؛ فاستبدل صبيه الذي ولد ميتا بالذي دفع إليه ليقتله، ودخلت هذه الحيلة على هربغوس، فلما استكشف «أصطياغ» خفية الأمر وعلم بكل ما جرى كظم غيظه، ولكنه انتقم من هربغوس شر انتقام، فأمر بقتل ابن هربغوس سرا، ودعاه إلى طعام قدم إليه فيه لحم ابنه فأكله، ثم أمر فأحضر رأس الغلام ويداه وقدمت أثناء المأدبة تحت غطاء إلى هربغوس، فلما كشف عنها الغطاء رأى هذا المنظر الفظيع فلزم السكينة، فسأله «أصطياغ» في ذلك فقال إنه تعرف اللحم الذي أكله، ولا يسعه إلا الثناء على الملك على ما تفضل به.
ومع ذلك فإن هربغوس قد أصر على الانتقام من «أصطياغ» بأن يثل عرشه من تحته؛ فحرض قيروش سرا على العصيان، ولم يصادف هذا الأمير الشاب عناء في حمل الفرس على نبذ نير الميديين الثقيل، ولقد بلغت العماية «بأصطياغ» أنه لما جاء حفيده على رأس الجيش الفارسي أمر على الجند هربغوس الذي كان قد نكل به ذلك التنكيل، فلم يلبث هذا الأخير أن خانه وانخذل بالجيش، وقهر قيروش «أصطياغ» ولم يقتله، بل تركه يعيش في الخزي، وسقطت مملكة الميديين بعد أن أقامت 328 سنة من ديجوسيزبن فراورط، وبقي هذا القسم من آسيا من يومئذ تابعا للفرس الذين لم يحتفظوا به إلا أقل من تلك المدة حتى سقطت مملكتهم بإغارة إسكندر .
ذلك هو هربغوس الذي رمى به قيروش مدائن الإغريق ليخضعها.
ولقد عنيت بذكر هذه التفاصيل على شهرتها لأبين أي الأمم وأي الأخلاق سيكون ليونان الشاطئ علاقة بها.
أخذ هربغوس يبتكر طرائق لفتح المدائن، فكان كلما وصل مدينة أحاط بها ثم حفر حولها خندقا يحصر أهلها فيضطرهم إلى التسليم؛ فبدأ بمدينة فوكاية، تلك المدينة التي كان لها اسم كبير في ذلك العهد، والتي تهمنا بوجه خاص جد الأهمية؛ لأن أحد فلاسفتنا (إكسينوفان) كان بها منذ نفي من كولوفون وهرب مع مواطنيه على الشواطئ البعيدة لبحر طرهينيا، ولقد كان أهل فوكاية أول من أزمع السياحات الكبرى المقرونة بالأخطار من جميع الجنس الهليني؛ فإنهم أول من علم الناس ما هو البحر الإدرياتيكي وبحر طرهينيا وأيبيريا وطورطايس، تلك الأصقاع السحيقة في حدود الأرض وراء عمد هيرقليس، وهم الذين حوروا طريقة صنع السفن فرغبوا عن السفن الغليظة المستديرة إلى سفن ذات خمسين صفا من المجاذيف، وهي المسماة «البانيكونتور». ولما كان لأهل فوكاية صلات مودة ومعاملة ببلاد طورطايس عرض عليهم أرغانتونيوس - ملك هذه الجهة - أن يهاجروا إليه إذا شاءوا أن يتركوا يونيا عندما هدد الفرس مدينتهم. ونظرا إلى أنهم لم يكونوا قد عزموا على الهجرة بعد، أعطاهم حليفهم الملك مبلغا عظيما من النقود ليساعدهم على إقامة سور منيع حول مدينتهم، فأقاموا هذا السور الواسع الامتداد من أحجار كبيرة محكمة الرصف جدا.
Bog aan la aqoon
وقف هربغوس أمام هذا الحصن العظيم الذي لم يستطع النفوذ منه إلى داخل المدينة، وبقي محاصرا لها حتى أرهق أهلها إرهاقا، ثم عرض عليهم عرضا يوافقهم، وهو أن يهدموا جزءا من الحصن الأمامي تحتله الفرس إشارة إلى أن أهل المدينة أطاعوا؛ فطلب إليه الفوكيون الذين أعياهم الحصار جوابا على هذا العرض هدنة يوم واحد، وأن يبتعد الجيش الفارسي عن مراكزه، فأجابهم هربغوس إلى ذلك مع توقعه ما سيحصل؛ فاغتنم الفوكيون هذه الهدنة وحملوا على السفن نساءهم وأولادهم وجميع ما يستطيعون حمله خصوصا الأمتعة المقدسة التي جمعوها من المعابد، وسافروا إلى شيوز، فلما جاء الفرس في اليوم التالي وجدوا المدينة خلوا ليس فيها أحد من أهلها.
كان الفوكيون قد رغبوا بادئ ذي بدء في أن يشتروا من أهل شيوز الجزر التي تسمى إينوزوس، لكن هؤلاء قد رفضوا الصفقة حتى لا يخلقوا لأنفسهم مزاحمين لا يستهان بأمرهم على مرافق التجارة، فاضطر الفوكيون إلى أن يوجهوا سفنهم نحو جزيرة قورسقة (المسماة وقتئذ سيرني)، حيث أسسوا فيها قبل ذلك منذ عشرين عاما مدينة «علالية» بإشارة الهاتف، ولكنهم قبل أن يذهبوا إلى هذا المنفى النهائي رجعوا إلى فوكاية على غرة من حرسها الفارسي وذبحوهم، ومع ذلك فإن هذا العمل الجريء لم يمكنهم من البقاء في وطنهم القديم، بل ارتدوا إلى أسطولهم. وليثبتوا أنهم لن يتركوه ألقوا في البحر كتلة من الحديد، وأقسموا ألا يعودوا قبل أن تطفو هذه الكتلة الثقيلة على سطح الماء.
