أقول: إن الموجود ليس كذلك متكثرا؛ لأنه ما دام ليس واحدا لا يمكن بعد أن يكون كثرة، وفي الحق إن كثرة لا تتألف إلا من تركب الوحدات، ومتى نفيت الوحدة انتفت الكثرة حتما.
حينئذ على ما تقدم كله يرى جليا أن الموجود ليس أكثر وجودا من اللاموجود، ويمكن أن يستنتج منه أن الموجود ليس كذلك الموجود واللاموجود معا. إذا كان الموجود - في الحق - هو ما يوجد وما لا يوجد؛ فحينئذ اللاموجود يتحد مع الموجود في أمر الوجود؛ ومن ثم لا يوجد لا أحدهما ولا الآخر. فأما أن اللاموجود لا يوجد فهذا موضع اتفاق جميع الناس، ولكن قد قرر آنفا أن الموجود يتماثل مع اللاموجود؛ فالموجود إذن ليس يوجد كذلك، ولكن إذا كان الموجود مماثلا للاموجود فلا يمكن أن يكون الاثنين معا، فإذا كان الاثنين معا فلا يكون مماثلا، وإذا كان مماثلا فلا يكون الاثنين، وينتج منه أن الموجود هو لاشيء؛ لأنه إذا لم يكن لا الموجود ولا اللاموجود ولا كليهما - ولا شيء وراء ذلك - فذلك بأن الموجود ليس شيئا.
الآن يلزمنا أن نوضح أنه إن كان من شيء فذلك الشيء غير معروف للإنسان، وأن عقله لا يمكن أن يفهمه. يقول غرغياس: إذا كانت تصورات عقلنا ليست موجودات فالموجود لا يمكن أن يتصور، وذلك بسيط كل البساطة. وفي الحق، كما أنه إذا كانت الأشياء التي نتصورها بيضاء هي في الحقيقة متصورة بيضاء، فكذلك الأشياء المتصورة ليست موجودات، فينتج منه بالضرورة الحتمية أنه لا يمكن أن تتصور موجودات حقيقية. وهذا دليل صحيح تام الصحة ومنتج جد الإنتاج؛ فإذا كانت الأشياء المتصورة ليست موجودات فالموجود لا يمكن أن يتصور الأشياء المتصورة ليست موجودات كما سنقرره، وذلك فرض أول ينبغي التسليم به. إذن الموجود ليس متصورا، فأما أن الأشياء المتصورة ليست موجودات فذلك ما هو بين بذاته؛ لأنه إذا كانت التصورات هي الحقائق فحينئذ كل ما يتصور يوجد وعلى الوجه الذي تصور به أيا كان هذا الوجه. وهذا هو سخيف بالبداهة، وافتراضه غير معقول بالمرة، مثال ذلك: إذا شاء المرء أن يفترض إنسانا يطير في الأجواء وعربات تدرج على الأمواج، فلا ينتج من ذلك وحده أن الإنسان يستطيع أن يطير والعربات تدرج على أمواج البحر. على هذا فالتصورات التي تتصور ليست حقائق.
يلزم أن يزاد على هذا أنه إذا كانت الأشياء المتصورة موجودات فينتج منه أن الأشياء التي ليست موجودة لا يمكن أن تتصور؛ لأن الخواص المتضادة تتعلق بالأضداد. واللاموجود هو نقيض الموجود، فإذا كان إذن الموجود يمكن أن يتصور كما قد يعتقد فينتج منه أن اللاموجود لا يمكن أن يتصور . وهذا سخف؛ لأن الإنسان يتصور «سيعلا» و«الشيمير» وأشياء شتى أخرى ليس لها وجود ما؛ إذن الموجود ليس متصورا، وكما أن الأشياء المرئية هي بذلك يقال عليها إنها قابلة لأن ترى وأن الأشياء المسموعة يمكن أن يقال عليها إنها قابلة لأن تسمع؛ لأن الإنسان يسمعها، وأن المرء لا ينكر الأشياء المرئية؛ لأنه لا يسمعها، كما أنه لا ينكر الأشياء القابلة لأن تسمع بحجة أنه لا يراها، فإن كل واحد من هذه الأشياء يجب أن يحكم عليه بحاسته الخاصة لا بحاسة أجنبية، كذلك الأمر في الأشياء المتصورة؛ لأنه لا يمكن أن ترى بالنظر ولا أن تسمع بالسمع ما دام أنها مدركة بالحاسة الخاصة بها. وبالتبع إذا كان امرؤ يتصور العربات تدرج على المياه ولا يراها فلا يلزم منه إنكار أن العربات تدرج على الماء. ولكن هذا سخف؛ وإذن فالموجود ليس متصورا ولا يمكن أن يفهم.