وعلى رغم هذا القسم زين لنصف النازحين أن ينزلوا إلى البر ويدخلوا فوكاية، وأما النصف الآخر الذي بر بقسمه فقد اعتمد على ألا يبقى تحت نير المتوحشين الذي لا يطاق، وأبحروا إلى قورسقة، فدخلوها آمنين وأقاموا كما يشتهون في سكينة مدة خمسة أعوام مع مواطنيهم الذين سبقوهم إليها قبل ذلك بسنين طوال. ولكن أهل طرهينيا وقرطجنة هاجموا الفوكيين، إما حسدا من عند أنفسهم، وإما اضطرارا للكسب وحبا في السلب والنهب. ولم يكن لدى الفوكيين إلا ستون سفينة ضد مائة وعشرين لخصومهم، ولم يبرر لهم ذلك التردد في منازلتهم، بل ذهبوا يبحثون عن عمارات خصومهم في بحر سردينيا، وتحرشوا بهم وطلبوهم للقتال، ولكنهم خسروا في هذا الظفر ثلثي سفنهم؛ فرجعوا عجلين إلى «علالية»، واحتملوا عائلاتهم وأموالهم ليلجئوا إلى موئل آخر آمن من هذا.
والظاهر أن جزءا من هؤلاء المهاجرين قد وقع في يد الطرهينيين والقرطجنيين فقبضوا عليهم وذبحوهم، وذهب الجزء الآخر إلى رغبوم في صقلية، ومن هناك اتجهوا إلى الشمال، وأسسوا على أرض أونتري مدينة إيليا الشهيرة بمدرستها الفلسفية التي شيدت فيها بعد تأسيسها بقليل.
في نحو هذا الحين لجأ إكسينوفان إلى إيليا هاربا من كولوفون التي وقعت في قبضة الفرس، وانضم إلى الفوكيين الشجعان الذين كانوا مثله يكرهون العبودية. من الواضح أن ما ورد في شعر إكسينوفان خاصا بإغارة الفرس الذين ما زال يسميهم الميديين، إنما يراد به واقعة هربغوس تلك لا حرب الميديين،
11
كما ظن ذلك أحيانا. وقد يظهر أن تأسيس إيليا الذي شدا به إكسينوفان كما شدا بتأسيس كولوفون كان في سنة خمسمائة وست وثلاثين أو خمسمائة واثنين وثلاثين قبل الميلاد، بل قد يكون أدنى من ذلك، على كل حال فإنه قبل إغارة مردونيوس وداتيس على بلاد الإغريق بثلاثين سنة على الأقل، وليس عندنا ما يفيد أن إكسينوفان عاش إلى ذلك الوقت.
ولسنا نرى فيما حفظ لنا التاريخ من التفاصيل ماذا جرى على كولوفون بخصوصها، وهي من ليديا كمدينة فوكاية، ولكن المفهوم ضمنا هو أنها وقعت فيما وقعت فيه فوكاية، وأن أهلها الذين لم يقبلوا حكم المتوحشين ركبوا البحر ليلجئوا إلى جهات أكثر طمأنينة. حق أن هيرودوت لم يذكر بعد أخبار الفوكيين إلا أخبار أهل طيوس الذين فعلوا مثل ما فعل أولئك، فحملوا ما قدروا عليه في سفنهم وقصدوا تراقيا حيث أسسوا مدينة أبدير، وقد كان سبقهم في الهجرة إلى تلك البلاد أحد مواطنيهم المدعو كلازومين.
أضاف هيرودوت إلى هذا أن بقية مدن يونيا خضعت لحكم الفرس بعد مقاومة عنيفة، ولا مانع من افتراض أن إكسينوفان كان أحد هؤلاء الأبطال الذين أثنى عليهم المؤرخ، والذين لم يلقوا قيادهم إلى الفرس إلا بحكم الضرورة، إلا الملطيين وحدهم فإنهم اتفقوا مع قيروش كما ذكر آنفا، وبذلك احترم هربغوس حيادهم اكتفاء بما شتت وأذل من سائر يونان القارة. وأما أهل الجزائر فإنهم بوضعهم كانوا في مأمن من الغارة؛ لأن الفرس لم يكن لديهم بعد أسطول يطولون به الجزائر ويلقون على أهلها نير العبودية.
وأما يونيا وأيولس فإنهما أطاعتا غاية الطاعة حتى جند منهم هربغوس حين مشى إلى قاريا التي وقعت في قبضته بعد قليل. وأما الكنيديون فإنهم حاولوا الدفاع بالإسراع في قطع البرزخ الذي يصلهم بالقارة، ثم بدا لهم أن يستسلموا إلى الفرس أخذا بنصيحة كاهنة دلفوس. وأما البيدازيون من ضواحي هاليكارناس فإنهم قاوموا حتى حين، ولكنهم قهروا كما قهر الليقيون الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن وطنهم. وبذلك تم النصر لقيروش، وكان يستطيع أن يغتبط وهو سائر إلى إخضاع بابل بأن كل آسيا الدنيا ملك له إلى البحر.
Bog aan la aqoon
كانت جزيرة سموس وقتئذ أقوى الجزر، ذات مركز سام بما لها من الروابط بإغريقا وبمصر، وبينما كان قمبير المفتون بن قيروش يغزو مصر ليقضي على نفسه فيها كان بوليقراطس يحكم سموس، وقد مكن له فيها بحسن إدارته وقلة تحرجه ومبالاته، حتى جعل الجزيرة من الرخاء محسودة الوفر من كل نظائرها. وكان من أمره أنه أقام فيها ثورة انتهت باستيلائه فيها على السلطان هو وأخويه ينتنيوت وسيلوسون؛ إذ اقتسم الإخوة الثلاثة حكم المدينة لكل منهم قسم معلوم، ولكن يوليقراطس لم يلبث أن تخلص من أخويه؛ إذ قتل أحدهما وشرد الثاني، وخلص له الحكم، وأطاعه أهل المدينة. وقد أراد أن يثبت لنفسه الملك المغصوب فارتبط بأمازيس ملك مصر، وتبادل وإياه الهدايا النفيسة، ولم يمض عليه حين حتى نبه ذكره، وعمت شهرته بلاد الإغريق، وكان سعيد الطالع موفقا في مشروعاته إلى غاية المنى، وكان أسطوله مؤلفا من مائة سفينة من ذوات الخمسين صفا من المجاذيف، وكان يبلغ عدد رماته وحدهم ألفا.
ولم يكن مع ذلك ليرعى لجيرانه حرمة، بل كان يضرب عليهم الإتاوة بغاية الجرأة، وكان من مبادئه السياسية ألا يبقي حتى على أصدقائه متى قضى الظرف إلا أنه كان يعوض عليهم بعد ذلك. وكان قد غزا عدة جزر حوالي سموس، بل عدة مدن في القارة، ولما ساعد اللسبوسيون الملطيين عليه حاربهم وقهرهم في وقعة بحرية، وسخر جميع الأسرى مصفدين بالأغلال في حفر الخندق العميق الذي كان يحيط بأسوار المدينة. وكان من نتائج ظلمه أن بعض أهل سموس هجروها من هول ما يلقون من الجور، واستجاروا بإسبرطة، فأبحر إليه اللقدمونيون في أسطول قوي، وحاصروا المدينة أربعين يوما، ولكنهم ارتدوا على أعقابهم بفضل بأس بوليقراطس أو بفضل ماله.
وبقي هذا الطاغية مستبدا بالحكم مهيب الجانب لا يغلب على أمره، حتى إن من لم يريدوا من السموسيين الاستسلام لمظالمه لم يكن لهم وسيلة إلا الهجرة بعيدا عن ملكه إلى حيث ينزلون منزلا يرضونه. ولم يكن ليأمن على نفسه الطوارئ بذلك الخندق العميق الواسع، بل اتخذ نفقا تحت الجبل سلك فيه إلى المدينة ماء غدقا، وبنى رصيفا شاهقا متقدما في البحر، جعل به المرفأ أكثر ملاءمة لرسو السفن، ثم بنى معبدا اشتهر بأنه أكبر المعابد المعروفة. وقد ذكر أرسطوطاليس أيضا هذه الأعمال العظيمة التي عملها بوليقراطس.
وكان هذا الطاغية محبا للآداب والفنون، ويقال إنه أول من أنشأ مكتبة. وكان مثل ذلك في تلك القرون زخرفا نادرا كانت مصر وحدها هي صاحبة الإبداع فيه، وكان يؤوي إليه الشعراء، وكان أنقريون الطيوسي بعض جلسائه ومادحيه.
في صدد الكلام على عهد طغيان بوليقراطس هذا، ينبغي أن نورد خبر الصلات التي كانت لفيثاغورث به والتي لدينا عنها معلومات مضبوطة؛ فإن يمبليك وفرفريوس وديوجين لا يرث يلتقون في هذه النقطة، وليسوا بالضرورة إلا صدى كثير من المؤلفين الذين هم أقرب عهدا بزمن فيثاغورث وكتبوا ترجمته، مثل أرسطوكسين الموسيقي - تلميذ أرسطو - وأبللنيوس الصوري وهرميب وديوجين وأنتيفون ... إلخ. كان فيثاغورث بن منيزارخس يدلي بأمه إلى أكبر عائلات سموس، ويمكن أن يتصل نسبه بأنصي - مؤسس المستعمرة - ويظهر أن أباه قد جمع مالا وفيرا من تجارة القمح، وكان صوريا على رأي بعض المؤرخين، وطرهينيا على قول البعض الآخر، وكان يستصحب ابنه معه في سياحاته منذ حداثته؛ فطاف الصبي مع أبيه تلك البلاد التي عني بدرسها بعد ذلك، فلما صار في سن التعلم، ورأى أبوه فيه مخايل وعليه سيما النجابة، وصله بأعلى الرجال امتيازا في زمنه: طاليس - على ما يقال - وأنكسيمندر وأنكسيمين الملطي وفرقليد السيروسي. وقد عرف فيثاغورث فينيقيا وهو شاب؛ إذ صحب أباه إليها، ولما أراد السفر إلى مصر زوده بوليقراطس بكتاب توصية إلى أمازيس، وذلك يثبت أن رأي فيثاغورث في بوليقراطس وقتئذ على الأقل لم يكن كرأيه فيه بعد ذلك.