ولكن بافتراض أنه يفهم فلا يمكن نقله إلى الغير، وفي الحق إن الموجودات التي يمكن للمرء أن يراها ويسمعها - وعلى وجه العموم أن يحسها - هي مفروضة خارجة عنا ومن بينها المرئيات مدركة بالنظر وما يمكن سمعها مدركة بالسمع دون أن يكون ألبتة عكس ممكن. فكيف يمكن حينئذ التعبير عنها للغير. وفي الواقع إن طريقة الإيضاح التي عندنا هي الكلام، والكلام ليس هو الأشياء نفسها ولا الموجودات؛ إذن ليست الموجودات هي التي نعبر عنها للغير، بل هو الكلام وحده الذي هو على الإطلاق خلاف الحقائق أعينها. وإذن فكما أن المرئي لا يمكن أن يصير قابلا لأن يسمع وعلى التكافؤ، فكذلك الموجود المفروض أنه خارج عنا لا يمكن أن يصير هو كلامنا. وبما أن الكلام ليس موجودا فليس من الممكن التعبير عن شيء ما للغير. وفي الواقع إن المقالة - كما يقول غرغياس - لا تتألف إلا من أشياء خارجية تأتي فتقع في ذهننا، أعني أشياء تدركها حواسنا.
وعلى هذا فعلى أثر تسلط ذوق ما في الأشياء المذوقة يتكون عندنا الكلام الذي نعبر به عن هذا الكيف الخاص. وتبعا لتدخل اللون يتكون الكلام الذي نعبر به عنه؛ فإذا كان هذا هكذا فليس الكلام هو الذي يمثل ما هو في الخارج، بل هو الشيء الخارجي الذي يعين الكلام. لا يمكن أن يقال: إن الكلام هو على الوجه الذي عليه الأشياء المرئية أو المسموعة بحيث إن الكلام بافتراضه يمكن أن يستدل به على الموجودات والموضوعات الخارجية. يقول غرغياس: لأنه إذا كان الكلام هو أيضا موضوعا فهو يختلف بالأقل عن جميع الموضوعات الأخرى. ومثال ذلك أية مسافة لا تكون بين الأشياء المرئية وبين الكلمات التي نعبر عنها؟ وفي الحق إنه إنما يختلف العضو الذي تدرك به الأشياء المرئية والذي يدرك به الكلام الذي يعبر عنها. وعلى ذلك فالكلام لا يمكن أن يبين الجزء الأعظم للأشياء الخارجية بذواتها، كما أن أكثر الأشياء لا يمكن على التبادل أن يبين بعضها طبع البعض الآخر.
تلك هي أدلة غرغياس التي هي على قدر قيمتها تفسد كل مقياس للحق؛ لأنه ليس بعد من مقياس ما دام أن الموجود ليس موجودا، وأنه لا يمكن أن يعلم، وأنه ليس قابلا لأن ينقل علمه إلى الغير.
راجع أيضا
Hypotyposes Pyrrhoniennes
ك2 ب6 ف57 و59 و64، ص134 و136 من طبعة سنة 1842.
Bog aan la aqoon