لم تكن مدة إقامة فيثاغورث بمصر محل اتفاق في التاريخ، فمن مترجميه - مثل يمبليك - من حددها باثنين وعشرين عاما، وإن كان ذلك قليل الاحتمال. لما أسر عسكر قمبيز فيثاغورث سيق إلى بابل، وهناك اتصل بالمجوس كما اتصل بكهنة مصر مدة إقامته بها؛ إذ كان محل إعجاب بذكائه ورجاحة عقله وحسن روائه. ولما رجع إلى وطنه وهو متقدم في السن؛ أي كانت سنه ستا وخمسين سنة على قول يمبليك، فتح فيه مدرسة، وظل السموسيون الفخورون بمواطنهم يعقدون مداولاتهم السياسية قرونا عدة بعد ذلك في مجلس نصف حلقي مسمى باسم فيثاغورث.
وقد قال أرسطوكسين: إن فيثاغورث لما ترك سموس فرارا من ظلم بوليقراطس لم يكن يتجاوز من العمر أربعين سنة، وربما كان قوله أوجه؛ لأنه أقرب عهدا إلى هذه الأحداث من يمبليك، ومن المحتمل أن يكون أعلم بها منه ما دام أنه تلميذ أرسطو الذي كان يشتغل كثيرا بفلسفة فيثاغورث. وأما شيشيرون فإنه ذكر في كتابه «الجمهورية»: أن فيثاغورث وصل إلى إيطاليا في الأولمبية الثانية والستين؛ أعني في سنة 528 قبل الميلاد؛ أي في السنة التي جلس فيها طرخان العظيم على العرش. ولما كان شيشرون (على لسان سيبيون) يقصد إلى تصحيح خطأ تاريخي شائع، فمن المراجع أنه يعرف حق المعرفة صحة ما ذكر، وأنه غير مخطئ.
ومهما تكن حياة فيثاغورث محجوبة عنا مع ما كان من اشتغال كثير من الكتاب الأقدمين بها، فالظاهر أن من المحقق أنه هاجر من سموس المحرومة الحرية ليجد بلدا في إغريقا الكبرى لا تشمئز فيه نفسه من مشاهد الظلم، ويستطيع أن يتمتع فيه بالاستقلال الذاتي الذي كان في حاجة إليه. وكذلك فعل إكسينوفان في نحو هذا الزمن؛ إذ كان يفر من اضطهاد الفرس الذين كانوا أشد ظلما من طغاة الإغريق. كان ذلك هو الحظ المشترك لأمثال هؤلاء، فليس من السهل أن يبقى المرء وطنيا أو فيلسوفا ينوء بحمل الضغط الذي يأتيه أمثال أولئك الأسياد. وعلى ذلك حمل فيثاغورث إلى قروطون وإلى ستيباريس مذاهب عجيبة فيها بلا شك شيء من الديانات الشرقية التي اتصل بأهلها، ولكنها حقيقة باحترام كل من يحبون الحكمة والإنسانية.
ولم تصل إلينا مذاهب فيثاغورث إلا عن طريق الوسطاء؛ إذ لم يجتمع لنا شيء من مؤلفاته الكثيرة التي وضعها
12
Bog aan la aqoon
فيما يظهر على ما يقول هيلير قليطس، والتي مع كون فيلولاوس أذاعها لأول مرة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وضعها كان يطلبها أفلاطون بأغلى ثمن.
أما بوليقراطس الذي شاطر في أسباب تعليم فيثاغورث، فإنه لقي حتفه على أسوأ ما يكون بعد سنين قلائل من اعتزال الحكيم سموس التي صارت أحط من أن تكون وطنا له؛ ذلك بأن أورطيس الذي رسمه قيروش مرزبانا على سرديس حاول أن يوسع سلطان الفرس ويدخل الجزائر تحته، فعزم على أن يوقع بالطاغية الذي أتى سموس الواقعة أمام حكومته قوة ومنعة، فأرسل إلى بوليقراطس سرا رسولا يخبره عنه بأنه مهدد شخصيا بغضب قمبيز البالغ حد الصرع، وأنه يريد أن يودع ماله مكانا أمينا ويرجو السيد أن يقبل إيداعها عنده، ولكيلا يتظنن في قوله طلب إليه أن يرسل ثقة له ليريه خزائنه المملوءة بالذهب المضروب، على شريطة أن يبقي نصف المال للمرزبان والنصف الثاني يكون لبوليقراطس ينفقه على مشروعاته الواسعة المدى إلى حد فتح إغريقا كلها.
لم يطق شره بوليقراطس صبرا، فأرسل أمين أسراره مندريوس إلى «سرديس» ليحقق خبر كنوز أورطيس الذي خدع الرسول وأراه صناديق مملوءة حجرا مغطاة سطوحها بالذهب، فرجع الرسول إلى سيده وقرر له ما رأى، ففرح بوليقراطس وعول على أن يذهب بنفسه لإحضار الذهب، وعبثا حاول أصحابه وعائلته منعه، حتى لقد كان منه أن هدد ابنته بألا يزوجها إلا بعد زمن طويل حين تشبثت بمنعه وقت ركوبه الفلك. ومضى وفي صحبته عرافه المدعو هيلي الذي لم يصل علمه إلى كشف هذه الأحبولة. فلما وصل إلى حيث ينتظره أورطيس أمر الغادر بالقبض عليه وصلبه. ومع أن هيرودوت لم يكن به مظنة ضعف للطغاة فإنه رثى لحال بوليقراطس الذي كان من العبقرية والسؤدد بحيث لا يستحق هذه الميتة الشنعاء.
وكان في معية بوليقراطس في هذه السفرة المشئومة - غير ذلك العراف المغفل - ديموكيد الطبيب الشهير من قروطون الذي وقع هو أيضا بهذه الأحبولة في الرق، ثم دعي بعد ذلك بقليل إلى بلاط دارا ليعالجه من التواء مفصلي أصابه، وذلك حين أمر دارا مهلك المجوس بقتل أورطيس لارتكابه فظائع لا مصلحة في ارتكابها.
13
لما خلت سموس من بوليقراطس لم تستأخر عن الوقوع في قبضة الفرس؛ لأن الطاغية لما ذهب إلى حيث لقي حتفه كان قد خلف على الجزيرة أخاه مندريوس الذي هو أقل كفاية من أن يلي الحكم، وجاءت جنود أوطانيس المرزبان الجديد تحت قيادة سيلوسون أخي بوليقراطس الذي نال حظوة عند دارا بسبب أنه عرفه في مصر حيث منفاه، فهرب مندريوس وترك الجزيرة، فتولى أخوه شاريلاوس قيادة الحامية، وبعد مقاومة عنيفة سقطت الجزيرة في أيدي الفاتحين، ودخلها سيلوسون فوجدها خلوا من سكانها.
ولما انتصر دارا على بابل بفضل إخلاص زوبير وجه قواه إلى محاربة السيتيين، فصنع له مندروكليس المهندس السموسي القنطرة المشهورة التي عبر عليها جيشه بغاز البسفور، وهي قنطرة من المراكب لم يكن طولها أقل من أربع غلوات؛ أي نحو 800 متر، ولا بد أن يكون اتخاذ مثل هذه القنطرة من أصعب ما يكون، وكانت واقعة - على رأي هيرودوت - بين بيزنطة وبين معبد قائم على مصب البسفور. ولكي يخلد هذا الملك العظيم ذكرى هذا العمل أغدق على المهندس السموسي نعمه، وأقام عمودين على جانبي الشاطئ كتب عليهما باللغتين اليونانية والآشورية. وقد رسم مندروكليس في معبد جونون لوحة تمثل القنطرة وجيوش الفرس تعبر فوقها تحت نظر دارا جالسا على عرشه. وقد شفع دارا جيشه البري بأسطول عظيم يقوده اليونان والأيوليون وفريق من أهل هلسبون، وأمر الأسطول أن يدخل البحر الأسود، ثم يدخل مجرى الدانوب ونهر الاستر، ويقيم قنطرة على النهر في محل تفرعه الأول إلى عدة فروع. واتجه دارا بجنوده في البر من تراقيا إلى تلك النقطة، وكانت عدة جنوده البرية سبعمائة ألف مقاتل وعدة سفن أسطوله ستمائة سفينة، وكانت هذه الجيوش البرية والبحرية مؤلفة من جميع الأمم التي تشملها مملكة الفرس المترامية الأطراف من شواطئ آسيا الصغرى إلى الهندوس.
وتقدم الملك العظيم - على بعد الشقة وصعوبة المسالك - في طريقه بين تلك الأمم الجافلة التي كانت تولي الأدبار أمامه وتستدرجه شيئا فشيئا إلى مفازاتها الواسعة وتلك المهامه التي لا تجاز، كما وقع في أيامنا هذه لفاتح آخر ليس أكثر منه بصرا بالعواقب ولا أقل منه نحسا في الطالع. وقد عني دارا في انتصاراته الموهومة بأن يقيم في طريقه أعلاما وأعمدة نقش عليها بالعبارات الفخمة: «إخضاع الجيتيين». وكان يبني آثارا سهلة البناء؛ فإنه أمر بأن يلقي كل جندي من جيشه العرمرم وهو سائر حجرا في مكان معين، فيجتمع من هذه الحجارة أكمة عظيمة يخيل أنها هرم.
ولقد وجد جيش دارا حتى في هذه المجاهل بعض آثار النفوذ الإغريقي، فإن أولئك الرحل الذين كانوا يعبدون «ذالمكسيس» الذي كان - كما يقال - عبدا لفيثاغورث بن منيزارخس في سموس، والذي بعد أن صار حرا وغنيا عاد إلى مواطنيه بشتات من المدنية الهلينية؛ إذ نقل إليهم شيئا من عقائد سيده العالم، غير أن هيرودوت لم يقبل هذه الرواية، وردها بأن «المكسيس أوغيبليزيس» كان أقدم من فيثاغورث بكثير، وأن فيثاغورث أعجب بحكمته العالية،
14
Bog aan la aqoon
ولكن تلك الرواية المشهورة مهما كانت كاذبة تدل على الأقل على ما لاسم الفيلسوف من الاحترام منذ تلك الأزمان، فإليه تنسب الثقافة الأخلاقية والإصلاح الموفق الذي - وإن لم يتم - كان سببا في التهذيب من حال أهل تراقيا المتوحشين.
على أن دارا لما وصل إلى المحل المعين على نهر الدانوب، وجد اليونان نفذوا أمره بإقامة قنطرة المراكب، كما أقاموا قنطرة البسفور. ولما عبر الجنود النهر أراد دارا رفع القنطرة حتى يتبعه الإغريق في غزوته، ولكن قويس - رئيس المتالنة - كان لحسن الحظ أسد رأيا من الملك؛ فإنه وصل إلى إقناعه ببقاء القنطرة؛ لأنها طريقه الوحيد عند التقهقر، وعلى ذلك أمر دارا اليونان أن ينتظروه ستين يوما فإن لم يعد في هذه المدة هدموا القنطرة وسافروا.
حدث ما كان سهلا توقعه؛ فإن جيش دارا بعد أسفار نحو الشمال متعبة عديمة الفائدة اضطر إلى أن يعود خاسرا تاركا مرضاه وجرحاه، وكانت حاله حال ذلك الجيش العظيم سنة 1812 الذي كان في تلك البلاد تقريبا يقاتل أولئك الأعداء أنفسهم الذين خدعوه الخديعة عينها.
ولما انتصر السيتيون على دارا من غير حرب تقدموه إلى قنطرة الدانوب، وكان دارا سيلاقي ما لاقى نابليون في عبور نهيربير يزينا لولا أمانة الإغريق الذين وكل إليهم حراسة القنطرة، فإن السيتيين حرضوهم على كسرها قائلين: إن ميعاد الستين يوما قد مضى، وإنهم قد أوفوا بعهدهم، وقد نصح لهم ملتياد الآتيني - الذي كان قائد أهل شرسنيز وهلسبون وطاغية عليهما والذي صار بعد ذلك فاتح مرطون - أن يهدموا القنطرة وينسحبوا إلى بلادهم، وبذلك يهلك الجيش الفارسي ويسترد اليونان حريتهم، وكانت نصيحته ستجد آذانا صاغية، ويكون لها من الأثر ما لم يكن لإغراء السيتيين، لولا أن اجتمع رؤساء اليونان وقرروا بناء على رأي هستيا الملطي أن ينتظروا دارا ويخلصوه، وكان مع هستيا من رءوس اليونان سطراطيس الشيوزي وأوسيز السموسي ولودامس الفوكي، وكان أرسطاغوراس الكومي وحده رئيسا للأيوليين.
ولم يكن الوفاء بالعهد هو الذي حمل أولئك الرؤساء على هذا القرار الغريب، بل هي المصلحة الشخصية؛ فإن هستيا لم يصادف عناء في إقناع زملائه الذين مصلحتهم كمصلحته بأنهم إذا فقدوا تأييد الفرس لهم لم يلبث واحد منهم سيدا على مدينته التي يحكمها، بل إن الأمة متى تخلصت من حكم الأجنبي تسارع إلى حكم الديموقراطية، وتحرم رؤساءها الحاليين كل سلطان عقابا لهم على قبولهم المزايا التي خصهم بها الملك الكبير، وقد رجح لدى الرؤساء هذا الرأي، وأمكن لدارا - وقد اقتفى السيتيون أثره - أن يفر منهم بعبور النهر.
ماذا كان عساه أن يقع لو أن اليونان كسروا القنطرة وهلك بذلك دارا وجنوده؟ تكون داهية دهياء على مملكة الفرس من غير شك، ولكن هذه الضربة مهما كانت خطورتها لا تكون هي القاضية؛ لأن هزائم مرطون وسلامين وبلاته لم تكن لتكفي لهذا الغرض، حقا ربما كانت يونيا تستطيع أن تتنفس من ضيق الخناق بعض الزمن وتسترد استقلالها، ولكن إغارة جديدة أكثر حدة بالضرورة من سابقاتها ترجعها إلى الخضوع، فلم يكن حان الوقت لسقوط الفرس الذين كانت أمتهم وقتئذ في قوة الشباب وطور النمو الأول، ولكن هذا لا ينفي الإجرام عن أنانية الرؤساء اليونان؛ فإنهم كانوا يستطيعون البقاء على عهد دارا بأسباب أشرف من الأسباب التي اتخذوها.
لما وصل دارا إلى سستوس ركب البحر إلى آسيا وخلف مغباز على الجنود في أوروبا، وليفتح تراقيا ومقدونيا، وبعد قليل دعي مغباز إلى صوص، وكذلك هستيا الذي ظهر أن من عدم التبصر تركه وحده في تراقيا، حيث أقطعه دارا إقطاعات واسعة في مرسينة جزاء له على خدمته.
ولقد منيت بلاد اليونان بجهد جديد ومصائب جدد تتخمر في باطنها؛ فإن هستيا لما ترك ملطية نزل عن السلطة إلى أرسطاغوراس صهره وابن عمه، فجاء إلى هذا الأخير بعض المنفيين من نكسوس يستنجدونه، وأحس من نفسه قلة الحول في أن يقوم بمشروع فتح نكسوس وحده، فرجع في الأمر إلى أرتافرن أخي دارا ومرز بأنه على سرديس وجميع تلك الجهات التي هي أول مرزبانية في المملكة، فطمع أرتافرن في الاستيلاء على نكسوس وما يليها من مدن السكلاد، وحصل من دارا على الإذن بتسيير مائتي سفينة تحت تصرف أرسطاغوراس، ولكن الشقاق قد دبت عقاربه بين الأحلاف؛ فاستطاعت نكسوس أن تدافع عن نفسها وأن تصد هجمات محاصريها وتردهم بالخيبة بعد حصار أربعة أشهر؛ وعلى ذلك لم يوفق أرسطاغوراس إلى تحقيق شيء مما وعد به مرزبان سرديس، فخاف من ذلك على سلطانه الخاص، وعقد العزم على ألا يكون نصف مذنب؛ فغلظ ذنبه، وأوقد نار ثورة صريحة دفعه إليها أيضا سلفه هستيا الذي كان لا يزال في صوص عند الملك الكبير، ولكي يجذب قلوب الملطيين إليه نزل عن حكومة الطغيان، ورتب بدلها حكومة الشعب، ودعا المدائن اليونانية الأخرى إلى العصيان، فاستجابت لدعائه وطردت جميع الطغاة الذين نصبوا عليها تنصيبا.
إن ما أتاه أرسطاغوراس من الإقدام الكبير كان بعد استشارة أصحابه، فأما هيقات الملطي المؤرخ فكان رأيه ألا يوقدوا نار الحرب في الحال وليس لديهم المال الضروري، فلما لم يستطع الإقناع برأيه ألح في وجوب توجيه كل قواهم نحو البحر، بفكرة أنهم فيه أقدر على الهجوم منهم في البر، ولهذه الغاية نصح بأن يأخذوا جميع أموال كريزوس التي جمعها في معبد البرنشيد، ولكنهم أصموا آذانهم عن الاستماع لهذا الرأي السديد، وأصروا على الثورة على أي حال، وكان أرسطاغوراس يشعر تماما بضعف يونيا فذهب إلى إسبرطة ليتخذها حليفة له.
ولقد عني أرسطاغوراس ليزيد كليومين - ملك إسبرطة - علما بحقيقة مشروعاته بأن يبين له في أثناء المفاوضة مواقع البلاد التي كانت موضوع الحديث، وهي ليديا وفريجة وقبادوس وفارس ... إلخ، بينها له مرسومة على صحيفة من النحاس حملها معه، وكان وقتئذ من أحدث ما يكون رسم خريطة جغرافية. ويظهر أن أنكسيمندروس هو صاحب هذا الاختراع البديع، ولكن كليومين لم يفه إلا بسؤال واحد: «ما هي المسافة بين بحر يونيا وبين المحل الذي يقيم فيه الملك؟» فأجابه ببساطة: «مسير ثلاثة أشهر.» وكان ينبغي لأرسطاغوراس أن يحسب وقع هذا الجواب في نفس رجل إسبرطي؛ لأن كليومين بعد أن سمع هذا الجواب أمر نزيله أن يبرح لقدمونيا قبل غروب الشمس، ورفض مع الازدراء المال الذي حمله إليه ليحاول إغواءه به.
Bog aan la aqoon
وكان ما قاله أرسطاغوراس عن المسافة حقيقة واقعة؛ فإن هيرودوت قد عدد بالضبط والعناية المائة والإحدى عشرة محطة الواقعة على الطريق الجميل الذي أنشأه دارا من سرديس إلى صوص على نهر كواسب أو كراسو البعيد جدا من مدينة بابل نحو الشرق، فكان 13500 غلوة أو 450 برزنجا، والبرزنج هو في المتوسط 30 غلوة، أو بعبارة أخرى 600 فرسخ، فكان لا بد للقيام بمشروع ضخم كهذا عبقرية إسكندر ومائتا عام حرب على مملكة الفرس الضخمة، ولم يكن لكليومين من خلقه ولا من زمانه ما يجرئه على معاناة أمثال هذه المشروعات.
ولما فشل أرسطاغوراس في إسبرطة قصد آتينا؛ لأنها صارت شيئا فشيئا أقوى مما كانت عليه منذ قلبت طغيان البيزستراتيين، وأخذت ترسل السفراء إلى أرتافرن مرزبان سرديس حتى لا يصغي إلى مزاعم هيبياس الذي التجأ إليه. ولما لم ينجح أرسطاغوراس في استمالة كليومين، ونجح في استمالة سكان آتينا، وعدتهم ثلاثون ألفا - كما ذكره هيرودوت بعبارة ملؤها التهكم؛ إذ ذكرهم بأن ملطية كانت مستعمرة لأجدادهم - فتقرر أن يرسلوا إلى يونيا عشرين سفينة لنصرتها، وكان ذلك - كما رواه أيضا هيرودوت - بداية الحرب التي فيها لبست الجمهورية حلل الفخر بتخليص الإغريق، والتي فيها لاقت دولة الفرس هزائم قاسية كانت طلائع لخرابها العاجل. وقد حمل أرسطاغوراس البيون أيضا على الثورة، وهم أولئك الذين أخرجوا من ضفاف إستريمون إلى فريجة بأمر دارا، وهربوا منها إلى شيوز، وسافروا من شيوز إلى لسبوس، ومنها إلى دوريسكوس، ومنها عادوا إلى بلدهم الأصلي.
لما وصلت السفن العشرون إلى إيفيزوس وانضم إليها خمس سفن أخرى من إريتريا، لاقوا إخوة أرسطاغوراس يقودون جند ملطية؛ لأن أخاهم أقام بالمدينة يباشر بنفسه حركة التعبئة، وقد ترك الجيش البري الأسطول في مياه إيفيزوس وتقدم هو على ساحل «قايستر» يجوس خلال طمولوس حتى وصل إلى سرديس، فأخذها من غير حرب تذكر وحرقها بغاية السهولة؛ لأن سطوح منازلها مغطاة بالقصب اليابس. ولم يتمكن أرتافرن إلا من الاستعصام هو وجنوده بالقلعة، وقد انزعج الفرس والليديون لما رأوا المدينة غنيمة النار، ولكنهم استجمعوا شجاعتهم وخرجوا إلى المحاربين وثبتوا أمامهم حتى اضطروهم إلى التقهقر نحو الشاطئ، ونهض الفرس المرابطون على الهالوس إلى المعركة فلم يجدوا اليونان في سرديس؛ فاقتفوا آثارهم إلى إيفيزوس حيث نالوا منهم نيلا في واقعة كبرى.
ولقد أخذ اليأس من الآتينيين كل مأخذ من جراء هذه الهزيمة؛ فانسحبوا على رغم رجاء أرسطاغوراس وإلحاحه، ولكنه هو لم ييأس، بل اعتمد على جنوده الخاصة وعلى مساعدة مدن هلسبون وقاريا وجزيرة قبرص العظيمة، وإذ ذاك كان أونيزيلوس طاغية سلامين منتقضا على الفرس.
لما علم دارا بما أتاه الآتينيون من المشاطرة في إحراق سرديس أقسم أن ينتقم منهم ويجزيهم على هذه الإساءة شر الجزاء، وأرسل هستيا بديا ليعيد اليونان إلى الطاعة بفضل دسائسه، ولم تكن مع ذلك أحوال اليونان بخير، بل إن قبرص سلمت بعد مقاومة شديدة، وقاريا التي كانت ثائرة ردت إلى الطاعة، وكلازومين سقطت في قبضة أرتافرن وأوطانيس، وكذلك سلمت كومة أوليد، فلم يستطع أرسطاغوراس احتمال هذه الخيبة؛ فانزوى في مرسين بلد حميه هستيا، وكان هيكاط الملطي يرى أن الأوفق لهم الالتجاء إلى جزيرة ليروس حيث يمكنهم البقاء حتى يعودوا إلى ملطية في الوقت المناسب. ولما سافر أرسطاغوراس إلى تراقيا قتل أمام قلعة وهلك جيشه.
ولم يكن حظ هستيا بأحسن حالا من ذلك؛ فإن أرتافرن تظنن في أمره، واطلع على دسائسه ففر بعد عناء من سرديس إلى جزيرة شيوز فانتبذوه بفكرة أنه صنيعة الفرس، ولكنه بعد ذلك كسب جاذبيتهم بأن أظهرهم على ما فعل لإقامة ثورة اليونان؛ فحملوه إلى ملطية حيث قابله أهلها بفتور؛ لأنهم بعد أن نالوا حريتهم كانوا يخشون أن يعيد إليهم أيام طغيانه، ولما نفي من وطنه حصل من أهل لسبوس على بعض السفن يطوف بها جهة بيزنطة ينهب أموال الذين لا يريدون أن ينضموا إليه.
أخذت العاصفة التي أثارتها ثورة أرسطاغوراس تهمي على رأس يونيا التي لم تتقهقر أمام هذا الخطر المزعج. انعقد البانيونيون وقرر الحرب، ولم تكن هناك فكرة في حرب برية؛ فلم يؤلف جيش ما، وعولت ملطية على أن تتفرد بحماية أسوارها التي يهددها العدو، ولكنهم رتبوا أسطولا عظيما تجتمع سفنه في لادي؛ وهي جزيرة صغيرة قبالة ملطية، فاجتمعت إليه السفن من كل ناحية؛ حتى إن الأيوليين أرسلوا سبعين سفينة فكان الملطيون ومعهم ثمانون سفينة في الجناح الأيمن جهة الشرق، وكان مع البريينيين اثنتا عشرة سفينة، ومع الميونتين ثلاث، ومع أهل طية سبع عشرة، ومع الشيوزيين مائة سفينة، ومع الأريتريين ثمان، ومع الفوكيين ثلاث فقط كالميونتين، وكان مع أهل سموس في آخر الجناح الأيسر إلى جهة الغرب سبعون سفينة، فكان هذا الأسطول الكبير العدد في طاقته أن يقاوم حلفاء الفرس الذين هم الفينيقيون والقبارصة والصقليون والمصريون. ولكن تسلل الشقاق بين اليونان، وحقد بعضهم على بعض حتى يوم الوقيعة؛ فلم يتناصروا كما ينبغي. وكان السموسيون واللسبوسيون أول من فر من حومة القتال. ويكاد الشيوزيون أن يكونوا وحدهم هم الذين صلوا سعير الحرب وقاموا بواجبهم، ولكنهم كانوا أضعف من ألا يهزموا، وختمت الحرب بهزيمة تامة.
وكان دينيس - رئيس الفوكيين - بطلا مغوارا، وكانت عزيمته بحيث يضمن الظفر لو أطاعوا أمره، فلما انهزم لم يجد مناصا من الهرب على شواطئ فينيقيا، ومن هناك إلى صقلية حيث يشن الغارة على القرطجنيين والطرهينيين.
بعد هزيمة لادي حوصرت ملطية برا وبحرا؛ فأحسنت الدفاع عن نفسها، ولكنها أخذت عنوة بعد حصار مهلك؛ فذبحت رجالها وسبيت نساؤها وأطفالها، وسيق بهم أرقاء بأمر دارا إلى مصب نهر دجلة، واحتل الفرس المدينة والسهل الذي يحيط بها، وأعطوا بقية ما كان يتبعها من الأرض إلى بيدازيي قاريا. أما آتينا التي تخاذلت عن ملطية وتركتها، فإنها ألمت لمصائبها التي هي نذير بمصائب أدهى وأمر. ولقد صاغ هذه الواقعة المحزنة الشاعر المأسائي فرينشوس في رواية تمثيلية أبكت جميع شهود تمثيلها؛ فحكم على الشاعر بتغريمه ألف درهم، ومنعت الرواية منعا باتا.
ثم قصد الفرس جزيرة سموس، فلما رآهم أهلها ومعهم أقيس بن سيلوزون طاغيتهم القديم الذي كان نفاه أرسطاغوراس تفرسوا ما سينزل بهم القدر؛ فاستحبوا الرحيل من أوطانهم على أن يحتملوا ظلمه مرة أخرى؛ فهاجروا من جزيرتهم إلى قلقطة حيث كان يدعوهم إلى صقلية أهل زنكل. وكان السموسيون هم وحدهم اليونان الذين هاجروا هذه المرة هم والملطيون الذين استطاعوا أن يفروا من المذبحة. ودخل أقيس سموس تحت حماية الفرس الذين استثنوا معابد هذه المدينة وحدها من الإحراق اعتدادا بجميل السموسيين الذين تخاذلوا عن إخوانهم يوم لادي.
Bog aan la aqoon